لا مكان نعبر منّه إلى ما مضى، ولا سَبيل يُُخرج المكان بماضيه إلى حيز رؤيتنا الصرفة، فما من عابرين صوبه، مروا قبلنا، كي نستدل على أن الحَنِين لا يحمل وجعاً غير وجعه. بل إنَّ كلّ ما نراه هو وجع فائض، في التماس المكان، الذي ما عاد يحمل ذاكرتنا، نحن الغرباء عن أرض صارت غريبة، عن نفسها وعنّا، هُنَاكَ. نحن الغرباء في أرض غريبة، هُنَا.
بات الَحنِين، هو شوكُ السهولة في التذكر، وشوك الصعوبة في نسيان ماجرى! تدلني أمي على عناقيد عنب توشك على النضوج في وسط الدالية، وتترك لي وقتاً لأختار، عنقوداً واحداً، هو لي. تدلُّني الصَفَدِية على ما سيأتي إلى يدي، بعد أيَّام، لقد رأتني وأنا أحاول مدَّ جسدي الصغير، من على سور الدرج في البَيْت العربي القديم، بيت دمشق، كي أقطف عنقوداً لم تنضجه الشمس بعد. في الانتظار، قطفت ورقة من عَرِيش الكَرْم… أمضغ الورقة بين أسناني فيذوب ماؤها الحامض في فمي، قبل أن أبتلع مع الورقة صبر الحكايات، التي ترويها جدة أبي على مَسْمَعي، عن صفد، عن بُحَيْرة طبريا التي كانت تراها، من أعلى المدينة القديمة، في حارة الصواوين. عيناها الزرقاوان هما مهد حكايتي، وشعرها الأشقر غائباً في البياض، هو رائحة رطوبة أرض الدار، بعد أن ترشها بماء بارد من “فيجة” البَيْت، هي لا ترى، لكنني وأنا أراها… أدرك كم تراني، عبر آلام يديّها وقلبها؛ هذا هو المكان تشكيك في اللذة المنتظرة عبر التلذذ بحموضة اللهفة، واستساغة لحموضة الواقع، لتكون الحموضة هي اللذة ذاتها، لتكون اللذة هي ما لا يحدث، أو ما يحدث بعد حين.
لا ضير في الحَنِين إلى المكان، ولا حَرَّج. الحَنِين كما مطر من وراء نافذة، لا يخفي ماضياً، بل يجمله، يجعله مرتعشاً، هائماً. أما الرؤية المشوشة المهتزة، فهي غير قرينة بالمطر، بل إنها تخص ارتباك مشاعر أضحتْ ترهقنا اليوم، نحن السوريين، إذ تفصلنا المشاعر المضربة عن المكان الواقعي الذي ننظر إليه، سواء أكان هنا أم هناك. مشاعرنا مثل وحل على هذا الزجاج، من كثرة تعقدها وتشابكها وتماهيها مع المآساة، فكيف لنا أنْ نرى؟ مشاعر يختلط فيها، الكره والحقد، الغضب والحسرة، الدمع والأسى، الخسارة والفقدان. فلا رؤية للواقع من وراء نافذة ملأها الوحل، لا يمكن لنا في عَصْفِ المشاعر هذا أنْ نستَعِدَّ، كما تستَعِدّ الأمهات في الصباح، من أجل تنظيف نوافذهن، لرؤية العائدين من جهات الغياب. لا يمكن لنا حتى أن نتخيل المطر آتياً، عبر استبداله ذهنياً بوحل أغرق كل النوافذ. لقد أخفقَ الَحنِين، في رؤية المكان!
يُخفق الَحنِين، يُخفق لأن نافذته وهمية، معولمة، مبنية، في المفترض من وسائل التواصل الاجتماعي، فلا صورتنا القديمة الناقصة تلوح عبر صفحات على الفيس بوك، ولا ماهية صورتنا الراهنة تتوضح، لنصحو على ما نشكله حقاً في كَيْنُونَتنا! لقد أصبح المكان مكثفاً في حيز من الوهم، زرَّاً يُضْغَط، وعبارات تتخبط فيها العواطف، إضاعة ونفاد للصبر، في عقد كامل من الزمن.
لا بَرْزَخ هُنَا، في المكان المفترض الذي نجتمع فيه كي نشكل بلاداً، على شبكة الإنترنت، لا بَرْزَخ يأخذ لايكاتنا وتعليقاتنا، ومنشوراتنا، إلى ذاك المكان الذي كان، أو إلى المكان الذي صار، لذا نعيش في نَعِيّ الآسر من المكان الماضي، ثم في انكسار صورتنا على مرآة مشوهة، قُرابة عشرة أعوام، فهل حقاً: أنَّ ذاك المكان جميل مثلما هو في الأذهان؟
في الثمانينيات، كان القِطَار الواصل بين دمشق وبلدة سرغايا، يعج بالراكبين، كنت أنظر من نافذة القِطَار القديم، إلى الأمكنة التي يعبرها منطلقاً من محطة الحجاز، تركة دمشق من العثمانيين وضرائبهم، كنا نعبر بتمهل، تاركين خلفنا حي القنوات، الواقع خارج سور دمشق القديم، ليغيب الحي بقنواته الرومانية التي كانت تروي سابقاً دمشق بالماء، قنوات تظهر مَجْزوءة للناظر،كما كلُّ ماضي دمشق. ثم تغيب دمشق ويدخل القِطَار في بلدات خضراء، عبر الجبال ومصايف وادي بردى، نمُرُّ بالربوة، وبدمر، وبالهامة، حتى نصل إلى بلدة حدودية سورية – لبنانية، مليئة بالمنتجات التي لا يسمح بدخولها إلى البلاد، إلا تهريباً، لذا سيكون القِطَار فخاً، من أجل تهريب أثر الأمكنة الأخرى إلى سرغايا، وليس فقط قِطَاراً للتنزه، لمّا قررت أمي أن تصحبني في رحلة معها، إلى قرية أشجار الكَرَز فيها هي أكثر ما أتذكره، وآخر ما أريد تذكره من ذاك المكان.
نَجلِس على المَقعَد الخشبيّ، وفي الجِهَةِ المُقَابِلَة تجلس امرأة أربعينية. ترتطم أغصان الَأشْجَار بالنوافذ المفتوحة من القِطَار، بأحلام خضراءَ… وأوهام، تصرخ المرأة بصوت عالٍّ، أشاهد شيئاً صغيراً يضرب بقوة رأسها، أصاب بالذعر وألتصق بأمي، تضحك المرأة كما لو أنها تشد يدها على كَنْز، بعد أن تمسك بالمعتدي… ثمرة مشمش كبيرة، تباشر المرأة أكل الثمرة بشراهة، تعرض علينا أجزاء منها، لكبر حجمها، نصمت كما عادتنا في الرد على كلام الغرباء، تصمت أمي. ثم أتابع التحديق في الطريق، سيصاب الزجاج بشظايا الحجارة، التي يَرشُق بها المراهقون، نوافذ القِطَار المُسْرِع من أمامهم، وكأنهم يَرشُقون مكاناً لا يأخذهم إلى مكان. تتعالى أصوات الركاب بالشتم، وتعريف معنى العَيْب. لا أكترث لشيء كما عادتي، سوى لتخيل عدد الأشجار التي عبرت بها، وللتَحَقَّق من أنني لصيقة بأمي. أراقب الرجال يتهامسون حول خطط لشراء علب السجائر، أشيح ببصري عنهم، وأعود إلى النافذة المتسخة قليلاً، التي تُؤَكِّدُ لي، في كلِّ مرة أحَدِّق عبرها في المناظر، أنَّ الواقع مُهتَزّ، ومُتأرجَح.
ضَجَّة، هدوء، ثم جَلبَة وصيِّاح…في رحلة العودة، يسأل المفتش أمي عن رِّزْمَة الأغراض التي وضعت، تحت المقعد الذي نجلس عليه، تجيب أمي: أنها ليست لَنَا، يأخذ المفتش علب المناديل الورقية “بيروت” ويختفي، تصمت أمي. بعد بُرْهَة، يبدَّأ عراك بين رجلين، أحدهما يحمل علباً من الدخان، والآخر يدفع به بقوة أمام باب المقطورة، نسمع صوت ارتطام آخر قوي، قضي الأمر، الرجل الممسك بالسجائر يسقط من القِطَار، دون أي حركة أو رد فعل واحد من الرُكَّاب. لقد خالف الرجل الأوامر الأمنية، التي تمنع تهريب المنتجات الأجنبية إلى داخل الوطن، ومشكلته الكبرى، أنه رفض تسليم ما أخفاه عن رجال الأمن، سيمضي وقت كي أفهم أنَّ ما جرى ما هو إلا جزء بسيط مما يحدث، في زمن حكم الديكتاتور حافظ الأسد. فيما يقرر نظام الأسد، الآن وفي وقت مبكر، من العام ٢٠٢٠، فتح الاستثمار في محطة الحجاز، بعد أن تم إغلاقها وإيقافها عن تسيير الرحلات بين مدن سوريا، أثناء الحرب العنيفة ضد الشعب الثائر. يقترح النظام السوري على المستثمرين الروس أو الإيرانيين الذهاب من أجل التنزه في عين الخضراء، في محيط دمشق، أو السفر بالقِطَار إلى حمص، أو إلى حلب. إن أحداً لم يخمن أن يُسَيِّر الطغاة رحلات قِطَار إلى حقول الكَرَز، مدة عقود آتية.
هي ورطة الولادة في مكان ما مثل سوريا، إذاً، ما يُعَكِّرُ علاقة المَرْء مع مكانه، فيصبح متماهياً، مع مدن لا تتماهى معه، بل مع جَلاَّديها، من الوهلة الأولى. في دمشق تختزل هذه الورطة، لأنها مدينة تُسبغ عليها المفاهيم الأولى للمكان، المفاهيم البدائية البسيطة، عن مدينة لا تدافع عن نفسها، ضد الطغاة، بل تنزاح عن ثبات أرضها، كما تنزاح علَّة المكان، في عدم حريته، فتصير دمشق مدينة متحركة هائمة مُتَحَيِّرة، تُرى في كلِّ المدن التي يعبرها المَرْءُ، هارباً من الخوف، ومُتعقِّباً أناس الليل، الذين خرجوا مثله.
خوف دمشق، يتسرب إلى الريح، التي تَمرُّ فيها شتاءً، الريح التي تصفر في حديقة السبكي، بعد أن قُصَّت أشجارها، وتحولت سراديب أقبيتها إلى مكان اعتقال لمن يعارض نظام الأسد، أثناء السنوات الأولى من الثورة السورية. هُنَاك، في صورة حديقة السبكي، خلل ما أصاب الذاكرة، خلل أُلِحقَّ ببَحْرتها، وببَطّها، وبصنبور مَاءهَا، وبعرائشها. وكأنَّ الحديقة تتلاشى من ذاكرة الأطفال الذين عبروها، وكأن كُوخ الزحليقة الأسمنتي الصغير، في الأسفل، قد سد أمامهم حالما هبطوا من ذاكرتهم، بعد لَهوة أو خلوة عن الآخرين. تتلاشى دمشق من بين اليَديّن، كما لو أنها أسراب طيور، لا تثق يوماً بمن يتودَّد إليها.
في تلاشي المكان، يتقابل الوجهان الماضي والحاضر، مُتبرّماً كُلٌّ منهما بالآخر، فالإحساس الُحلْمي للماضي، قد اختلط بالواقع، عبر عين المكان القديم في الذاكرة، عين لا تزال أشبه بعين من لحم ودم، وسط التقاسيم المدمرة للمدن السورية. إنه الرابط الإنساني وحده، الذي يعيدنا إلى الطفولة والذاكرة، على الرغم من فقدان المكان هُنَاك، وعلى الرغم من تشوش المكان الذي لجأنا إليه هُنَا. لذا فإنَّ انزياح المكان القديم، عن معناه وفتنته، عن حدائقه وبساتينه، هو مزاحمة إضافية لمعنى وفتنة المكان الجديد. فلا نَّعيِم ولا جَحيم في المكانين، وإنما مكوث في بَرْزَخ، تعاش فيه لحظاتِ الفقد، مثلما تعاش فيه لحظات تجاهل هذا الفقد.
أدخل نفقاً طويلاً، في قناة “سان مارتان” المائية، تقودني ذاكرتي إلى مكان موحش من القلق، تحت أرض باريس، أسيطر على مشاعري متذكرة فيلم أميلي بولان، وبأن إحدى المتع الصغيرة لشخصية الفيلم، هي رمي الحجارة على سطح ماء القناة، وهي تقف على هويس عالٍّ؛ أتنفس وأعيد ترتيب الواقع، هُنَا لا شيء أخاف منه، لمَ تتزايد دقات قلبي، إذاً، في هذا النفق الطويل؟ كأنما أشك في إمكانية الخروج منه، أو كما لو أنني متأكدة من عدم هبوطي، من القارب إلى أرض الواقع. أتخيل نفسي عالقة خلف الهويس، الذي يحجز الماء الأعلى عن الماء الأدنى في القنوات المتتالية، أتجمد منتظرة انتقال القارب السياحي، من منسوب مياه إلى منسوب آخر؛ الشرح المطول عبر الميكروفون عن تاريخ القناة، لا يرجعني إلى إحساس الهدوء، لا تفيد أيضاً إطلالة نعبر من خلالها بفندق الشمال، (مكان أحداث فيلم يحمل الاسم ذاته)، لتغير من تخيلاتي المأساوية حول مصيري، بلا سترة نجاة. تنبهني سيدة أنَّ زرّ قميصي مفكوك، أتعجب من انتباهها لهكذا أمر، وأرى في سكينتها، مقياساً مرعباً لحجم قلقي. أعود مرة أخرى إلى لوم نفسي على توتري الشديد، من رحلة قارب تاريخية المنحى. ألم يكن هذا الانتظار في العبور، من هويس إلى آخر، تلخيصاً نفسياً لكل رحلة النجاة التي عشتها، هرباً من المكان القديم؟خلال الرحلة، أرفع الكاميرا كي أصوِّر مجموعات من اللاجئين جلسوا في خيامهم، المعدة للتخيم والترفيه في الجبال، على أطراف ضفتي القناة، يصرخ أحدهم باللغة الإنكليزية: لا صُوَر. أسمع من حرقة الصَّوْت، ما يذكرني بالضوء المترسب من أحد أنفاق مجرى المياه، كنت قد أوشكت على قطع التسعة أهوسة، مع ذاكرة جديدة عن تلاشي الخوف وتحوله إلى مشاعر ذنب، ربما لأن الصوت جعلني أستفيق على ما تعنيه النجاة، و على ما يربطها بالحياة. لكنْ، هكذا هو التمهل، مكروه حين عبور شخص مَلْهُوف القَلْبِ، من مكان… تبخر من يديه، إلى مكان لا يعرفه، ولا يمتلك صوته، فالمكان كائن صوتي، كي تفهمه، وكي يفهم ما تقوله له، عليك أن تتقن صوته، وصوته هو لغته الأم.
إنَّ الإِقْصاء والنفي، هو العوم في بَرْزَخ، لا يراه أحد غيرك!
في الحلم المتكرر عن المكان الأول، أذهب إلى بَيْت دمشق، أذهب مع الخوف لأتمشى في الشوارع والأحياء، أتحدث مع أهلي، وأمارس يوماً عادياً، مع حذر مُتقَن كي أتفادى رجال الأمن، أمشي في: عين الكرش، العمارة، الشعلان، دمشق القديمة… أحلق طائرة فوق دمشق، إنْ ظهر أمامي حاجز عسكري، أخفي جيداً وثائقي كلاجئة، بين ثيابي، وأفتح عينيّ حتى أخرج من الحلم إن ساءت الأوضاع، أو أرمي بنفسي من على شرفة البَيْت الداخلية، لأنني أعلم أنها الوسيلة الوحيدة حتى أستيقظ، في حال تَّمَادِي المواجهة الأمنية. أحياناً ما أطيل المكوث في دمشق، فأقرر فجأة العودة، إلى هُنَا، إلى المكان الجديد في فرنسا، خوفاً من الإمساك بي ليلاً، خوفاً من باب يدق بقوة، ومحقق ينادي علي باسمي الكامل… أهرع في أول الفجر البارد إلى شارع قريب، أستقل حافلة صغيرة، ستأخذني عبر أوتستراد صحنايا، إلى مطار قرية حدودية قريبة من بيروت، أتجه إلى نقطة عبور هي أشبه بمَقصِف على طريق دمشق- حمص، تشير اللافتة إلى أن النقطة هي قرية في أوروبا الشرقية، يخرج رجل دَمِثُ الخُلُقِ، يُومِئ بلغة إشارة الأصابع بِجُمَلٍ مُوَقَّرة، متمنياً لي رحلة سعيدة في اللامكان، أردُّ بالفرنسية أنَّ علي الإسراع، يسألني: أين كنْت؟ أجيبه: أن خطأ ما حدث، وأن الَحنِين إلى البلاد، هو وحده المسؤول عن تصرفاتي الطائشة.