عند وصولنا إلى الشارع الرئيسي لمدينة مليانة وجدناه محفوفًا بأشجار تمنع ظلالها الإسفلت من أن يصبح جمرًا. في ساحة وسط المدينة تمثال لـ علي عمار، الشهير بـ “لا بوانت” بطل معركة الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي وأصيل المدينة، يحمل رشاشًا وعلى يمينه شرفة تطل على الجبال المحيطة. على يسار التمثال بائع سجائر يستظل جالسًا على كرسي ويشاهد فيديو ما على هاتفه. نقترب منه فيقف. نشتري علبة L&M دون أن نسأله شيئا فيدلو بدلوه في حديث الساعة هنا وفي الجزائر كلها: مقتل الشاب جمال بن سماعين.
ينفعل البائع فيتفوه بعبارات تلوم منطقة القبائل كلها على الجريمة. يأتي زبون آخر فيؤكد أن قوارير البيرة الزجاجية المرمية باﻷطنان في غابات القبائل هي سبب الحرائق، فيجيبه البائع أن مليانة منطقة غابات، وهو يعرف أن عدم تنظيف الغابات دوريا، ومنذ سنوات الإرهاب، يُساهم في اشتعالها مع موجات الحر.. لكن الوضع تعدّى حرائق الطبيعة إلى حرائق البشر.
نسأل البائع عن مكان بيت المرحوم فيدلنا. في الطريق نمر على ثلاثة أشخاص واقفين تحت شمس منتصف النهار التي تلسع جباههم، يحملون صور جمال بن سماعين ويطالبون بالعدالة، سيتبين لنا لاحقًا أنهم ليسوا من العائلة ولا من الأصدقاء بل فقط من سكان المدينة.
قبل ذلك بقليل، كنا على الطريق، اقتربت مليانة (115 كلم جنوب غرب العاصمة) من السماء فكادت تلتهب في هذا الصيف البائس. المدينة معلّقة أعلى جبل الزكار، اسمه من اسمها القديم “زوكابار” وقت الرومان. تخفي جمالها وجمال محيطها، حياؤها من حياء أبنائه وتواضعها من تواضعههم وهي إحدى أقدم مدن الجزائر.
عرض ترمومتر السيارة 48 درجة منبئًا باكتواء شوارع سنطأها وقلوب ستدمع الأعين معها. نشتري قوارير ماءٍ بارد سرعان ما يصير دافئًا، غير أن الدروب الجبلية الفاتنة، التي بقيت مغلقة لسنوات وقت الإرهاب، تُنسينا القيظ بعض الشيء.
ذهب لإطفاء النار..
أسفل العمارة حيث تقع شقة عائلة الضحية نُصبت خيمة عزاء، ولازال الأقرباء والأصدقاء يستقبلون المعزين الوافدين من كل مكان، خمسة أيام بعد الجريمة. يقدمون الماء البارد ويلحّون عليهم بالجلوس وتناول المشروبات أو الطعام. يظهر عمر، شقيق جيمي (كما يناديه أصحابه) التوأم، من تارة لأخرى يسأل عن بعض الأمور التنظيمية أو يمد يد العون وفي معصمه جرح لم يلتئم بعد، أصيب لما ضرب نافذة زجاجية لحظة تلقيه النبأ.
ويقف نور الدين، والد جمال، يستقبل الزوار ويستمع مبتسما لكلمات وحكايات عن كرم جمال ممن عرفوه، جاؤوا ليعزوه فوجدوه يواسيهم في مقتل فلذة كبده.
تبدأ القصة أيامًا قليلة من اندلاع حرائق الغابات في منطقة القبائل، (100 كلم شرق العاصمة)، وبالتحديد ليلة الثلاثاء 10 أغسطس. استلف جمال بن سماعين مبلغًا زهيدًا من المال ليتبرع به للمتضررين من حرائق الغابات في منطقة القبائل، فابن الستة وثلاثين عامًا لا يعمل ورأس ماله قيثارة، لا يملك سيارة ولا رخصة سياقة.
تنقل الموسيقي والرسام من مليانة إلى لاربعا ناث إيراثن بولاية تيزي وزو ليلة الثلاثاء فور سماعه بحاجة المنطقة إلى المساعدة في إطفاء الحرائق إثر استفحال ألسنة النار ذلك اليوم وقتلت العشرات.
أبى جمال أن ينقص من المبلغ ليصرف على النقل فسافر مستوقفاً سيارات على الطريق. “نروح نعاون صحابي نطفو النار“، كانت هذه آخر كلمات سمعها محيطه منه مباشرة تلك الليلة. انضم جمال لآلاف المتطوعين الذين تنقلوا إلى المنطقة للمساعدة في إطفاء الحرائق إضافة إلى مئات قوافل المساعدات القادمة من كل ولايات البلاد، في منظر تضامني باهر ظهر أنه سيدفن للأبد الحساسيات بين “العرب” و”القبائل” استثمر فيها وغذّاها مغامرون سياسيون من الجهتين في السنوات الماضية بخطابين متوازيين يحملان في طياتهما بذور الفاشية.
ظهر جيمي في اليوم التالي في حوار أجراه معه موقع إخباري، يتحدث من قلب الحدث عن هول الحرائق ويدعو الجزائريين إلى التضامن مع منطقة القبائل.
أنجبت مليانة أسماء لمعت على مرّ القرون، شعراء وفقهاء جعلوا منها محجًا للعلم والثقافة. وقبل علي عمار بطل حرب التحرير أنجبت مناضلين خدموا الحركة الوطنية، كمحمد بوراس مؤسّس الكشافة الإسلامية الجزائرية. هنا، في هذا الحي الواقع بين ضريح ولي صالح يدعى “بوقمين” ومقبرة شهداء مدينة مليانة، ولد جمال بن سماعين، في 23 فبراير 1985، وكبر واستقى من منبته نورًا.
حكايات عن جيمي
خلف عمارة يلفح حر الظهيرة ظلها يجلس بعض أصدقائه وأقربائه يتبادلون ذكر المرحوم وخيمة العزاء فرغت مؤقتًا. يستخرج صديقه أمين هاتفه ويعرض صورا لقناع أفريقي صنعه جمال من حطب وجده أيامًا قبل موته، نزع سوارًا كان يلبسه وجعل منه أنفًا، ثم وضع ورقتي شجر وفي كل واحدة حصاة سوداء.. فأبصر التمثال.
يحكي أحد أقربائه أن جمال كان يحب الأطفال حبًا كبيرًا، دائما ما يشتري لهم الحلوى ويلعب معهم ساعات طويلة في حين يمل أغلب الناس في غضون دقائق.
ويتكلم آخر عن ولع جيمي حين يتحدث عن الطبيعة والأشجار والحيوانات. غالبًا ما يتحدث المقربون وغير المقربين عن الميت بإيجابية من باب “اذكروا محاسن موتاكم”، لكن هالة ما تحيط بذكرى جمال وتؤكدها فيديوهاته على التيك توك.
يرسم كل هذا صورة لدرويش بوهيمي كاد أن يكون نبياً، يكتب أغنية لقط اسمه “سيزار” ويغنيها ويهديها لكل حيوانات العالم، يسجل فيديو مع أطفال مهاجرين من بلدان الساحل يعلمهم الحروف الأبجدية في الشارع، يلعب مقطعًا على جيتاره يحث من خلاله على الاعتناء بالغابة والحفاظ على الطبيعة.
حرق..
ثم جاء الجرم العظيم. انتشرت إشاعات في الولايات التي مستها الحرائق مفادها أن أشخاصًا يتنقلون بسيارات غير مرقمة ويضرمون النيران في الغابات. تغذت حالة الذُهان هذه من تصريحات لمسؤولين سامين بأن الحرائق مصدرها اجرامي أو “بفعل فاعل” في حين تضررت منها الكثير من بلدان حوض المتوسط هذا الشهر بفعل موجة حر شديدة.
وفي لاربعا ناث إيراثن وقعت شكوك البعض على جمال ساعات قليلة بعد الحوار الذي قدمه. لا نعلم تفاصيل هذا الجزء من الواقعة بعد، لكن الشرطة قالت أن جيمي لجأ إليهم لحمايته فاقتادوه في عربتهم إلى مقر الأمن.
هنا تظهر فيديوهات ما حدث. سيارة شرطة تمشي ببطء وسط جمع يحيط ها ويصرخ. تصل العربة إلى المقر وتدخل الفناء فيتبعها الحشد، تتوقف فيحاول بعضهم فتح الباب والبعض الآخر يضرب على جوانبها ونوافذها.
يحاول رجال الشرطة على قلتهم تهدئة الحشد الهائج المتدافع ومنعه من الوصول إلى جمال بينما يفتح الباب ويتسرب بعضهم إلى المقصورة. بعد لحظات ينسحب رجال اﻷمن ويتركون الرجل يواجه مصيره. يصعد رجل ويطعن جمال عدة طعنات. يسحبه آخرون خارج السيارة. يرفس العديد منهم جسده النحيف الملقى على الأرض ولا ندري إن لازال جسدا أم صار جثة.
يتواصل الرفس والضرب بينما رجلان، اثنان، لا أكثر، يحاولان دفع البعض ومنع الهمجية. يفشلان في مواجهة جموع قررت أن كل شيء مستباح في تلك اللحظة وفي ذلك المكان.
سحلوا الجسد وسحبوه من مقر الأمن إلى الساحة المحاذية وسط المدينة، تحت تمثال بطل آخر لحرب التحرير عبان رمضان (1920-1957) والذي قتله إخوته في الكفاح. نصبوا المحرقة ورموه فيها. أخذوا صور سلفي أمامها. ذبحوا الجثة المتفحمة ونكلوا بها. أبقوا مشهدا من القرون الوسطى كما هو إلى ساعة متأخرة من الليل. وصوروا كل هذا ونشروه على المباشر وبعض التعليقات تهلل لقتل مشعِل النيران. وما قتَل وماحرَق ولكن شُبِّه لهم.
لم يكن أحد يعرف الضحية حينها لكن الجزائريين صُدِموا لهول ما رأوا. ثم ظهر اسمه. ليتبين أن جمال بريء لم يُشعل نارًا؛ ليس هذا فقط بل جاء ليساعد في اطفائها، وفي غضون ساعات قليلة اكتشف الجميع رجلًا عاش فنانًا مسالمًا محبًا للحياة مِعطاءً سخيًا. لم ينم كثيرون تلك الليلة وليال بعدها كلما ظهر فيديو جديد للفاجعة.
حسرة
يقول أمين أنه لم يصدق بعد أن صديقه قُتِل، حتى بعد ثلاثة أيام من دفنه لازال في بعض اﻷوقات ينتظر حدوث “شيء ما” يعيد جمال. يستغرب قريب له أن يحدث أمر مماثل لشخص مثل جيمي. تتسلل لحظات كهذه من حين ﻷخر، لكن المقربين ظهروا صابرين وثابتين وهم لم يدخلوا حدادهم بعد بحكم توافد قوافل من المعزّين.
يشرح أحد الأقارب أن والدة جمال لا تعلم تفاصيل وفاته وهي التي احترق كبدها مرتان، فقد فقدت ابنًا قُتل هو اﻷخر عام 2013. قيل لها فقط أن ولدها ذهب لاطفاء النار فاحترق بها. منعوا عنها الهاتف والتلفزيون، ومنعوا الزائرين من أخذ الصور والبث المباشر من خيمة العزاء أو قربها، فقد ظهر الغرباء الانتهازيين لسبب أو ﻷخر يدعون أنهم أقرباء جمال ويدلون بتصريحات، كما حاول بعض المغامرين السياسيين استغلال القضية.
يتحسّر ابن خالة جمال ويسِر أن أكثر ما حز في نفسه هو بقاء الجثة مرمية في ساحة وسط المدينة إلى ساعة متأخرة من الليل دون أن يتدخل أحد ليغطيها على اﻷقل.. “في كل مدينة صغيرة أو قرية كاين ناس عقلاء تسمع كلماتهم. وين كانوا؟”. ويخبرنا قريب آخر أن البعض أراد صب غضبه على منطقة القبائل سواء قولًا أو فعلًا، لولا كلمة والد الضحية التي أغلقت هذا الباب.
االله يصبركم ياشعب
“القبايل خاوتنا، ماراناش نحوسو على الفتنة. الله يصبركم يا شعب، وراكم عارفين بلي ولدي مات شهيد“. هكذا تحدث نور الدين بن سماعين ساعات بعد مقتل ابنه مطالبًا بالعدالة وفقط، كلمات ارتقت به إلى مصاف أبطال الوطن في نظر الجزائريين. يروي أحد الأقرباء أن فريقًا تلفزيونيًا قدم إلى بيت الضحية ليلة الفاجعة فمُنِعوا من التصوير، غير أن الوالد أصر أن يدلي بتصريح لكي “يطفّي الجمرة”.
لم تكن مجرد كلمات عفوية تنِم عن طيبة قلب الرجل الستيني، المنخرط السابق في وحدات الدفاع الذاتي، (وحدات مدنية مسلحة ضد الإرهاب في التسعينات). بل فهم هذا الرجل الذي تربى في الكشافة.. “والكشافة غرست فينا الروح الوطنية” كما قال، أن مقتل ولده يقع في مفترق طرق خطير قد يُفضي إلى حرب أهلية عرقية، وتحلى بصفاء الذهن وكبده يحترق.
سلام على جمال
في آخر لحظاته الموثقة يظهر جمال داخل مقصورة الاحتجاز في عربة الشرطة، عاري الصدر وكدمات من آثار الضرب على ظهره ووجهه. يطلب الماء من قاتليه فيقول.. “اعطيني نشرب برك ماقدرتش نهدر”، فيُشتَمُ ويتفل عليه. لم يتساءل: “إلهي إلهي لم تركتني؟” بل فكر في ضمير القتلة وحذّرهم.. “ما سمعتوليش، رايح نموت مظلوم”.
بقي وقورًا في وجه الموت فاقترب من أحدهم وقال.. “القبايل رجال مايديروش هكذا”. لن يقوم جمال في اليوم الثالث لكنهم “حزنوا جدا” كما أنبأهم.. “راكم رايحين تندمو”. اقترب جمال الملياني من السماء فاحترق في هذا الصيف البائس. ولن يظهر بعد ثلاثة أيام كما أراد أمين لكنه عاش حياة وارتقى فيها وبعدها.
يستذكر زهير، صديق جمال المقرب، نقاشًا لا ينتهي كان يخوضه مع جمال كلما رآه يجود بالقليل الذي يملكه لمساعدة مهاجر، يقول له: “لازم نعاونو رواحنا وكي يكونو عندنا الدراهم نقدروا نعاونو بزاف ناس، ماشي واحد”. فيرد عليه جمال.. “لالا، أنا نعاون بواش عندي، وراني متأكد بلي يجي نهار وين نقدر نعاونهم الجميع”.
وكدليل على تحقق نبوءة أخرى لجمال، يستطرد زهير قائلًا أن صديقًا له يعمل في جمعية خيرية بين العاصمة وولاية تمنراست، جنوب البلاد اتصل به بعد وفاة جيمي واقترح عليه أن يطلق اسم جمال بن سماعين على قافلة تضامنية كبيرة تنطلق من العاصمة الجزائر نحو تمنراست لفائدة المهاجرين من دول الساحل، علق زهير بأن جمال كان يؤمن بمشاعية الأفعال الفنية والخيرية.
صار جمال قادرًا على مساعدة الجميع. كان جيمي بين أصدقائه وأقربائه فصار فيهم، أصبح في قلوبهم وقلوب ملايين البشر، ارتقى نجمًا في السماء يهتدون بنوره ويستلهمون منه. فسلام على جمال في العالمين.