ربما كانت المرة اليتيمة التي شاهدت فيها حمادي بوصبيع رأْي العينِ عندما كنت مارًا بباب الجديد مع أحد رفاق السكن وكان بوصبيع -الأب الروحي للنادي الإفريقي- يهمّ بالخروج من حانوت مصطفى الحجام – الحلاق بلهجتنا التونسية – حيث كان يجتمع بأحباء النادي الإفريقي وأصدقاء الطفولة. لكن حمادي بوصبيع الذي لا يظهر في وسائل الإعلام ولا في الملاعب الرياضية ولم يره كثيرون، كان شاغلًا الدنيا والناس، حتى وفاته منذ أسابيع قليلة عن ثمانٍ وثمانين سنة. ومن يعش ثمانين حولًا لا أبا لك يسأم. لكنه لم يسأم حتى آخر أيامه من ملاحقة النادي الإفريقي بالإهتمام والشغف.
حدث ذلك في بداية هذا القرن. كنت يومها نازحًا من الصحراء نحو العاصمة طالبًا. وكنت كحال العشرات من أبناء الصحراء أحب النادي الإفريقي. خرج سي حمادي يرافقه رجلان، واحدٌ عن يمنيه وثانٍ يسير خلفه. كان كنمرٍ هرم. يعتمر قبعةً من صوف ويسير ببطئ حتى يكاد يتوقف. لكنه لا يغفل عن التلويح بيده ذات اليمين وذات الشمال لتحية أصحاب الحوانيت الموزعة على طرفي الشارع. يعرفهم بالاسم والكنية. فوجٌ من تحايا تلتقي وتفترق على وقع سيره نحو سيارته.
كان لطموح الرجل كعبٌ واحد مسمرٌ جيدًا في أزقة حومة باب الجديد في مدينة تونس القديمة، ومع ذلك فإن أصابعه استطالت تلامس عنان السماء. جذورٌ شعبية وسياقات مضطربة جاء منها وعاش فيها، لم تمنعه من اختراق كل هذه الجدران السميكة نحو النفوذ والسلطة والمال. ولكنه كان دائمًا كالطفل يعود إلى مرضعته نهمًا، إلى تلك الأزقة الإسمنتية الضيقة، حيث ترك شغفه الأصلي: كرة القدم وفريق النادي الإفريقي. هذا المسار الطويل من الجيئة والذهاب بين باب الجديد ومراكز السلطة والمال، كان دائمًا ملازمًا للظلال، في حُلةٍ من الضباب يأتي ويذهب دون أن يثير جلبةً. وفي ذلك القصد من حب الغياب استمد طويلاً سلطةً مبهرةً من الغموض. يد تمنح ولا تتوقع مقابلًا. فبقدر ما كان بعيدًا عن الضوء كان الضوء يلاحقه. أخباره في الصحف وعلى أفواه الناس، لكن صورته غائمةً لا يكاد المرء يفرق ملامحها من بين وجوهٍ كثيرة تتصدر المشهد. هل كان ذلك مقصودًا؟ لا أحد يدري. لكنه قطعاً كان ناجعًا في بناء أسطورة ما أصبح يسميه أحباء النادي الإفريقي بـــ “الأب الروحي”.
هذا “الأب الروحي” كان إلى ذلك أشهر صانع للمشروبات الروحية. بيرة “السلتيا“، المساند الرسمي لأصحاب محنة الشراب والمشروب المفضل في بارات تونس، كانت تتسرب من بين أصابع سي حمادي نحو آفاق البلاد البعيدة. وليس من المجازفة القول بأنه كان محبوبًا لدى شاربي البيرة بالقدر نفسه أو أكثر لدى جمهور النادي الإفريقي. لكن الثابت في سيرته أنه نجح في جعل البيرة خادمًا لشغفه الكروي، عند ذلك المنعطف الذي أصبحت فيه كرة القدم جزءًا من سوق كبيرة تتربع الإعلانات على عرشها.
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft
الولادة الأولى: من باب الجديد إلى هياكل البيروقراطية
بدأت الحكاية خلال الكساد العظيم، وبعد أربعة عشر عامًا من تأسيس النادي الإفريقي (1920). في عام 1934 ولد حمادي بوصبيع لعائلةٍ من صغار الكسبة. كان والده موظفًا ومالكًا لمقهى صغير في حومة باب الجديد. لم يكد يبلغ الست سنوات من عمره حتى اندلعت الحرب العالمية الثانية، حيث سقطت البلاد في يد التحالف الألماني – الإيطالي وحكومة فيشي. شكل ذلك حائلًا بين حمادي الطفل والمدرسة النظامية، فاضطر والده إلى إرساله إلى كُتاب نهج سيدي بوخريص حتى يتعلم شيئًا من القراءة والكتابة. ليمكث فيه حتى خروج الإحتلال النازي في عام 1942، ثم يلتحق بالمدرسة الصادقية، مستفيدًا من وجود والده في السلك الحكومي.
في هذه الفاصلة بدأت قصة حب ستستمر لعقود بين الطفل والفريق الذي لا يكبره كثيرًا في السن. كانت سنوات النصف الثاني من الأربعينات، مسرح صحوة رياضية للنادي الإفريقي تحصل فيهما على أول ألقابه كبطل تونس في موسم 1946-1947 و1947-1948. لم يكن ذلك مجرد انجازٍ رياضي، بل نصرًا صغيرًا ضمن معركة كبيرة كان التونسيون يخوضونها ضد الإستعمار، تطورت خلالها الحركة الوطنية بعد “مؤتمر ليلة القدر“، الذي بلور مطلب الإستقلال على نحوٍ لا رجعة فيه. كانت كرة القدم جزءًا من معركة الهوية والتحرير. وكان ذلك الخليط بين الكرة والرياضة والوطنية أكثر وقعًا على طلبة المدرسة الصادقية، أحد معاقل الحركة الوطنية, كان التكوين العلمي في الصادقية متينًا، باللغتين العربية والفرنسية، ما جعل حمادي بوصبيع يظفر بمكانٍ في معهد الدراسات العليا بتونس، وهو أول مؤسسة جامعية حديثة أنشئت في البلاد في عهد الإستعمار الفرنسي. وفيه تخرج سنوات قليلةً بعد الإستقلال حاملاً الإجازة في الحقوق.
كانت دولة الإستقلال، خلال خطواتها الأولى نحو السيادة، عاريةً من أي مُعين. عشية الإستقلال هجر البلاد المئات من موظفي الدولة الفرنسيين وتوالت موجات الهجرة لتشمل رؤوس الأموال والعمالة الماهرة. ترك ذلك هزالًا غير مسبوق على البنى الاقتصادية والاجتماعية للبلاد. في المقابل كان النظام الجديد يواصل السير في مسار فك الإرتباط بباريس. في هذا السياق ولد الدينار التونسي عام 1958، كخطوةٍ أخرى في اتجاه فك الإرتباط بفرنسا، بعد إلغاء الفرنك التونسي الذي كان تحت سيطرة البنك المركزي الفرنسي.
وضع الرئيس الحبيب بورقيبة أحد أهم رجاله على رأسك البنك المركزي التونسي: الهادي نويرة، محامي وأحد زعماء الحركة الوطنية. شرع نويرة في اصطياد الخريجين الجدد من التونسيين في الجامعات الفرنسية والتونسية. في ذلك العام تلقى سي حمادي برقية من البنك المركزي تستدعيه لإجراء مقابلة عمل. كان يتوقع أن يلتقي بموظف صغير، لكنه وجد نفسه وجهاً لوجه مع محافظ البنك شخصياً. لم تدم المقابلة وقتًا طويلًا، كان الهادي نويرة مقلاً في الكلام، لكنه صارم ومباشر. قبل أن يهمّ حمادي بالخروج قال له بفرنسيةٍ محببةٍ إلى قلبه: “هناك شيئان مهمان داخل هذا البنك. أولاً، يتم تعلم كل شيء من الأسفل. وثانياً، للصفر قيمة كبيرة”. لتبدأ رحلة حمادي الشاب داخل سلطة النقد التونسية من الأسفل.
عرض عليّ الهادي أن أكون وزير دولة للاقتصاد، واضطررت إلى البحث في مفرداتي للعثور على الكلمات الصحيحة والاعتذار له، حيث ذهبت إلى حد استدعاء مبدأ بطرس، الذي يقول إن ” كل موظف في الهرم الوظيفي تتم ترقيته حتى يصل إلى مستوى تنعدم فيه الكفاءة عنده”..
كانت البرجوازية التونسية أعجز من أن تقود التحول الاقتصادي في تونس المستقلة. حيث لم يترك لها الإستعمار هامش حركة كبير كي تتوسع وتتطور، فبقيت بعيدةً عن القطاعات الحيوية والتي تحتاج قدراتٍ مالية ضخمة وأساليب تقنية متطورة لاسيما الصناعية. دفع ذلك الدولة إلى التوجه نحو قيادة عملية التراكم الرأسمالي من خلال نموذج “رأسمالية احتكار الدولة”، أين أصبحت الدولة بوصفها منتجًا ومالكًا لوسائل الإنتاج وموزعًا. كان دور البنك المركزي في هذا النموذج مركزيًا. بدأ حمادي بوصبيع يترقى في سلم الوظائف داخل البنك حتى وصل منصب نائب محافظ ليصبح جزءًا من طبقةٍ أخذت زمام الهيمنة في البلاد في أعقاب الإستقلال تتكون من كبار موظفي الدولة، بوصفها الطبقة التي تقود عملية التراكم الرأسمالي وربما يطلق عليها تجاوزًا “البرجوازية البيروقراطية”، وهي الطبقة التي سيكون لها دور رئيسي في التحول الذي سيقوده محافظ البنك المركزي ومعلم حمادي بوصبيع، هادي نويرة، عندما سيصبح رئيسًا للحكومة عام 1970.
ضجت زوايا البنك المركزي بخبر تعيين محافظ البنك رئيسًا للحكومة. شرع نويرة في جمع ملفاته مغادرًا شارع محمد الخامس نحو قصر الحكومة بالقصبة حاملًا معه حفنةً من الرجال الذي عمل معهم لسنوات في البنك. يروي حمادي بوصبيع في مقابلة نادرة مع مجلة “ليدرز” التونسية نشرت عام 2010 تفاصيل ذلك الخروج قائلًا: “دعاني إلى مكتبه وكان متأثرًا للغاية، وغرقت عينيه بالدموع. بعد صمت طويل قال لي كجندي يتقدم للجبهة: أنت تعرف يا حمادي، السياسة عمل قذر. بورقيبة آكل رجال! ومع ذلك، أنا ذاهب! (…) عرض عليّ الهادي أن أكون وزير دولة للاقتصاد، واضطررت إلى البحث في مفرداتي للعثور على الكلمات الصحيحة والاعتذار له، حيث ذهبت إلى حد استدعاء مبدأ بطرس، الذي يقول إن ‘كل موظف في الهرم الوظيفي تتم ترقيته حتى يصل إلى مستوى تنعدم فيه الكفاءة عنده’. وبعد أن سئم من محاولة اقناعي ، صرخ في وجهي أخيرًا: ‘أعتبر أنك لا تريد العمل معي؟’ أجبته مرتبكًا: ‘لكن ليس على الإطلاق. أعمل معك بشكل يومي. لكن، اعفيني من السياسة، فأنا لا أعرف شيئًا عنها. سوف أختنق هناك. سأكون أكثر فائدة لك في البنك المركزي’.”
مع نويرة دخلت تونس مرحلة “انفتاحٍ اقتصادي”، شجعت خلالها الحكومة الجديدة على انسحاب الدولة من القطاع الصناعي وفتحه أمام الاستثمار الخاص والأجنبي. لكن هذه الليبرالية النسبية كانت محكومةً بقوة الدولة، وليست قائمةً على حرية المنافسة. نجح نويرة في إقرار هذه النموذج، الذي وسع النشاط الصناعي على نطاق غير مسبوق، بفضل سيطرته على البنك المركزي. كان حمادي بوصبيع وزملائه في البنك يقومون بدور “السيطرة” على حركة رأس المال، حيث لعبت قوانين الصرف دورًا بارزًا في ضبط رأس المال وتنظيم التدفقات من أسواق رأس المال العالمي إلى حساب رأس المال المحلي والعكس، كي يكون النظام قادراً على السيطرة على هذا الإنفتاح الإقتصادي، لأسباب تتعلق بمركزية سلطة الدولة ذات الحزب الواحد والقائد الواحد أولًا، وثانيًا كي لا يفسد هذا الانفتاح تماسك الطبقات الوسطى، بوصفها القاعدة الاجتماعية للنظام، والتي معها ومن خلالها ينتج علاقات ولاء مديدة. كان حمادي بوصبيع جزءًا من هذا النظام المعقد، وداخله تعلم كيف يتجار ويحكم ويناور ويحتكر ويأخذ ويعطي.
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft
الولادة الثانية: من محاسيب النظام إلى باب الجديد
مع نهاية السبعينات بدأت ركائز هذا الولاء المديد تتهدم ركيزةً تلو أخرى. هبات شعبية وأخرى مسلحة وحرب خلافةٍ داخل معسكر النظام لوراثة الرئيس القائد الواحد. كان رحيل الهادي نويرة عن رئاسة الحكومة إلى فراش المرض الطويل نقطة تحولٍ في حياة حمادي بوصبيع. لم يعد التيار يسري بسلاسة بين البنك المركزي ورئاسة الحكومة في عهد محمد مزالي ( 1925 – 2010). أصبحت نهاية الموظف السامي في الدولة ورجل البرجوازية البيروقراطية تلوح في الأفق.
يتحدث بوصبيع عن تلك الفترة بوصفها لحظة ولادةٍ جديدة: “بعد إعادة هيكلة البنك المركزي، تم استحداث منصب جديد لنائب ثاني يللمحافظ. في ذلك الوقت استدعاني منصف بلحاج عمر، الأمين العام للحكومة إلى مكتبه، ليقترح أن أختار أحد هذين المنصبين. بينما كنت رقم 2 الوحيد، تم استدعائي لأتقاسم واجباتي ولأحوز نصفها فقط، وهو ما لا يمكنني قبوله. لذلك، رفضت العرض بأدب. لم يكن لدي أي فكرة في ذهني ، لكنني قلت لنفسي إنه بما أن النظام الأساسي للبنك المركزي التونسي يتيح لي إمكانية الحصول على إجازة مدفوعة الأجر لمدة 3 سنوات، فقد أستفيد منها وأفكر في شيء جديد..”.
رغم الأزمة الإقتصادية التي عاشتها البلاد، واصل النظام في مسار تمكين البرجوازية التي تشكلت في السبعينات ضمن نموذج “رأسمالية المحاسيب“، الذي يقوم على علاقة وطيدة بين السلطة والفاعلين الإقتصاديين، من خلال الإمتيازات الضريبية والتشريعية والحد من المنافسة عبر الاحتكارية. كانت الشركات الخاصة في جميع القطاعات تبحث عن مديرين تنفيذيين قادمين من هياكل الدولة، متقاعدين أو مغادرين. فقد كان هذا النوع من المديرين هو الأنسب لهذا النموذج الرأسمالي المشوه: مدير يعرف دهاليز الإدارة جيدًا، يرتبط بعلاقات وثيقة بالسلطة ويعرف كيف يدير أنشطة الإحتكار الاقتصادي على نحو يتوافق مع التوجه العام للنظام السياسي. وكان بوصبيع نموذجًا مثاليًا لهذا النوع من المسوؤلين، بخبرة عقدين داخل أعلى سلطة نقدية في البلاد. يعرف الإدارة والقطاع المصرفي كما يعرف خطوط أصابع يديه. ويملك بضاعةً لا يمكن أن تشكو الكساد في سوق رأسمالية المحاسيب التونسية الناهضة.
صادف خروج بوصبيع من البنك المركزي رغبة روبرت بالومبا، مدير الشركة التونسية للجعة والتبريد، في العودة إلى باريس. كان بالومبا يبحث عن وريثٍ على رأس الشركة الوحيدة لصنع الجعة في تونس حتى ظفر بصديقه حمادي فأقنعه بإدارة الشركة الموروثة من عهد الإستعمار، والتي أممتها الدولة في أعقاب الاستقلال ثم عادت إلى القطاع الخاص بدايةً من عام 1979 عندما استحوذت عليها المجموعة الصناعية الفرنسية “كاستال”. شرع بوصبيع في مغامرته الجديدة مديرًا تنفيذيًا للشركة ومساهمًا في رأس مالها. وأدار ببراعة عجلة الشركة، وفي قلبها بيرة “السلتيا” العلامة المدلّلة في الشركة، مستفيدًا من سوقٍ فارغة.
كان وجود حمادي بوصبيع بالنسبة للمجموعة الفرنسية حاجزَا قوي أمام دخول اي منافسين إلى سوق صناعة الجعة والمشروبات في البلاد. فالرجل صاحب النفوذ القوي داخل المؤسسات الحاكمة إقتصاديًا في الدولة، ليس فقط مجرد مدير لأنشطة الشركة وإنما سدٌ يمنع وجود شركات أخرى داخل السوق. لم يكن نموذج بوصبيع يتيمًا، بل إن أغلب الشركات الأجنبية قد استفادت من وجود مديرين محليين من ذوي النفوذ كي تحافظ على أسواق خاليةً من أي منافس. كان ذلك تحالفًا مقدسًا بين رأس المال الأجنبي و البرجوازية البيروقراطية التونسية. كانت شهية بوصبيع لا تتوقف عن الإستحواذ على ماركات المياه والمشروبات في الأسواق حتى استحوذت الشركة على حصة واسعة من سوق المشروبات الغازية والمياه في البلاد. وربما كانت الشركة الأكثر استقرارًا على مدى سنوات ومازالت، رغم الهزات الإقتصادية التي تعرضت لها البلاد.
عاد الرجل طفلًا يافعًا يعبر عن حبه للنادي الإفريقي ويتابع نشاط النادي من موقعٍ آخر غير موقع المحب. وكان موقعه القوي على رأس شركة تدير عشرات الماركات من المشروبات مناسبًا كي يتحول في ظرف وجيز إلى أكبر مساهم في تمويل النادي من خلال منح عقود الإعلان للفريق على نحو حصري على مدى أربعة عقود ..
كان خروج سي حمادي من خيمة الدولة إلى أفق القطاع الخاص، بمثابة تحررٍ من سجن الحياد الذي كان النظام يفرضه على كبار موظفيه. عاد الرجل طفلًا يافعًا يعبر عن حبه للنادي الإفريقي ويتابع نشاط النادي من موقعٍ آخر غير موقع المحب. كان موقع بوصبيع القوي على رأس شركة تدير عشرات الماركات من المشروبات مناسبًا كي يتحول في ظرف وجيز إلى أكبر مساهم في تمويل النادي من خلال منح عقود الإعلان للفريق على نحو حصري على مدى أربعة عقود، ولو كانت إعلانات الخمور مسموح بها في تونس لفعل ذلك، لكنه كان مقتصرًا على منح إعلانات المشروبات الغازية والمياه.
لكنه في عام 1988 تقدم إلى الضوء ممسكًا قيادة النادي رسميًا لأول مرة. كانت الثمانينات عشرية كالحةً بالنسبة للنادي الإفريقي، وخلال الموسم الذي قاد فيه بوصبيع الفريق رئيسًا، خسر دوري أبطال العرب بضربات الجزاء ضد نادي الاتفاق السعودي وأنهى البطولة بفارق ثلاثة عشر نقطة عن الترجي الرياضي التونسي، وانهزم ضده في نهائي الكأس 0-2. بعد ذلك بعام واحد انسحب حمادي بوصبيع إلى الظل مرةً أخرى. واصل هوايته المفضلة في ضخ الأموال للفريق دون منصبٍ رسمي. كان موقعه الإقتصادي يتعزز يومًا بعد يوم في البلاد. بعد قدوم بن علي إلى السلطة توطدت هيمنة الشركة التي يقودها على سوق المشروبات كما توطدت علاقته بالسلطة أكثر. عرض عليه بن علي أن يكون محافظًا للبنك المركزي لكنه اعتذر مرشّحًا صديقًا له للمنصب هو محمد الباجي حمدة. ثم مكث لاحقًا عضوًا في مجلس الإدارة البنك المركزي، ممثلًا للقطاع الخاص، حوالي عشر سنوات.
خلال النصف الأول من التسعينات عاش النادي الإفريقي سنوات مجده. صادف ذلك بدايةَ شغفي بكرة القدم في بلدة صحراوية بعيدة لا تربطها بهويتها التونسية سوى ثكنات الجيش المنتشرة في كل مكانٍ وفريق النادي الإفريقي. في هذا الحيز التاريخي ولدت أسطورة حمادي بوصبيع. كان تلك السنوات المفعمة بالإنتصارات والألقاب والرموز والأغاني والأهازيج تنسج قصة خيالية لرجلٍ حقيقي. كنا نعتقد أن وراء هذا المجد قديسٌ مجهول لا أحد يعرفه ولا أحد يستطيع رسم ملامحه – أقله نحن أبناء المدن البلدات البعيدة عن مركز البلاد وعن باب الجديد حيث يتجول ويجلس – لا نعرف من هويته سوى اسمه.
ربما مرة أو مرتين شاهدنا صورةً يتيمة له في الجريدة. على مدى سنوات لاحقة حتى وفاته منذ أيام، لم تكفّ أسطورة “الأب الروحي” عن النمو والتعملق، حتى تجاوزت كل حد. فيما زادتها سنوات المحنة الطويلة التي تعرض لها النادي الإفريقي قوةً وصلابةً، فالأسطورة لا تنمو إلا في أوعية المآسي واليأس. وفي مسار ٍموازٍ كانت أسطورة صانع الجعة والبهجة لا تقل حجمًا أو صيتًا. لكن الخميرة التي صنعت كل ذلك كانت بلا شك هي التواري. الغموض والابتعاد عن الأضواء. مدمنًا للعيش في الظلال، كان بوصبيع يحرس أسطورته ويعتني بها، في زمنٍ راح يكشف عن قسوته للنادي الذي أحبه وأحببناه معه وللبلاد التي كان جزءًا من حكايتها المعاصرة.