في نهاية زقاق ضيق وطويل يتقاطع مع الشارع العسكري، حيث أحد أحياء مدينة جنين السكنية، يقع مبنى “الجمعية الخيرية للمسنين”، هذا ما تقوله اللافتة، لولا أن المراجيح والسحسيلة (الزحليقة) المهجورة في باحة المنزل توحي بأنه روضة أطفال، هناك أيضًا فوضى من بقايا الأسّرة والفراش الملقى والمقاعد التي لم تعد تصلح للجلوس. ثمة من ترك هذه الأغراض، ربما رماها متصدقون على عجل. أنا لست مستعجلة، وستسحبني هذه الزيارة الأولى لزيارات أخرى متتالية، وسيصبح وجهي مألوفًا لنزيلات ونزلاء الجمعية.
أين باب الجمعية إذن؟ ألتف حول المبنى عدة مرات قبل أن أجد الجرس، تطل سيدة وتشير بإصبعها نحو الباب الصحيح. في انتظار المصعد، أرى رجالاً مسنين يدخنون في مساحة صغيرة مليئة بالكراسي، أسمعهم يتحدثون دون أن أتبين فحوى كلامهم. في زياراتي التالية سأراهم هكذا جالسين وبينهم يرتفع الدخان والثرثرة.
نسبة المسنين في فلسطين 5% من إجمالي السكان ومعظم هذه النسبة من الإناث، رغم ذلك يصل عدد دور المسنين إلى عشرين دارًا تقريبًا في الضفة الغربية وقطاع غزة
هنا يعيش ثمانية وعشرون نزيلًا ونزيلة من المسنين، وقّع ذووهم اتفاقية مع الجمعية لتتولى الرعاية بهم، غالبًا بالرغم من رفضهم بحسب المرشدة الاجتماعية والنفسية أحلام أبو السباع المسؤولة عن القسم الخاص بالمسنّات في الدار.كان الرجال والنساء يعيشون في طابق واحد قبل أن يتم فصلهم. هنا تتكون العلاقات بين النزلاء بصعوبة شديدة، من العسير بدء الصداقات في عمر متقدم، من المتعذر بناء ألفة مع المكان. فما يحدث ليس مجرد انتقال في السكن، بل تحوّلًا كاملًا في نمط العيش وفي عمر لن يكون فيه التأقلم سلسًا.
في زيارتي الأولى، تجلس الستينيتان ختام وعفيفة أمامي، السخط والقلق يجلسان أمامي، نظراتهما مليئة بانعدام الثقة والخوف، كذلك الاستغراب من أسئلتي ومن تحول نساء عاديات إلى مواضيع للكتابة عنها. تصف المشرفة أبو السباع هذه المشاعر السلبية بالـ”حتمية” عند نزلاء الجمعية ونزيلاتها. ففي المجتمع الفلسطيني الفتيّ يُتوقع من الأسر رعاية المسن/ـة ويُفترض أن يظلّ بين أفراد عائلته أو في بيته حتى وفاته. وعندما يتحول مصيره إلى دور الرعاية يواجه المسن/ـة شكلًا جديداً من الانتقال القسري الذي يقف خلفه الشيخوخة والمرض ويشعر بالخذلان والتخلي.
صحيح أن نسبة المسنين في فلسطين 5% من إجمالي السكان ومعظم هذه النسبة من الإناث، رغم ذلك يصل عدد دور المسنين إلى عشرين دارًا تقريبًا في الضفة الغربية وقطاع غزة، ورقم 28 مسنًا في دار واحدة في جنين ليس بالقليل نسبيًا بالنظر إلى صغر المدينة وعدد المسنين القليل في الأساس.
أما الحياة.. زفت
على قدر ما تبدو الدار هادئة، إلا أن العلاقات داخلها لا تخلو من التوتر والمشاحنات، وهذه أكثر ما يحدث تشويقًا هنا ويترك فسحة للنزيلات بالنزاع على ملكية شيئ ما، شيء تافه غالبًا أو غير حقيقي في أفضل الأحوال. يبدأ الصراع مع المكان بمجرد الوصول، ويبدو أن التصالح مع البيت الجديد عملية عسيرة وطويلة الأمد وغير قابلة للتتحقق أبدًا على الأغلب.
ترى أبو السباع أن أساس التوتر اليومي هو الغيرة بين النزيلات، تنافسهن على الأشياء اليومية؛ نوع الطعام والاعتقاد بأن هناك ظلم في توزيع الكميات، في صحن هذه أربع قطع طماطم وفي صحن تلك خمسة، التواصل مع المشرفات، الخلاف على كلمة صباح الخير، من قالت ومن لم تقلها. ليس هذا فقط بل إن لدى السباع تأويلًا خاصًا.. “يردن تملك المكان بعد أن شعرن أن سنواتهن السابقة مهدورة، يردن التشبث يردن أن يأخذن كل شيء”، تكمل “تبدأ الغيرة بعد الشهر الأول من وجود المسّنة بالجمعية، وهي أصعب المشكلات التي تواجهنا.. عندما تصل المسّنة إلى هذا المكان تصبح مشاكلها مقتصرة عليه. يردن تملك الموظفات أو استعبادهن”.
ألا تبدو كلمات من قبيل “يأخذن كل شيء” و”استعباد” تعبيرات ضخمة على مشاجرات البندورة وصباح الخير! لو استعملنا لغة أبو السباع نفسها في التفسير، فإن المشرفات هنا يشكّلن السلطة التي دخلت على حياتهن لتحدد لهن القليل الذي يملكنه في المساحة القليلة التي يتحركن فيها، إنهن السلطة التي تشك المسنة في مدى وحقيقة عدالتها سيما وأن الخضوع لها منذ البداية لم يخل من شعور عميق بالظلم والعجز، لنقل إننا أمام نوع من النزاعات المشروعة، بل وربما الضرورية، على القليل الذي تبقى.
بينما تتحدث المشرفة وتتفرج ختام وعفيفة على حوارنا، قاطعتنا ختام لتعلن التأييد لكلام المسؤولة، تتحدث عن نفسها كضحية للغيرة والترصد، عن مراقبة النزيلات الأخريات لجسدها وعن مخاوفها من الحسد “يعتبرنني مدللة، يراقبن كل شيء حتى إن أكلت بشهية أو زاد وزني أو حممتني الموظفة، أظن أن غيرتهن سبب انتكاس حالتي”. كنا نتكلم عن العلاقات داخل هذا المبنى، كيف تتشكل أو ربما الأصح كيف أنها لا تتشكل، بينما هواء المكيّف البارد يترك قشعريرة مريحة تنفي الصيف القائظ في الخارج. اضطرت المشرفة للخروج فجأة لاستقبال نزيلة جديدة، وبقينا أنا وعفيفة وختام وحدنا، نظرت إلى الأولى وسألتها.. “أنتِ سعيدة هنا؟”. أجابت.. “هنّ (لم أدرِ تقصد الموظفات أم المسنّات) متقلبات، ساعة هيك وساعة هيك. أمّا الحياة.. زفت”. فجأة قاطعت ختام “كنت زمان قوية ونشيطة، اليوم أقرأ القرآن بس، ياريت أرجع ألقّط زعتر”.
أفراد في المؤسسة الكليّة والعطالة الاجتماعية
يمكن فهم العلاقات داخل دور المسنين من خلال مصطلح “المؤسسة الكليّة” الذي صاغه عالم الاجتماع الكندي إرفينغ كوفمان، أي جمع عدد من الأفراد يشتركون في شيء ما للإقامة في مكان مشترك، وإجبارهم على نوع من المطابقة المجتمعية. يندرج تحت هذا الوصف دور الأيتام، مستشفيات الأمراض العقلية، أماكن الحجر الصحي، بل وأيضًا معسكرات الاعتقال والسجون، المدارس الداخلية، ثكنات الجيش والأديرة..إلخ. الفكرة خلف هذه المؤسسات تقوم على عزل عدد من الأفراد وجعلهم جزءا من مجموعة جديدة لعدة أسباب، منها إخفاء مجموعة ما عن المجتمع.
في المجتمعات الغربية الهرمة مثلًا، على عكس العربية، توسعت صناعة دور رعاية المسنين بسرعة، حيث يجري إخفاء كبار السن، أو بكلمات ستيفن لامرز في كتابه “الطب الأخلاقي”.. “يجري دفنهم قبل وفاتهم بوقت طويل في طيات مؤسسات الرعاية، مخفيون، بعيدون عن الأنظار وبعيدون عن الذهن”. لكن عملية الدفن في المؤسسة هذه لا تقتصر على المجتمعات الهرمة، بل إنها تبدو جزءًا من ترحيل المسن من منزله إلى الدار في أي بيئة كانت.
في المجتمعات الغربية الهرمة، يجري إخفاء كبار السن، يجري دفنهم قبل وفاتهم بوقت طويل في طيات مؤسسات الرعاية، مخفيون، بعيدون عن الأنظار وبعيدون عن الذهن
لكن المفارقة أنه وبحسب دراسة “بيوت المسنين في الضفة الغربية وقطاع غزة” فإن أكثر من 9% من نزلاء دور المسنين في فلسطين يلجؤون إليها بمحض إرادتهم، دون أن يعني ذلك بالضرورة أنهم سعداء بالانتقال، لا سيما وأنه ليس الانتقال الأول ولا الثاني لبعضهم إذا فكرنا في حركة التهجير واللجوء الفلسطيني في الداخل.
في مثل هذه المؤسسات الكليّة يدافع النزلاء عن توقعات الموظفين المشرفين عليهم بدافع الخوف أو الانسحاب، ومع الوقت يتطور نوع من الامتثال الطوعي حيث تعزز دور رعاية المسنين أنماط السلوك التي تتميز باللامبالاة وفقدان الاهتمام والخضوع، ويشار إلى أنماط السلوك هذه بأنها “متلازمة التعطل الاجتماعي”، والناجون منها في الدور قلة، ويعتمدون على استخدام الإغراءات أو العنف والإكراه والتمرد لكسب دعم الأقران أو خدمة الموظفين.
وقائع وصول نزيلة جديدة
في زيارتي الأولى، وصلت سيارة إسعاف تحمل امرأة في الأربعينيات من عمرها، أصيبت الخياطة فايزة بجلطتين أقعدتاها عن عملها الذي اعتادته لسنوات طويلة، وأصبحت العناية بها صعبة لا سيما وأنها لم تتزوج وكانت تعيش في بيت شقيقها الذي حضر مع الإسعاف. ويبدو أن طباعها تغيرت مع فقدانها عملها وصارت أكثر نزقًا وعنادًا وأقل صبرًا، وفاقمت عدائيتها الجديدة من صعوبة الرعاية بها.
دوّنت أبو السباع مواعيد أدوية فايزة في ملف خاص ستتولى مسؤوليته إحدى المشرفات لاحقاً، ووقعت الاتفاقية مع أخيها الذي وعد بزيارتها أسبوعياً. لم تصل فايزة بعد للسنّ القانوني الذي يخولها لدخول الجمعية، لكنها حالة استثنائية ومع وصولها ارتفع عدد المسنين واحدًا، بتوقيع أخيها جرى نقلها ضمنيًا من أربعينياتها إلى الشيخوخة، وسوف تتشارك مع النزيلات أنها امرأة، وأنها عاجزة، وأنها مثل معظمهن لم تتزوج.
في زيارتي الثانية، كانت فايزة ما زالت جليسة فراشها، لم تغادر الغرفة ولم تشارك الأخريات شيئًا. تشعر بالعطش المستمر ولا تميز الأيام من بعضها، ولكي لا تسقط في الليل وهي نائمة وضعوا الحواجز على سريرها. سألتها ماذا أحضرت معها من البيت، ردّت.. لا شيء ولا حتى الماكينة.
تعاني فايزة من آلام الانفصال عن ذاتها القديمة، تتنازعها مشاعر متضاربة بين الخجل من أنها أصبحت عبئًا على ذويها وبين الشعور الغائر بتخليهم عنها، بين خسارة الجسد العامل للجسد العاجز، وضرورة استيعاب الهجرة من العائلة والبيت الحاضن والخاص إلى الغرباء في الدار الراعية والعامة.
إنها أحدث النزيلات، لذلك تجد المشرفات أن عزلتها وانطوائيتها مفهومة، ويعتبرنها في مرحلة البراءة. أما المرأة الملقبة بـ العمدة، رفيقة الثمانينية فهي النزيلة الأقدم والأكثر تمردًا وتنمرًا، صحيح أنها فاقدة البصر لكنها تعتمد على حاسة الشم والتذوق لانتقاد الطعام، وحاسة السمع لافتعال المشاكل، وعلى لسانها لتنكيد حياة الأخريات، مشكلة رفيقة كما تقول لنا بنفسها ورائحة غداءها تفوح منها، البازلاء والأرز.. “أنا لا أحب شيئًا سوى بيتي… هنا لا يتركون الرز يستوي”.
ربما تحتاج المرأة إلى دعم الطبيب النفسي، لكن المشرفة تحسب حسابًا لذكاء رفيقة ولقدرتها على خداع الطبيب نفسه وتمثيل اللطف، “لن يكشفها” تقول أبو السباع، مشيرة أيضًا إلى قلة الأطباء النفسيين في جنين.
يكشف حكم أبو السباع عن صدامية ضمنية مع رفيقة واليأس من إدماجها، والاعتقاد بقدرتها على الخداع والتحايل، ربما أن شخصية العمدة أفقدتها تعاطف العاملات في الدار، لا سيما وأن المشرفات لا يحملن مؤهلًا جامعيًا يساعدهن في فهم رعاية المسنين وإدارة العلاقات بينهم، فيتعاملن وفق تجارب مجتمعية مكتسبة يلعب الدور الرئيسي فيها عوامل إنسانية ودينية.
لا تحمل المشرفات مؤهلًا جامعيًا يساعدهن في فهم رعاية المسنين وإدارة العلاقات بينهم، فيتعاملن وفق تجارب مجتمعية مكتسبة يلعب الدور الرئيسي فيها عوامل إنسانية ودينية
رغم ذلك يحسب القائمون على الدار أن لديهم برنامجاً لتبديد هذا الحداد الذي تعيشه فايزة ولتطويع التمرد الذي تمارسه رفيقة، وأنه برنامج متنوع، فحياة المسنات خلال اليوم موزعة بين الصلاة والأكل والرياضة الممكنة على كراسيهن المتحركة والتي تجدها كثير منهن عبثية.. “ليه بنلعب رياضة؟” تسأل إحداهن باستنكار قبل أن تفلت ضحكة منها، ويمكن مشاهدة الأخبار، ثم استقبال المتطوعين وترك بعض الوقت للمشاكل بين النزيلات ثم فضّها.
الروتين الذي تجده الدار مرضيًا هو نفسه بيئة خصبة للصراعات في حياة بلا أدوار، حتى الطبخ، لغة الحب التي تعرفها النساء الكبيرات، أصبح خلفهن.
إعادة تدوير الوحشة والعلاقات
تعيد شامة تدوير الأشياء؛ زجاجات قديمة، علب، خرز، ترتر وورد بلاستيكي، وتحب الألوان الحارة. يسمونها فنانة الجمعية وهي تحاول أن ترسم حياة وتعلقها على الجدار أو تضع مزهرية مصطنعة على الطاولة. بدا لي أنها تحاول التقرّب من المكان، فالدار نظيفة ومرتبة لكنها جرداء أيضًا، الجدران بيضاء وخالية من الصور واللوحات، النوافذ مفتوحة وتطل على جدران العمارات الأخرى، صالة الجلوس واسعة والمقاعد بنية وكئيبة ولا أحد يحتاجها تقريبًا.
النزيلات بعيدات عن قرى جنين المجاورة التي أتين منها. تعيش كل اثنتان منهما في غرفة، ولكل واحدة سرير وخزانة ومروحة ويعطونها راديو أيضًا عند وصولها. وحتى إن وجدت غرف شاغرة، فعلى المسّنات أن يعشن متشاركات وفق قواعد الجمعية، وهو ما تتقبله المسّنات على مضض.
في المقابل خلقت هذه القاعدة عند البعض شيئًا من علاقات المساندة؛ فالقادرات يخدمن بشكل بسيط العاجزات تماماً، كأن يتبادلن تقطير العيون لبعضهن، وتؤنس القوية منهن الخائفة من الظلام، وربما تتلهى الأرقة منهن بالاستماع إلى أنفاس زميلتها وهي تغط في نومها. ولا تمنع هذه الألفة العابرة من شعور المسنة التي تمشي بالتهديد لأن لديها ساقين سليمتين، فتحسب كل نظرة تسددها الأخريات إليها وهن على مقاعدهن المتحركة حسدًا قاطعًا وقادرًا سيتسبب في شللها. حدث هذا فعلًا مع ختام التي تؤمن تمامًا أن تلك الرغبة الخفيّة لدى الأخريات في أن تصير مشلولة مثلهن طاردتها إلى أن تحققت وأقعدتها فعلًا بمجرد النظر، حتى وإن كانت النظرات من امرأة عمياء.
تخدم القادرات بشكل بسيط العاجزات تماماً، كأن يتبادلن تقطير العيون لبعضهن، وتُـؤنـِس القوية منهن الخائفة من الظلام، وربما تتلهى الأرقة منهن بالاستماع إلى أنفاس زميلتها وهي تغط في نومها
في القاعة ترسم شامة الستينية شجرة على ورقة، اسألها ماذا يعني لك الجذع فتقول.. “دار آمنة أعيش فيها”، أسألها عن الجذور تقول.. “العيش بكرامة”، أسألها عن الورق المتساقط تقول.. “بيت الأهل السابق”.
توشك زيارتي على الانتهاء، وبينما أستعد للمغادرة بدأت النساء بجر كراسيهن المتحركة -باستثناء اثنتين- يتنقلن ما بين غرفهنّ والصالة ببطء، بعضهن دلفن إلى مكتب المرشدة ليحادثنها قليلاً قبل أن يعدن لصمتهنّ، الذي غالبًا ما يقطعه صوت إحدى المشرفات أو دوران المراوح أو غسل أواني المطبخ أو نداء ملّحّ لمسنّة، إنهن في الداخل، على العكس من المسنّين الرجال، نزلاء الجمعية الذين يجلسون في الخارج معظم الوقت، يتوارون من أشعة الشمس تحت ظلال خفيفة في حديقة الجمعية.