مريم حداد، الثانية بين خمسة أشقاء، يعيشون جميعاً مع ذويهم في شقة بمنطقة جسر السويس، شرقي مدينة القاهرة؛ لكل منهم عالمه الخاص الذي يخرج منه عندما تجتمع الأسرة في أوقات متباعدة، إما في إحدى حدائق منطقة مصر الجديدة (شرقي القاهرة)، أو على كورنيش النيل.
هذه “الخروجات” لأسرة مريم، ونحو 10 ملايين نسمة يسكنون القاهرة، واجهت تغيّرات خلال الفترة من 2018 وحتى 2021، مع التطوير الذي تقوم به محافظة القاهرة وإداراتها في المساحات العامة، حيث تعرضت 16 حديقة متاحة بتذكرة، لاستقطاع أجزاء منها، لصالح أعمال تجارية. كما خسرت القاهرة خلال الفترة المذكورة 11 مساحة خضراء قابلة للاستخدام، في ظل تجريف حديقة (حديقة الوايلي)، وتحويل أخرى لملعب كرة قدم (حديقة أطفال جسر السويس)، في حين ضُمت حديقة أخرى لمبنى مجاور (حديقة عرب المحمدي)، بجانب إزالة أو تقليص سبع مساحات خضراء، قابلة للاستخدام بصورة تعوق استخدامها “مساحة خضراء مفتوحة”.
إلى جانب ذلك، أُغلقت حديقة جزئياً في إطار أعمال تطوير بالمنطقة (حديقة جامع عمرو بن العاص).
تم رصد هذه المواقع بالاعتماد على القوائم الرسمية للحدائق التابعة لمحافظة القاهرة ومساحاتها الخضراء، وهي في 3 قوائم منشورة على الموقع الرسمي للمحافظة، تضم أسماء الحدائق والحي الذي تقع فيه ومساحاتها؛ مع الأخذ في الحسبان أن تلك المساحات تختلف عن المساحات التي قمنا بقياسها بعد تحديد مواقعها على تطبيق Google Earth. ولم يتسنَ لنا الحصول على رد من الجهات المختصة، حول سبب الاختلاف في المساحات بين القوائم وتطبيق Google Earth.
يُعرّف “برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية” المساحات المفتوحة والمتاحة للاستمتاع بها من قبل كل الناس من دون ربح؛ بأن تكون متعددة الوظائف، وتضمن التواصل المجتمعي والتبادل الاقتصادي، وخلق تجارب ثقافية بين أطياف متنوعة وواسعة من البشر، ومن أنواعها على سبيل المثال لا الحصر: الحدائق، ومساحات اللعب، والشواطئ العامة، وضفاف الأنهار، والواجهات المائية.
وهو التعريف الذي كان ينطبق على المواقع المفضلة لمريم وعائلتها في “فسحهم”، لكنّ الأمر بالنسبة لمريم، لم يعد كذلك كما تقول: “هي فسحة عائلية جداً، وهي أيضاً لطيفة عندما أتنزه مع أصدقائي. هذا ما يضايقني، كانت فسحة لكل الناس”.
يرصد هذا التقرير التغيرات في المساحات العامة (فى العاصمة المصرية القاهرة)؛ جراء تغيرات عمرانية كبيرة، أشار مسح مصور بالأقمار الاصطناعية إلى أن وتيرتها زادت خلال السنوات من 2018 إلى 2021؛ هذه التغيرات أثرت في فرص الفقراء ومحدودي الدخل في الحصول على متنفس عام.
وهذا ما ينعكس على مجتمع المدينة بشكل أو بآخر، بحسب دراستين لباحثيْن مصرييْن، تشيران إلى أهمية الفضاءات العامة في تخفيف الضغوطات المترافقة مع العيش في مدينة ذات كثافة عالية.
قانونياً
لا يذكر الدستور المصري لفظة “الفضاء العام” بشكل صريح كدساتير دول في أميركا الجنوبية، مثل: كولومبيا والإكوادور؛ إلا أن المادة 45 ذكرت مناطق يمكن حملها على ذاك المعنى، بحسب التعريف الأممي، ووفرت لها الحماية.
نص المادة 45 من الدستور المصري
” تلتزم الدولة بحماية بحارها وشواطئها وبحيراتها وممراتها المائية ومحمياتها الطبيعية. ويحظر التعدى عليها، أو تلويثها، أو استخدامها بما يتنافى مع طبيعتها، وحق كل مواطن في التمتع بها مكفول، كما تكفل الدولة حماية وتنمية المساحة الخضراء في الحضر، والحفاظ على الثروة النباتية والحيوانية والسمكية، وحماية المُعرّض منها للانقراض أو الخطر، والرفق بالحيوان، وذلك كله على النحو الذى ينظمه القانون”
إلى ذلك، تنظم عدة قوانين الحق في الوصول للفضاء العام بشكل غير مباشر، مثل المادة 162 من قانون العقوبات المصري والتي تُعاقب بالحبس والغرامة قاطعي الأشجار في الفضاء العام؛ كالحدائق أو المنتزهات أو الأسواق أو الشوارع، والمادة 367 من نفس القانون، والتي تعاقب بالحبس مع الشغل كل من أتلف عمداً شجراً نابتاً.
والمادة 10 من اللائحة التنفيذية لقانون البيئة، المعدلة بقرار من مجلس الوزراء عام 2011، والتي تُلزم كل المؤسسات والهيئات والأشخاص بتقديم دراسة ” تقويم الأثر البيئي” لأي مشروع قبل البدء في تنفيذه. تلك المواد وغيرها، كانت أساساً استند إليه المحامي البيئي أحمد الصعيدي، في بلاغ قدمه للنائب العام ضد محافظ القاهرة، ورئيس حي مصر الجديدة، ورئيس هيئة نظافة وتجميل القاهرة، على خلفية قطع أشجار عدة شوارع في حي مصر الجديدة.
البلاغ تحول إلى القضية رقم 33167 لسنة 73، والمنظورة أمام الدائرة الأولى حقوق وحريات للبت فيها بمحكمة مصرية، يتهم فيها الصعيدي الدولة المصرية بتطوير الطرق في المنطقة من دون دراسة حقيقية للأثر البيئي لهذه المشاريع: “تقييم الأثر البيئي، من المفترض أن يراعى فيه حق الناس في المساحات العامة”.
موقع مريم المفضل للتنزه -بحسب ما ذكرت لـ”معدتيْ التقرير”- كان مساحة خضراء واسعة، وسط حارتي شارع الشهيد سيد زكريا، بمنطقة شيراتون المطار، القريبة من محل سكنها وتقع بحي النزهة؛ وهي واحدة من حلول الأسر محدودة الدخل لإشكالية ندرة الحدائق في القاهرة بشكل عام، وعدم قدرة نسبة منها على تحمل تكلفة تذاكر الحدائق الموجودة بالفعل؛ لذا يستخدم بعضها المساحات الخضراء الواسعة بين الطرقات (جُزر خضراء بين حارات الطرق المرورية) كفضاء عام، وعادة ما يعدّونها -كمريم وأسرتها- حديقة عامة.
ومع اتساع شارع الشهيد سيد زكريا من حارتين إلى أربع حارات، خلال عمليات تطوير للمنطقة في 2021، تقلصت المساحة الخضراء في وسط الشارع، وأصبحت غير قابلة للاستخدام كفضاء عام؛ لعدم وجود ممر آمن لعبور المشاة، ما يعني خسارة مريم حديقتها المفضلة.
كلها “حدائق”
محافظة القاهرة، تصنف الحدائق العامة إلى جانب المساحات الخضراء التجميلية على الطرق والميادين، أو تلك التي توجد بين المباني، في قائمة واحدة تتضمن 409 مواقع معنونة بـ “بيان بالحدائق العامة بمحافظة القاهرة عام 2018”.
بعد استبعاد المواقع التي لم يتمّ تحديدها في القائمة المذكورة، وكذلك المساحات الخضراء غير القابلة للاستخدام كفضاء عام (مثل المساحات الخضراء التجميلية في الشوارع والمساحات الخضراء في وسط الحركة المرورية)، تبقى من هذه القائمة 53 موقعاً متاحاً مجاناً، يمكن الوصول إليها واستخدامها كفضاء عام في القائمة. وكشفت عملية تحليل هذه المواقع أن 75.4% منها لا تحتوي على أي مرافق؛ ما يؤثر في جودة ونوعية الاستخدام الاجتماعي والترفيهي لتلك المساحات.
على موقع محافظة القاهرة، توجد قائمتان لحدائق أخرى تحت إدارة المحافظة؛ الأولى تسمى بالحدائق المتخصصة، والثانية تسمى بالحدائق المتميزة، وجميعها بلا استثناء تنتمي إلى نوعية المناطق شبه العامة؛ لاشتراط دخولها بتذاكر. وتتنوع أسعار التذكرة الواحدة من 5 جنيهات (0.16 دولار) وحتى 25 جنيهاً مصرياً (0.8 دولار أميركي).
تقول مريم: “بالنسبة لوالدي ووالدتي الموضوع اقتصادي، بمعنى كيف سنوفر لهم (للأطفال) بديلاً عن هذه النزهة؟ البديل أغلى، وإذا ذهبنا إلى أماكن أبعد؛ التكلفة أكبر. إذن، ما هي الخيارات الأخرى المتاحة؟ لا يوجد، ولا سيّما بالنسبة لإخوتي الأصغر سناً”.
مشروع حديقة استثماري
تُظهر مقارنة صور الأقمار الاصطناعية تعرض أكثر من ثلث الحدائق المتاحة بتذكرة، لاستقطاع أجزاء منها، لصالح مطاعم ومقاهٍ أو مناطق ألعاب بمقابل مادي؛ في ظاهرة يعدّها الباحث وليد منصور نوعاً من “تسليع الفضاء العام”.
منصور، باحث في العمران والبيئة، متخصص في استدامة المدن، قضى طفولته في حي مصر الجديدة، شرقي القاهرة، ثم انتقل إلى حي شرق مدينة نصر بعد زواجه. بالنسبة لمنصور، ما حدث من تغيرات في حي طفولته، والحي الذي يقيم فيه حالياً على مستوى الحدائق والشوارع والمساحات العامة، هو تهديد لأسلوب حياته.
يقول منصور: “تربيت فيها، في الصيف كنا نذهب إليها لنلعب. وعندما كبرت قليلاً كنا نمشي حولها، وعندما أجرى والدي عملية قلب مفتوح، كنا نمشي حول الحديقة، حالياً قاموا بتوسعة الشارع، فلم نعد نستطيع عبوره للوصول إليها”.
يضيف منصور: “وتمّ إنشاء مقاهٍ ومطاعم في أركان الحديقة الأربعة، والمقاهي لا علاقة لها بحاجات الأطفال؛ كلها أشياء تجارية جداً”. وهو ما تطابق مع صور الأقمار الاصطناعية.
وترافق ذلك مع ارتفاع في أسعار تذاكر دخول الحدائق، التي تصنفها محافظة القاهرة كحدائق “متميزة”، من ثلاثة إلى خمسة جنيهات للفرد، كما شهد عدد آخر من الحدائق فرض رسوم لدخولها، بعد أن كانت مجانية، مثل حدائق ميدان الجمهورية بحي عابدين، والبازيليك بحي مصر الجديدة.
دراسة منصور، والواقع الذي يعيشه، دفعاه إلى رفع دعوى قضائية ضد محافظة القاهرة، آملاً أن يكون تحركه سبباً في الحفاظ على ما تبقى من مساحات عامة وخضراء في حي مصر الجديدة؛ وهي القضية التي ترافع عنه فيها المحامي والخبير القانوني في الشؤون البيئية، أحمد الصعيدي.
في استبيان وزعته معدتا التقرير خلال شهري حزيران/يونيو، وتموز/يوليو من العام 2022، وضع ربع المستجيبين معيار القرب على رأس أولوياتهم، عند اتخاذ قرار زيارة الحديقة، وهو الأمر الذي يتفق مع رؤية مريم ووليد للأمر. وبرصد المواقع التي تمّ التأكد من صحتها في قوائم محافظة القاهرة، نجد أن هناك أحياء لا تتوفر فيها حدائق أو مساحات خضراء قابلة للاستخدام كفضاء عام، الأمر الذي يتعارض مع الدليل الإرشادي التطبيقي لأسس ومعايير التنسيق الحضاري للمناطق المفتوحة والمسطحات الخضراء، المعتمد من المجلس الأعلى للتخطيط والتنمية العمرانية (جهة حكومية)؛ والذي ينص على حق كل مواطن بالحي في الوصول إلى المنطقة المفتوحة في حيه، على ألا تبعد عن منزله أكثر من كيلو متر واحد (ربع ساعة ترجلاً) وألا تقل مساحتها عن ثلاثة أفدنة (12140.56 متر مربع، أي ما يعادل ملعبي كرة قدم). ويشترط الدليل أن تتمتع المنطقة بـ “إتاحة إمكانية الدخول لكافة المواطنين، وألا تكون مقتصرة على استخدام فئة معينة”؛ كونها ضمن المناطق المفتوحة. حياة مريم -والتي تخرجت حديثاً في كلية التجارة، جامعة القاهرة- لم تتأثر فقط على مستوى النزهات العائلية إلى حدائق منطقة مصر الجديدة، ولكنّها تأثرت أيضاً على مستوى أنشطتها المختلفة مع صديقاتها، فصارت تجد التنزه أمراً ثقيلاً؛ لمحدودية اختياراتها بسبب حواجز التكلفة المادية، أو البعد المكاني، أو الخوف من التعرض لمضايقات. تقول مريم: “آخر مرة رحت من سنة”.
استغلال النيل
لمحاولة تحديد أشكال الاستغلال المختلفة لضفاف النيل، التي تقع ضمن حدود محافظة القاهرة، حددت “معدتا التقرير” المتاح من المواقع الجغرافية المسجلة على تطبيق الخرائط Google Maps؛ بواقع 940 موقعاً مسجلاً لمبانٍ وأنشطة مختلفة، تحتل ضفة النيل أو تطل عليه، في المناطق الشمالية والغربية والجنوبية من محافظة القاهرة؛ وهي المناطق التي تحاذي ضفة النيل من المدينة (أغلب أحياء المنطقة الشرقية لا تحاذي النيل).
وأظهرت البيانات، أن أكثر من نصف هذه المواقع، أماكن شبه متاحة؛ أي أن دخولها مرتبط بشكل من أشكال المقابل المادي، الذي قد يكون على سبيل المثال تذكرة، أو حد أدنى للطلب، أو متوسط لوجبة رئيسية/ مشروب في المكان؛ ومن بين هذه الفئة، أماكن غير قابلة للاستخدام الترفيهي، ولكنّ دخولها مرتبط بدفع مقابل مادي، مثل محال تجارية وصيدليات.
من أصل كل 10 مواقع شبه متاحة على النيل، هناك 7 مواقع قابلة للاستخدام من قبل الجمهور استخداماً ترفيهياً أو اجتماعياً، ولكن هذا يعتمد بشكل كبير على قدرتهم على تحمل التكلفة المالية.
يكشف تحليل البيانات أن المنشآت الحكومية تحتل 44% من أجزاء الضفة (المحاذية لمحافظة القاهرة)، ضمن المساحات الخاصة (غير المتاحة للجمهور العام سواء مجاناً أو بشروط)، في حين تحتل دور العبادة أغلب المناطق العامة. كما تبيّن أن أكثر من ثلث تلك الأطوال، في الأماكن شبه المتاحة على ضفة النيل، هي أماكن ترفيهية، يلي ذلك الحدائق، ومن بعدها النوادي الاجتماعية ومن ثم الفنادق.
في الاستبيان الموزع على سكان القاهرة، أفاد 4 من كل 5 مستجيبين بوجود تغيرات في الموقع المفضل لهم من الكورنيش، و بتحليل هذه الإجابات بالنسبة للموقع المفضل من الكورنيش؛ يظهر أن التغيرات الملحوظة تختلف من منطقة إلى أخرى، إلا أنها ترتبط بوجود نشاط تجاري في المكان؛ فـ 6 من كل 10 مستجيبين فضلوا منطقة وسط البلد، وأفادوا بتغييرات مرتبطة باستحداث خدمات وبناء مشاريع استثمارية، وكذلك الحال في كورنيش الزمالك.
العديد من المستجيبين عبروا بكلمات مختلفة عن انطباعاتهم وآرائهم تجاه التغيرات على الكورنيش؛ 31% من هذه الأوصاف كانت مصطلحات إيجابية، في مقابل 62% استخدموا مصطلحات سلبية.
مشكلة الوصول العادل
يقول الباحث المتخصص في العمران المستدام أمير جوهر: “من المفترض أن كل النيل متاح، لكنّ الحواجز الاجتماعية-الاقتصادية مع الحواجز القانونية تمنع الناس من الوصول”.
لا يستطيع الباحث العمراني -الذي أنتج ثلاث أوراق بحثية على الأقل عن استخدامات النيل كفضاء عام- تحديد فترة زمنية، لتحول ضفته المحاذية لمدينة القاهرة إلى منشآت، يتحدد استخدام أغلبها بمن يستطيع تحمل التكلفة. لافتاً إلى أن الطبيعة التجارية لاستغلال النيل مرتبطة برؤية صانعي القرار؛ فعلى الرغم من إمكانية استغلال النهر بأوجه متعددة، كممر مواصلات أو فضاء بصري مفتوح، أو مصدر للصيد، لكن وبحسب جوهر، فإن الجانب الجمالي فقط هو ما يتمّ التركيز عليه.
يضيف جوهر أن استغلال ضفة النيل كمشروع عقاري، يحرم المقيمين بالمدينة والمارة من رؤيته؛ لأن أغلب العقارات المقامة عليه تصل أعداد الطوابق فيها إلى 40 طابقاً، ما يعكس اعتبار المطور العقاري -بحسب جوهر- للنيل كإطلالة، وليس مساحة للتفاعل
من يستطيع الدخول؟
تذكر الباحثة سحر عطية، في دراستها “إعادة التفكير في الفضاء العام في القاهرة”، أن غياب المجال العام في القاهرة، وفصل المواطنين في مجموعات وطبقات مختلفة؛ يخلق أيدولوجيات وهويات مختلفة في المجتمع الواحد. وفي النهاية، يحجم الأفراد عن استخدام هذه الأماكن.
هذا الغياب -بحسب عطية- ينعكس على الأنشطة الموجودة على ضفاف النيل، التي يتمّ استخدامها من قبل المؤسسات الخاصة والمطاعم والنوادي و القوارب العائمة، يقول عطية: “المساحة المتاحة لعامة الناس محدودة للغاية، بالنظر إلى طول ضفاف النهر”.
وتؤكد منظمة الصحة العالمية، أنه من الضروري أن يتمتع جميع السكان بإمكانية كافية للوصول إلى المساحات الخضراء، مع إعطاء أولوية خاصة لتوفيرها للمجتمعات المحرومة.
تشير الدلائل إلى أن المساحات الخضراء الحضرية، لها فوائد صحية، لا سيّما على المجتمعات المحرومة اقتصادياً، والأطفال والحوامل وكبار السن. وربطت وزارة البيئة المصرية بين زيادة المسطحات الخضراء وتحسين جودة الهواء، ومستوى الصحة العامة للمواطنين.
جدران
على الرغم من أن مريم حداد ووليد، يعيشان في الجزء الشرقي من مدينة القاهرة، إلا أن نصيب كل منهما يختلف عن الآخر من حيث المساحة العامة الخضراء في حيه، وقدرتهما على دخول واستخدام حدائق من عدمه. فبينما تحتاج مريم إلى المواصلات لتصل إلى كورنيش النيل أو لسيارة أسرتها، يستطيع وليد استخدام سيارته الخاصة للوصول إلى الغاية نفسها. تلك الفروق لم تمنعهما من استنتاج الملاحظة نفسها، عن أثر غياب الفضاء العام على مستوى الأفراد، خاصة الأجيال الأصغر.
ترى مريم اختلاف نظام حياتها عن نظام حياة إخوتها الصغار؛ الناتج عن غياب المساحات العامة عن حياتهم بشكل ملحوظ: “لا أعتقد أن إخوتي الأصغر سناً يدركون وجود حدائق تمت إزالتها؛ لأنهم لم يعاصروها، خاصة أخي الصغير الذي يسعد كثيراً بزيارة أي حديقة، لأنه لا يعرف أن حدائق أفضل كانت موجودة في السابق”، تقول مريم.
بينما يستطيع وليد رؤية ذلك في أطفال أسرته الممتدة، والتي صارت أجيالها الأصغر تربط أنشطتها الترفيهية بمراكز التسوق والأماكن المغلقة أو المعزولة: “النزهة الأساسية لأي طفل أو مراهق اليوم، هي الذهاب إلى مراكز التسوق أو المطاعم والمقاهي. وهذا ينتج نوعاً من الفصل الاجتماعي بين الناس؛ فكل فئة تذهب إلى مكان مختلف ولا تعرف شيئاً عن الآخرين”، يقول وليد.
المصدر: استبيان تم توزيعه على سكان القاهرة خلال شهري يونيو ويوليو من العام 2022. وتنطبق النسب المذكورة على 121 مستجيباً، بينما لم يلاحظ 65 مستجيباً أي تغييرات على الحدائق
لا يألو كثير من الأسر المقيمة في المدينة جهداً لإيجاد مساحات بديلة عن الفضاء العام الذي يتضاءل باستمرار، الأمر الذي لاحظه الباحث أمير جوهر، ودرَسه في إحدى أوراقه البحثية “عن استخدام كباري القاهرة مساحة عامة بديلاً للضفة”.
تعمل محافظة القاهرة بشكل مخطط ومعلن منذ عام 2020 على الأقل، على تحويل المساحات العامة، خاصة الخضراء منها إلى مشاريع خدمية؛ بهدف “تعظيم العوائد من الأصول وزيادة الموارد”، ما يعني تحويلها إلى أماكن شبه متاحة؛ الأمر الذي يحرم فئة كبيرة من السكان من دخولها ( 31.1% من سكان المحافظة على الأقل من الفقراء، حسب مؤشر الفقر لعام 2017/2018)، إلا أنها أيضاً، وبحسب نتائج الاستبيان، لا تضع في الحسبان ما يعدّه السكان أولويات في تجهيز هذه المساحات.
فقد اختار المستجيبون، عند سؤالهم عن العناصر الأساسية التي توجد في حدائقهم المفضلة/ موقعهم المفضل على النيل، وجود أماكن للجلوس، وبينما يعد رواد ضفة النيل، المشي النشاط المفضل لدى أغلبيتهم، فإن الجلوس هو نشاط أغلبية رواد الحديقة المفضّل، وهي أمور لا تتطلب تحويل الحدائق إلى مناطق خدمية.
دراسات الأثر البيئي
منى كمال، الرئيسة الأسبق لجهاز شؤون البيئة في الفترة من فبراير/شباط 2017 إلى يوليو/تموز 2017 -والتي كانت قبل المنصب مسؤولة عن الإشراف على تصميم وتنفيذ البحوث البيئية، الخاصة بتقدير المؤثرات الضارة بها، ومعدلات التلوث وإدارة المشروعات الرائدة في مجال صحة البيئة- تحدثت لمعدتيْ التقرير عبر الهاتف، عن كيفية تصنيف مشروعات تقييم الأثر البيئي قائلة: “المشروعات تنقسم إلى عدة فئات، خفيفة التأثير نسميها (أ) وهكذا، (ج) هي أكثر المشروعات التي لها تأثير سلبي على البيئة؛ لذا يلزمها دراسة مستفيضة، تتضمن جلسات الاستماع للمجتمع المحيط، والذي يقام المشروع في منطقته”.
وفي دليل أسس وإجراءات تقييم الأثر البيئي الصادر عن الوزارة في عام 2009، توضح الوزارة أن المشروعات المقامة على شواطئ النيل، والمشروعات المقامة في المناطق كثيفة السكان من “المشروعات في المناطق الحساسة بيئياً”. وحدد الدليل -كحد أدنى- “الجمعيات المعنية بتنمية المجتمع” كواحدة من الفئات الواجب استشارتها، في حالة مشروعات التنمية العمرانية. ولكن بحسب الصعيدي، لا يحدث الأمر بهذا الشكل.
وبحسب مصدر، كان يعمل مسؤولاً بوزارة البيئة ورفض ذكر اسمه، فإن بعض المشروعات تقام بالفعل قبل الموافقة على دراسة تقييم الأثر البيئي.
يضيف المصدر أن المنفذين يتعللون بأن الجهة المسؤولة بالوزارة عن الرد على الدراسات، قد تأخرت، وفي أحيان أخرى قد تقدم الدراسة وتستوفي الحلول، لكن لا ضمانات لتنفيذها من قبل الجهة المسؤولة. أما إحالة المخالفة إلى ساحات القضاء، تتطلب وقتاً طويلاً، بحسب المصدر.
تحدثنا مرة أخرى إلى الدكتورة منى كمال، بخصوص الضمانات التي تضعها الوزارة؛ لضمان جدية المتقدمين بدراسات تقييم الأثر البيئي، فردت قائلة: “الوزارة لا تستطيع قول لا، على دراسة سليمة، وإلا تصبح متعنتة، حتى لو قطاع خاص، المهم الالتزام بما جاء في الدراسة وأن تكون الدراسة سليمة”.
3 جهات مسؤولة.. ولا تعليق
راسلنا مسؤولة الإعلام بوزارة البيئة هبة معتوق، بأسئلة حول كيفية المراجعة والرقابة على تنفيذ وجدية دراسات الأثر البيئي، لكن حتى لحظات نشر هذا التقرير، لم يصلنا رد منها.
توجهنا أيضاً بأسئلتنا إلى المهندس علاء خالد، رئيس قطاع حماية وتطوير نهر النيل وفرعيه، والذي وعدنا برد عليها في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، لكننا لم نتلقَ هذا الرد حتى تاريخ نشر هذا التقرير.
إضافة إلى محاولاتنا التواصل مع أحمد الدميري، مدير عام الإدارة العامة للعلاقات العامة بمحافظة القاهرة، والذي لم يرد على رسائلنا ومكالماتنا.
حاولنا التواصل مع محمد كمال، المستشار الإعلامي لمحافظ القاهرة، والذي رد في حديث هاتفي مقتضب؛ قال فيه: “النيل ده تبع القوات المسلحة”، الأمر الذي لا يتوافق مع المادة 65 من قانون الموارد المائية والري رقم 147 لسنة 2021، والذي بدأ تطبيقه بعد نشره في الجريدة الرسمية في أكتوبر/تشرين الأول للعام 2021. بعد جملته المقتضبة، أحالنا كمال إلى اللواء إبراهيم عوض، سكرتير عام محافظة القاهرة للرد على القصة.
يضع القانون مسؤولية الترخيص باستغلال ضفة النيل تحت إدارة وزارة الري والموارد المائية، ولا تصير موافقة وزارة الدفاع المصرية واجبة سوى في حال استغلال المنطقة المحظورة من ضفة النيل (30 متراً خارج القطاع العرضي للنيل أو أقصى اتساع للنهر في المنطقة) وجسوره؛ وذلك الاستغلال مقصور فقط على حالة “أعمال النفع العام”، بحسب نص المادة.
حاولنا التواصل مع اللواء إبراهيم عوض منذ 30 أكتوبر/تشرين الأول 2022 عبر الهاتف والرسائل القصيرة دون رد، عدا محادثة قصيرة في 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، قال فيها إنه سيراجع الجهات المختصة بمتابعة مشروع “طرح 249 فداناً بالحدائق العامة للاستغلال فى مشاريع خدمية” والذي أعلنت عنه المحافظة عام 2020، ونفى تأثير هذا المشروع على المساحات العامة في محافظة القاهرة؛ لكنه أنهى المكالمة بعدها مباشرة بدعوى أن المحافظ زار مكتبه. وحتى هذه اللحظة، لم يستجب لمحاولاتنا المتكررة الاتصال به، رغم محاولاتنا التي استمرت حتى نهاية العام 2022.
لكنّ الأخبار المتداولة عبر الصحف المصرية، تؤكد أن المشروع يجري على قدم وساق، ففي مايو/أيار 2022، أعلنت الإدارة المركزية للشئون المالية والإيرادات وإدارة التعاقدات بمحافظة القاهرة مزادين في إعلان واحد؛ الأول يتضمن تطوير واستغلال كل من الحديقة الدولية، وحديقة العروبة بمدينة نصر، لمدة 10 سنوات لكل منها، وجزء من حديقة الغولف بحي مصر الجديدة، لمدة 3 سنوات.
إضافة إلى المزاد الثاني على “حق الاستغلال الإعلاني” لمنشآت الحدائق التابعة للهيئة العامة لنظافة وتجميل القاهرة والمطلة على كوبري أكتوبر (كوبري يصل شرق محافظة القاهرة بغرب محافظة الجيزة) في حي غرب مدينة نصر وحي الوايلي، لمدة 3 سنوات.
ما يعكس اندفاع المحافظة ناحية الاستثمار في مزيد من مساحات الفضاء العام وشبه العام في المحافظة؛ بهدف “تعظيم الموارد”.
في ديسمبر/كانون الأول 2022، رفضت محكمة مصرية الدعوى التي رفعها المحامي أحمد الصعيدي، وكان من بين المدعين فيها الباحث وليد منصور، والتي طالبت بوقف أي أعمال ينتج عنها إزالة أو تقليل المساحات العامة إلا بعد إجراء دراسة تقويم أثر بيئي تتضمن جلسات استماع، وفسرت رفضها بأن المدعين في القضية “من غير ذي صفة ومصلحة”، إلا أن الصعيدي يستعد لرفع دعوى ببطلان الحكم.
بينما تظل مريم وأسرتها في حيرة حول إيجاد متنفس في مدينتهم، بموارد اقتصادية لا تبدو أنها تستطيع مواكبة ما سماه الباحث وليد منصور بـ”تسليع الفضاء العام”، شاعرين بالضيق من تقلص “الفُسح” التي كانت “لكل الناس”.
• تم إنجاز هذا التقرير من خلال أدوات وتقنيات المصادر المفتوحة، لتحديد مواقع حدائق محافظة القاهرة بإدارتها الثلاث. • تقتصر البيانات على الفترة من 2018 – 2021. • تقتصر بيانات الأنشطة المقامة على النيل على شهر أكتوبر/تشرين أول 2022، علماً بأن المواقع التي لم يكن بالإمكان التحقق من بياناتها، قد استبعدت. • تم الاعتماد على بيانات أنماط الإنفاق الترفيهي لسكان الحضر للتحليل الاقتصادي لقدرات المواطنين على الوصول للمناطق محل التحليل، البيانات صادرة من الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء ضمن بحث الدخل والإنفاق للعام 2019/2020؛ لذا لا يشمل هذا التحليل أي تغيرات في أنماط الإنفاق بعد 2020. • سعر الصرف المعمول به في هذه القصة، هو سعر البيع المنشور على الموقع الرسمي للبنك المركزي المصري يوم 7 مايو/آيار 2023، أي تغيرات بعد هذا التاريخ في أسعار الصرف -وبالتالي في مقابل الدولار للمبالغ الموجودة في القصة- لا يشملها هذا النص.