كنتُ طفلاً -وهذا أمر عجيب، فهل يولد الناس مثلي أطفالاً؟- وكانت لديْ أحلام غرسها أبي في عقلي، بأن أسافر كما فعل، إلى تونس ومصر وألمانيا وأمريكا وسوريا والجزائر والمغرب وكل البلاد التي وطأتها أقدامه، لكن هذا لم يكن ليحدث إلا بعد سنوات.
عشتُ في ليبيا في حيّ الحومة، في بلدة تاجوراء شرقي طرابلس؛ كانت تاجوراء مليئة بالمرّوكيين والتوانسة والسوريين (أو كما أحببنا تسميتهم بالزلامات) والدزيرية والمصاروة وأبناء البلاد خلف الصحراء الكبرى. لم يكونوا الصورة التي رغبت بوجودها في مخيلتي عن تلك البلاد. تخيلتُ كل البلدان بدون ناس، لا حلاقين كخالد المرّوكي في الكازابلانكا، لا فتيان يعملون في الفلاحة كمْحَمَد في المنيا، ولا فتاة ضخمة في تستور، اسمها منال تقبل وجنتيْ في زياراتها من تونس إلى بيتنا.
كان الأجانب جزءاً من قريتنا. في كل ضحى، أمر بشارع القاهرة في جولة تسوق أشتري الخضار والفواكه وما نقص من حاجيات البيت، شارداً في الطريقة التي ستجعلني أسترق ولو ربع دينار واحد من الميزانية لأشتري بها الحلوى. تمر في أنفي رائحة الثوم عندما أمر بحائط الشارع. تتسلل إلى رأسي كلمات أحد الأطفال يخبرني أنّ المصريين يصلحون مسألة طعامهم القذر بالإكثار من الثوم، السود أبناء ما خلف الصحراء، يضعون الحليب في الأرز، شاهدتهم بأم عيني في حوازتنا يضعون الحليب. أما التوانسة، فهم بالطبع يغشون الزيت الذي يقلون به الاسفنز، حقيقة علمية. أسأل نفسي: لماذا يفعل الأجانب كل هذا؟ لماذا لا يلتزمون بطعامنا؟
وكان لون الدم أحمر..
ولدتُ عنصرياً ربما.. امسح هذه الكلمة، لا أحد منا يولد عنصرياً، لكن العنصرية تولد فينا منذ أن نرى الآخر المختلف الذي نجهله، أخبر نفسي. في التاسعة من العمر، عرفتُ واحداً من أبناء شارع القاهرة، لم يكن الشارع شارعاً بمعنى الكلمة، كان حياً صغيراً بين أربعة جدران في مساحة سكانية قديمة، كان مليئاً بأبناء المنيا والسلّوم والسود القادمين من النيْجر وتشاد ونيجيريا ليسرقوا نقودنا، كما يقول لي الكثيرون، ليأكلوا من لحم أكتافنا ومن ثمّ يسبوننا عندما يعودون إلى بلدانهم. هذا الذي عرفته كانت جنسيته غريبة عن الشارع، أبناء جلدته المرّوكيين والتوانسة والدزيرية عادة ما يعيشون معاً في شوارع أخرى، فكرتُ أنّ الشارع الملائم لهم سيكون اسمه كازابلانكا، حيث يضيفون الكثير من البصل للكسكسي، بدلاً من الثوم.
كان شاباً ثلاثينياً، يرتدي سروال جينز وقميص أبيض عليه صورة مادونّا، ملابسه ملطخة بألوان الطلاء، بدت ألوان الطلاء كبقع من قوس قزح تنتشر على ملابسه، بأشكال ومساحات مختلفة. كان يشبهنا في الجلدة، مزج الله في جلده اللونيْن الأحمر والبنُي، أسمي هذا اللون ” اللون الليبي”، لون أشاهده دائماً في جسد أبي عندما يغطس بي في البحر. لكن ملابسه والكلمات التي اختارها تذكرني بالحسّان خالد المرّوكي. الشبه بين خالد المرّوكي والشاب خالد جعلني أظن أنّه دزيري، حلاقي المفضل الذي كان يسميني ” باش مهندس”. بدا هذا الشاب الثلاثيني شبيهاً بخالد المرّوكي، كان اسمه الأزرق، قلتُ لنفسي عندما سمعت الاسم، أنّه ” الأزرق” لأنّه أسطى طلاء.
كان الأزرق يطلي كل جدار من جدران بيتنا، صحبة عامل ليبي شاب كان واضحاً عليه الاعتداد بنفسه، به بعض من الغرور، كان واضحاً أنّ الأزرق هو “العرفي” أي رئيس العمل، لكن تصرفات الشاب تنبئ أنّه يحاول قدر المستطاع أن يملي ما يراه مناسباً على الأزرق. كان الأزرق أجيراً لدينا لأيامٍ عشرة، أحياناً أجلس لأبي أسمع ما يتحدث به معه عن المدن الخيالية التي زارها، أغلب المدن التي زارها أبي عرفتها فقط من حديثه مع الأجانب، كنتُ معجباً بكل القصص التي عاشها، وأشعر بالفخر عندما يتحدث عن مقهى جلس فيها ويخبره الأزرق أنّه لازال كما تركه وأنّ الرجل صاحب المقهى لازال حياً يتنفس يجلس ذات الجلسة التي تركه أبي عليها.
أحياناً أخرى، كان أبي مشغولاً بحياته الأخرى في المزرعة التي نسميها الحوازة، وتعيّن عليْ أن أنقل الشاي والماء والقهوة والغذاء والإفطار للعمال، وقبل أن أنطلق، تجذبني أمي لها وتخبرني أن لا آكل من ما يأكلون أو أشرب من ما يشربون، وتخبرني أن أحذر من المغربي؛ أمي كانت – ولازالت- تخاف من كل شيء، تخاف من الوحدة ومن الحشرات والجن والشيطان واللصوص المحتملين والأجانب المسلمين منهم واليهود – كانت ترى أنّ كل من ليس مسلم محافظ على صلاواته الخمسة هو يهودي-. كانت ترمي بالصحون والدلاء والأواني التي يستخدمها العمال بعد أن تنتهي مهمتهم، أما في مدة عملهم لدينا تحفظها بعيداً عن الأواني الأخرى، فكرتُ أنها تعاملها معاملتها لأواني الضيوف، تلك التي تحرم عليْ اقترابي حتى من خزانتها.
ولأنني كنتُ فضولياً خجولاً، كنتُ أراقب الأزرق ورفيقه الليبي يغسلون حيطان الغرف بالألوان، أراقب حركة أياديهم والجلاية والفرش، كان الأزرق عندما أحضر الشاي، ينزل من السلّوم، يغسلُ يديْه في الدلاونتي فتختفي الألوان من يديه وتعود حمراء، ومن ثم يجلس بالقرب مني ويحدثني كأنني صديق له، لم أكن أبادله الكثير من الكلمات، أحياناً كنتُ أوجه له الأسئلة عن البلاد التي جاء منها وهل يسمع للشب خالد كما أسمعه، كان يجيب عن أسئلتي بمرح، يخبرني أنه جاء من الرباط، يقول أنّ الرباط هي عاصمة المغرب، أخبره أنّ الدار البيضاء هي العاصمة.
يضحك من جهلي ومن ثم يحكي لي حكايات أسطورية عن الرباط، أحاصره، أسأله ما إذا كان هناك سحرة في الرباط أيضاً، أعرف أنّ المغرب مليئة بالسحرة، فأول مرة تعرف فيها أمي أنّ مغربياً جاء ليصلح لنا لون الجدران، أسرعت تبحث عن كل شعرة قد تكون نستها في البيت وتخبئها في كيس تحفظ بعيداً عن الأعين، أخلت البيت بأكمله من الملابس والأدوات وكل أثر قد يقع عليه الساحر الذي سيسلط سحره على بيتنا. يضحك الأزرق مجددا من السؤال الطفولي، ويخبرني أنّه نعم، هناك سحرة كثر في الرباط، في الواقع بعضهم يخرجون الكنوز من باطن الأرض، أفكر، ما إذا تمكنت من إيجاد ساحر مغربي يخرج لي الكنز الذي أخبرني صديق أخي بوجوده بالقرب من البحر.
لم تكن أمي الوحيدة الخائفة من المغاربة في الحي؛ أمي هي مجرد ضحية؛ إذ رغم خوفها غير المبرر، تجدها تعد لهم أفضل السندويتشات وتحرص دائماً أن يأكلوا من ما نأكل منه، ولكنها كانت تخاف الاختلاط بأي أجنبي، خصوصا أولئك الذين تتربط سمعة بلادهم بالسحر، ككل البلاد التي حول ليبيا.
الحي كله كان يخاف من المغاربة، الجميع يعرف أنّهم سحرة، ابن الحاج عطيّة هرب من بيت العائلة واختبأ في أحضان مغربية سلطت أتباعها الجنّ عليه وتزوجته وسرقته من عائلته، تبرأ الحاج عطية من ولده وأقسم أن لا يدخل بيته ما دام حياً، وبالفعل، عاد ابنه لبيت العائلة لأول مرة، في جنازة أبيه.
خالد المرّوكي نفسه كان ساحراً، قبله، كنت أكره الذهاب إلى الحلّاق لأتخلص من شعري الزائد، وعندما احتل محل الحلاقة في حافة شارع القاهرة، كنتُ دائماً ما أتحيل الفرصة لأحسّن رأسي عنده، وبعدما ذهب لوطنه، عدتُ لكرهي للحلّاق، أفكر أحياناً أنّ أول مهمة لي في المغرب عندما أزورها، ستكون زيارة خالد في كازابلانكا ليخلصني من لعنة كراهية الحلاقين.
انتهى الأزرق من طلاء بيتنا، بعدما فعل، ظل يعيش في شارع القاهرة، في جراج معزول عن الشارع ويطل على الشارع الرئيس تحت شجرة الخرّوب، أحياناً أمر بجانبه في العشية وأحادثه لدقائق قبل أن أذهب لحياتي.
في ضحى يومٍ تخلص فيها بيتنا من رائحة الطلاء الذي خلفه الأزرق، مررت من شارع القاهرة، كالعادة رائحة الثوم القويّة تفوح من الجدران، أهازيج العمّال المصريين وأغنية لأم كلثوم تتسلل من إحدى الغرف الملاصقة للزقاق الترابي، وبعض العمال السود المستعدين للبحث عن لقمة العيش يخرجون من الباب المطل على الزقاق. فكرت ما إذا كان كل هؤلاء يعرفون أننا نسمي الزقاق شارع القاهرة، لا شارع نيجيريا أو تشاد.
أخرج من الزقاق وأمر من جراج الأزرق، أتخيّل المكان، ربما أقول لنفسي، به سرير صغير، خزانة عليها صور للشاب خالد وشماعة عليها ملابسه التي يرتديها للعمل، ومسجلة تصدح بالأغاني المرّوكية، كتلك الأغاني التي كان يسمعها عمّي النوري قبل أن يرحل عن الدنيا، وخلف الباب صندوق به مجموعة من الأحجبة لممارسات السحر.
ظل الأزرق وشبحه حاضر في الحي، أغلق صاحب الدكانة المحل لسنوات، وأصبحتُ أخاف مجرد التفكير من المرور بالدكانة..فالكل بدأ يعرف أنّ “غولة” الأزرق سكنت المكان. خفتُ من الأزرق ميتاً، لم أخافه حياً.
أنعطف يساراً للدكانة الملاصقة لشارع القاهرة، أتخطى الجراج، البوابة الرئيسية الكبيرة لشارع القاهرة حيث أختلس نظرة للعمال، أحدهم يقرع الباب على حمام خارجي ينادي صاحبه بلغة لم أفهمها، أجري قبل أن يراني، أصل الدكانة، أدخل.
أجد الأزرق يختبئ خلف صاحب الدكانة، يبتسم في وجهي، أبادله الابتسامة، آخذ بعض الحاجيات وأظل أكثر بحثاً عن البسكويت الملائم، أشرد في أنواع البسكويت المرصوفة، أضع البضاعة على المصطبة، يلملمها الرجل ويضعها لي في كيس، يخبرني الأزرق بصوت مجروح لم اعتده ” سلم لي على والدك”، أتحرك نحو الباب، ولكن قبل أن أخرج، يدخل ذلك الشاب الليبي، رفيق الأزرق، عيناه بهما شرر مصوّب نحو صديقي المغربي.
يحتمي الأزرق مجدداً بصاحب الدكانة، يمسك بكتفه بشدّة، يغرسُ أصابعه، يتحدث صاحب الدكان للفتى ويدعوه أن يستهدي بالنبي، يزيح الشاب صاحب الدكان بقوة ويرميه أرضاً، يخرج سكيناً كان ملتصقاً بمؤخرته بين قميصه الأبيض وسروال الجينز، ملابس الطلاء تماهى فيها مع عرفيّه. يطعن الأزرق في بطنه، يتدفق الدم من جثة الرجل المغربي، كان لون الدم أحمراً.
خرجت بعد ساعات أحاديث تلخص ما حدث للأزرق، قيل أنّه سحر أجيره الليبي وسرق ماله وسلط أقوى الجان عليه ليتحكم في عقله، وعندما تخلص الشاب من الجني، أراد أن ينتقم، سلم نفسه بعد ذلك لمركز الشرطة، لم أبحث في قصته. لكن ظل الأزرق وشبحه حاضر في الحي، أغلق صاحب الدكانة المحل لسنوات، وأصبحتُ أخاف مجرد التفكير من المرور بالجراج والدكانة، فالكل بدأ يعرف أنّ “غولة” الأزرق سكنت المكان. خفتُ من الأزرق ميتاً، لم أخافه حياً.
هجوم بالحجارة على مْحَمَّد
في المزرعة أو الحوازة، بعيداً عن الخوف من الأشباح ومن حيّ الحومة، كنتُ أقضي العشية مع والدي أرعى الأغنام أو أغطس صحبة أبناء العائلة في الجابية؛ كانت الجابية مسبح أبناء الريف من أمثالي، أبناء المدينة يسبحون في المسابح ونحن نسبح في الجابية التي يستخدمها الأب في الريْ، وكالعادة، لم تكن أمي توافق على سباحتنا في الجابية، أولاً، لأنها كانت مليئة بالطحالب، وثانياً لأنّ المصاروة كانوا يعومون فيها أيضاً.
كان لأبي أجراء مصريين من المنيا بعدد لا يمكنني أن أحصيه الآن، أحدهم كان أبو سعيد، رجل يفوق والدي في العمر، لكنه دائماً ما يناديه “يا حج حسين”، يحذف أبو سعيد الجيم ويحولها كما يفعل أبطال السينما المصرية إلى قاف مشوّهة.
لأبي سعيد ابنيْن كانا يعملان معه في المزرعة، أحدهما بالطبع سعيد، والثاني محمود، كان هناك مصاروة آخرون يعيشون في الحوازة معظمهم لا يعملون لصالح أبي كما أنّهم لم يدفعوا الإيجار، لكنهم أحياناً يساعدونه في بعض الأعمال الشاقة.
فتى بين كل أولئك، تربطه صلة قرابة بأبي سعيد، حسبما أذكر أنّه ابن أخته، أصبح من ساكن للحوازة إلى عامل آخر مع أبي عندما قرر كل من سعيد ومحمود أنّ لا يعيشا بعد الآن، في جلباب والدهما. كان ذلك الفتى يكبرني بسنواتٍ خمس، اسمه مْحَمَّد، ليس مَحَمِّد كما ننطق نحن الليبيون اسم الرسول.
لم يكن لديْ شخصياً مشكلة مع مْحَمَّد، في الواقع، كان صديقي في الحوازة، أجلس أحياناً بعيداً عنه وأراقبه يعمل، كنت أحقد عليه فقط، عندما يجبرني أبي مع أخي أن نرعى الأغنام. كرهتُ عادة رعيْ الأغنام رغم إصرار أبلة الدين أنّ الرسول وإبراهيم وموسى وحتى إسماعين كلهم كانوا يرعون الأغنام. كانت أغنامنا كائنات شيطانية تتسلق الأشجار التي حرم أبي علينا أن نتركها تأكلها، تهرب إلى الحظيرة قبل أن ينهي هو وضع العلف وتغيير المياه فيها.
أحياناً كانت تفعل ذلك ونتحصل إثر أفعالها على جلدات تؤنبنا على كسلنا، عندها فقط كنتُ أكره مْحَمَّد. غير ذلك، كنتُ أجلس مع أبي يتحلق العمال حوله، يتبادل الأرجيلة بينه وبين أبي سعيد ويتحدثون عن مبارك والقذافي، ويشربون الشاي من الكأس نفسه. كنتُ في مراتٍ قليلة أتشجع متخلصاً من وصايا أمي أن لا أشرب مما يشربون وأشرب الشاي معهم، أتساءل إن كانت أمي ترمي الوصايا نفسها مع أبي، الرجل لا يتوقف عن تبديل مبسم الأرقيلة مع أبي سعيد. أخلص أنّ أبا سعيد ليس ككل المصاروة على أيةِ حال؛ فقد عرفته في المزرعة منذ أن عرفتُ المزرعة ذاتها.
عندما يغيب أبي عن مزرعته، هناك تتغير المعاملة مع كل العمال المصاروة، وخصوصا مع مْحَمَّد.
كان للجميع الحق في التدخل في عملهم، مرة رأيت أحدهم يجلد مْحَمَّد بالعصا ويضربه ضرباً مبرحاً؛ لأنه عصى له أمراً، والعصا لمن عصى. كنت أجده بعد ذلك يجلس بعيداً تحت إحدى أشجار البرتقال باكياً، كان قلبي يرق له، أخاف أن أخبر أبي بأنّ ذلك الأحدهم ضرب مْحَمَّد، فهو نفسه لن يخبر الحج، سيمارس حياته الطبيعية في المزرعة بعد أن تلتئم جراحه، وسينادي على كل ما يراني في يوم جديد مرحّباً بي.
أحياناً أحدهم آخر كان يصفعه في وجهه، أحياناً أخرى كان مْحَمَّد يتعارك مع آخر إذا كان سنه مناسباً للتحدي، لكنني لم أجده يوماً يشتكي لأبي من المعاملة التي يتلقاها؛ كنتُ متأكداً أنّ أبي سيقف في صفه، فقط إن فعل. لم يتخلى مْحَمَّد عن أبي كما فعل الكثير من العمال، بقى عاملاً معه لسنواتٍ طويلة حتى عاد إلى المنيا ليستقر فيها ويتزوج حبيبته التي أخبرني ذات مرة عنها.
في الطريق نتحضر لغزواتنا ضد الكلاب والمصاروة والسود الذين يجلسون فوق الكوبري منتظرين الرزق أن يتوقف ويقلهم لمهمة جديدة، أحياناً كنا نصيب بعضهم بكدمات ونضحك.
كنا أحياناً نسخر من لهجة مْحَمد المصرية، جملة واحدة الآن عالقة في دماغي، كان أخي بطريقته العجيبة في تقليد الناس يقولها له كلما رآه. عندما يرى محمد عمّي عبد الحميد في المزرعة يباغته بسؤال إذا ذهب للسوق أم لا، ومنذ ذلك اليوم كان أخي يناديه ” امْحَمااااااااااد، رُحت السوء؟!”. يضحك محمَد ويخبره أنه للأسف لم يفعل، فقد قضى اليوم كله في الاعتناء بالأغنام اللعينة. كنّا أطفالاً، حمقى ولا نعرف أي شيء عن الآخر.
أحب أبي المنيا وأحب مصر وأم كلثوم وعبدالحليم وأبا سعيد، يناديها كما يفعل أبو سعيد بـ “أم الدنيا”.
تحكي لي أمي أنه عندما تزوجها، ذهبت معه ضيفة في إحدى ليالي رمضان عند عامل مصري قديم عنده، وعندما جلست في نفس السفرة مع زوجته، لم تأكل أياً من الطعام، خوفاً من المرض، كانت تتحجج أنّها ليست في مزاج ماعدة جيد وبأنّها لا تأكل بعد المغرب مباشرة، بينما كان أبي يلتهم كل شيء أمامه. لستُ هنا في مكان الدفاع عن أمي – أو ربما أنا كذلك، فمن منا يريد أن يخرج أمه بصورة سيئة كهذه للعالم؟- لكنها ولليوم، لا تأكل من أي مكان خارج بيتنا، حاولت مراراً أن أحضر لها قطعة من البيتسا من أحد المطاعم المشهورة في طرابلس وكانت تتمنع دائماً منها، تخبرني “حشاني ناكلها”.
قبل مْحَمَّد لم يكن يرق قلبي للمصاروة في العموم. كنا نركب في الصندوق الخلفي لسيارة أبي العكّاري (البيك آب) في طريق العودة من الحوازة، حيث يختفي إلمامه بما يحدث حوله ويشرد في الطريق. قبل أن نركب، كنا قد ملأنا الصندوق بقشر البطيخ – إن كان صيفاً- والحجارة، وفي الطريق نتحضر لغزواتنا ضد الكلاب والمصاروة والسود الذين يجلسون فوق الكوبري منتظرين الرزق أن يتوقف ويقلهم لمهمة جديدة، أحياناً كنا نصيب بعضهم بكدمات ونضحك. لكن بعد محمَد خفت من أن أفعل ذلك، شعرتُ بأنّ كل هجوم على الكلاب والمصاروة والسود هو هجوم على مْحَمَد نفسه. هجوم على صديقي.
لكمة.. من صديق إلى صديق
ولأنّ للقدر طريقته في الانتقام، وللأيام والتجارب طريقتها في التعليم، تمكنتُ أخيراً من السفر خارج تاجوراء، خارج ليبيا دفعة واحدة. كان أبي يحب تونس، لم أجد ليبياً يعشق تونس مثله، أحياناً كنتُ أشك أنّه تونسي، كانت تربطه علاقة مع صديق قديم من الزراعة، تونسي من مدينة أندلسية تُدعى تستور. لم أرَ عبدالحميد هذا يوماً، مات قبل أن أتعرف عليه، لكن زوجة عبدالحميد، خالتي عيشة وأبناءها وابنتها منال كانوا أصدقاء العائلة.
يزوروننا في السنة مرتين أو ثلاث عندما يأتون لليبيا للتسوق أو لقضاء وقت العطلة، يصبح بيتنا مسكنا لليبيين والتوانسة. كانت أمي تحب خالتي عيشة، كانت صديقتها الأجنبية الوحيدة التي يمكن أن تأكل من يدها، ربما لأنّ أمي عرفتها بما فيه الكفاية لتثق بها. أما أنا، كنت أخاف من منال، لازلتُ أذكر رعبي ومحاولاتي التي تخفق دائماً في الاختباء عندما أعرف أنّ التوانسة في طريقهم إلى بيتنا، أعرف عندها أنّ منال ستأتي وستمتص من خدّي كمية كبيرة من الدم بقبلاتها، كانت تقتلني باحتضانها لي وتشبعني بالقبلات، أبكي، عند ذلك تضحك، ومن ثم تقرصني في خدّي وتخبرني أنّها اشتاقت لي.
في تونس، كنّا مسافرين من أجل حفل زفاف منال. لأول مرة أخرج من الحدود الليبية، كنتُ مسحوراً ببدء مغامراتي مع أبي في سفراته المتعددة، توقفنا على مطعم، ولأول مرة آكل طعاماً تونسياً، كانت وجبة ” كمّونية بكبدة العلّوش”. لم تأكل أمي شيئاً، استعاضت على ذلك بساندويتش صنعته من التونة في بيتنا.
وبعد مشاكل طويلة في الطريق، وصلنا تستور، وعند نزولنا لبيت خالتي عيشة وحصولي على عقابي من القبلات من شفتيْ منال، أدركت فجأة أنني أصبحت محط أنظار أطفال الحومة – هذه المرة حومة تستور لا حومة تاجوراء-، تعرفتُ على فتيين من عمري، أحدهما اسمه اخميْس والآخر مُوحَمّد – مرة أخرى، التوانسة ينطقون اسم الرسول بطريقة مختلفة عنا-، كيف تعرفتُ عليهما؟
ببساطة، أحد الأطفال، والذي لسبب ما لا أذكر اسمه الآن، حاصرني في زاوية، وبدأ يسألني “هل تعرف النكت التي نقولها عن الليبيين هنا؟”، ” مرة في ليبي بهيم أوقفته الشرطة في الحدود”، “ليبي بهيم”… ليبي بهيم، ليبي غبي، ليبي أحمق، كان يمطرني بالنكات التي تحاصر ذكائي، ” واحد زايد واحد، هل تساوي اثنان أم اثنيْن؟!”، كنتُ محصوراً في الزاوية بينما بدأ هذا الفتى يتمنيْك عليْ – كلمة صدمتُ من نعت موحمّد لأمه بها بعد أيام، بينما تضحك-، بدأت بالبكاء، عند ذلك فقط، رأيته مرمياً على الأرض، بلكمة من اخميّس.
بقيتُ لأسبوعين صديق اخميّس الوحيد، كان لاخميّس طريقة حلوة في ذكر اسمي، ” سي موحامّد“، كان يقول لي، يشاركني قصصهم عن الجن والسحر والفتيات والحلوى والرسول والحياة والمدرسة، يخبرني أنني صديقه، يسألني أحياناً “هل أنت صديقي؟” فأجيبه نعم بينما نشرب من الكولا في مقهى بساحة المدينة، يصحبني في كل الأزقة التي عرفها في تستور، ويهربُ لي البقلاوة في جيبه بعد أن يسرقها من خزانة خالتي عيشة، يراقبني بينما ألتهم البقلاوة ويسألني “سي موحامد، حلوة البقلاوة؟”، بنغمة تونسية طفولية رائعة.
أحد الأطفال حاصرني في زاوية.. وبدأ يسألني “هل تعرف النكت التي نقولها عن الليبيين هنا؟”.. ” مرة في ليبي بهيم أوقفته الشرطة في الحدود”، “ليبي بهيم”… ليبي بهيم، ليبي غبي، ليبي أحمق، كان يمطرني بالنكات التي تحاصر ذكائي، ” واحد زايد واحد، هل تساوي اثنان أم اثنيْن؟!”
بعد ذلك وبسنوات، ذهبتُ لتونس لأكثر من مرة، ولأكثر من سبب، للعلاج، للسياحة، للمنفى، للعمل، لكل شيء يمكن أن أذكره، كنتُ أسمع أحياناً قصص بعض المارة من التوانسة عن الليبيين بينما أمر في الشارع، نكات عن حماقتنا وغبائنا وبأننا لسنا كما نعتقد أفضل شعوب العالم. تعرضتُ نفسي لمواقف بها احتقار وكراهية لوجودي. في أحد أيام المنفى وداخل دار تونسية، عارض وجودي القائم على الدار وناصبني العداء، وعندما يأتي الأجانب للسكن في الدار، يسألونني ما إذا كان كلام التوانسة عنّا صحيحاً، أننا نحن الليبيين نرمي البنات من نوافذ الفنادق.
لم أفلح يوماً في صناعة صديق تونسي واحد على أرض الواقع بعد اخميّس، رغم معارفي الكثر فيها، زاد بعدي عنها مع تعرضي لمواقف أخرى لا حاجة لأذكرها الآن، فشلت في صناعة أصدقاء من تونس خارج فيسبوك. ولم يخطر ببالي يوماً أن أحاول التواصل مع اخميّس، أول صديق صنعته فيها، شعرتُ في تونس بالاغتراب، لكنني كنتُ أحبها بطريقة ما، عندما أذكر تستور.
ولأكون صريحاً، حتى داخل ليبيا، وفي أولى مراحل خروجي من تاجوراء، واجهت ذلك العداء الغريب. في أول يوم جامعي، أوقفني أحد أبناء طرابلس، كان يجلس في الكرسي ورائي، سألني من أين، أخبرته أنني من تاجوراء، بعد ذلك، سألني أن أردد بعض الكلمات، أشياء سخيفة مثل “تره قول أنا”، كنا في تاجوراء نقول “أنِي”، بالضغط على الياء، ووجد الفتى الأمر مضحكاً، تحولت هذه النكات إلى أمور أخرى أسمعها عن تاجوراء و”التواجير”، كيف أننا رغم التصاقنا بالعاصمة، كنّا متخلفين، وأحياناً أذناب النظام، أسوأ الأذناب: المخبرين. فقط، لأنّ موسى كوسى، رئيس المخابرات كان من أبناء البلدة.
“البرذر” يشرح عذاباته
في السنوات الأخيرة تعرفتُ على أناس كثر من مختلف الدول، سافرتُ كما كنتُ أحلم دائماً، إلى مصر وتونس وكينيا وألمانيا وهولندا وتركيا، صنعتُ صداقات مع مكسيكيين وهولنديين وفلسطينيين وسوريين، الكثير من السوريين، ويمنيين ومصريين وجزائريين وأردنيين وكينيين ونيجريين.
عملتُ معهم وصادقتهم ورقصتُ معهم وأحببتهم وأكلنا من ذات الطبق واحتضنا بعضنا شوقاً ووداعاً، وفي كل حضن ومع كل صديق وصديقة وأغنية جديدة من بلادهم، طموحاتهم وآلامهم وقصصهم، ومع تعود أذني على لكنتهم العربية (أو الإنجليزية)، أذكر تلك الأيام، التي كنتُ فيها متوجساً منهم.
صديقة نيجرية وُلدت وتربت في نيويورك، تخبرني كيف ينظر لها بقية النيجريين في مجموعتنا، وأنّ نيجيريا نفسها، بها عداوة تشبه العنصرية بين السود أنفسهم، ندخل أنا وهي في نقاش مع هولندي حول بلاك بيت، الرفيق الأسود لبابا نويل الهولندي. صديق سوري يخبرني عن معاناته مع كراهية الآخر كل مرة يدخل فيها إلى لبنان. هذه القصص وغيرها تذكرني دائماً بهذا الموضوع الحرج الذي أحاول دائما الهرب منه.
أذكر يزن، صديقي السوري، صديقي الأول، والذي تعاركت معه في الصف الرابع بعد أن علمني حيلة “عيب” أريتها لأختي الكبرى لتصفعني، ومن ثمّ تلقنني درساً بالحزام. أعود اليوم الثاني في المدرسة، ألكمه، وعندما أسقطه على الأرض، أول كلمة تخطر بلساني كانت “زلمة”. نفس الكلمة التي أحياناً أستخدمها مع أصدقائي السوريين تودداً وتحبباً، استخدمتها مع يزن كتحقير.
كل ذلك، لم يكن يحدث؛ لو لم أتعرف على فراس السيّد، ” My Homie”، الشيطان الأسود، كما أسميه، أو كما يحب الصدّيق – صديقي المقرب- أن يناديه: My Nubian Friend، فيغضب فراس متهماً إياه بالعنصرية المدسوسة.
قبل ثماني سنوات عرفتُ فراس، كنتُ أظن أنني مثقف. عندما أذكر شكلي في تلك الأيام، تصرفاتي وحماقاتي، أضحك، أحياناً كنت أرتدي “طاقية المثقفين” لأشعر بطاقة الشعر والأدب تتخلل داخلي، أسمع لفيروز وزياد رحباني وتلحين وغناء مارسيل خليفة لشعر درويش، أرتدي قمصاناً مهندمة وأضع حقيبة على الكتف غالباً ما أخبئ فيها كتاب رديء أظنّه شعراً أو جريدة.
في رواق أمر عليه في الكلية، كنّا نسميه ” رواق البزع/المنيْ”، لأنّ إحدى الأشجار كانت تفوح برائحة تشبه بالمني، كان يجلس في الرواق الصيّع والفتيات اللائي كنا نرى أنّهن يبحثن عن تقضية وقت ممتع مع أحدهم، كان فراس أحد أولئك الصيع الذين يجلسون هناك، مع مجموعة من الأصدقاء المشتركين، أوقفني وسألني إن كان يمكن أن يكتب معنا في مجلة كنا نعمل عليها لاتحاد الطلبة. مظهره كان مضاداً تماماً لمظهري، كان “رِوِش” كما يقول المصريون. كان بحديثه لكنة سخرية لم أكن غبياً عن شمها وفك رموزها، حاولت أن أتخلص منه لكنه أخبرني بإنجليزية أمريكانية أنّه مثقف وأنه يمكن أن يساعدني في كتابة مقال جيد، بعيداً عن الهراء الذي أؤمن به. عجبتُ لهذا “الأسود” الذي يتربص بي كأنه ند لي.
نقوم بمحاولات بائسة لتلطيف عنصريتنا تجاههم، بتجارب مررت بها، نهرب من كلمة عبيد إلى كلمات تشابهها في العنصرية، واحدة من تلك الكلمات التي تضحكني كثيراً عندما أسمعها كانت أفارقة.. وكأننا نحن لسن بأفارقة مثلهم.
لا أعرف كيف توثقت علاقتي به، وأصبح مع الوقت رفيقي في مغامرات عدة، مغامرات كان يسبني في بعضها بعد أن نخرج من ورطة حقيقية. في البدء كنتُ أناديه تحبباً “عبيداتي”، بعد ذلك حاولتُ تخفيفها إلى “ما نيقا”، وبعدها صار البرذر Brother صفة يتشاركها مع بقية أصدقائي المقربين.
مع فراس، تعرفتُ أكثر على عذابات السود في ليبيا، أحياناً، وبعيداً عن روحه المرحة المغامرة والساخرة كان يشكو لي المجتمع الليبي المحيط به، ويحكي لي قصة إخفائه للهجته السودانية، كان متمكناً من اللهجة الليبية، هذا التمكن جاء من رغبة في النجاة من النظرة الدونية للسود، أخبرني أنّ الليبيين عندما تحدثهم بلهجتهم، يعتقدون أنّك ليبي، وبهذا يخفون عنصريتهم عنك، عنصرية كانت ستفوح إذا لم يتمسك بها.
مع الوقت أيضاً، صار فراس أكثر من مجرد صديق، أصبح أخي الروحي؛ وصرت مع التجارب وتبادل الأذواق، أشبه به، أرتدي الملابس التي يوصيني هو أن ألبسها، وأسمع الموسيقى التي يسمعها، وأشاهد الأفلام التي يشاهدها؛ كانت عنصريتي المزروعة تجاه السود هي آخر عنصرية أتخلى عنها. لم يكن ذلك ممكناً أبداً دون أن أتعرف على فراس.
لم تعلمني الكتب كيف أتخلص من ما تربيتُ عليه، لازلتُ أذكر كيف كان الأمر عندما نخفي أنوفنا عن رائحة العمال السود الذين نحتك بهم، ولا عن تقليدنا لمحاولاتهم البائسة في الحديث باللهجة الليبية، تتبدل لهجتنا فجأة عندما نلتقي بأحد أخوتنا من أبناء أفريقية، “مودير، أنت فيه خوذ فَلوس لما أنت كمل شغل تمام؟”، محاولاتنا البائسة في تلطيف عنصريتنا تجاههم، تجارب مررت بها، نهرب من كلمة عبيد إلى كلمات تشابهها في العنصرية، واحدة من تلك الكلمات التي تضحكني كثيراً عندما أسمعها كانت أفارقة، وكأننا نحن لسن بأفارقة مثلهم.
غادر فراس ليبيا منذ سنوات أربع، أخبرني أنّه أفضل قرار يتخذه في حياته، وبأنّ حياته في ليبيا كانت أشبه بالجحيم.. آخر قصة أخبرني بها عن العنصرية التي تلقاها، قال لي بأنّ أحد أصدقائه القدامى الذي لم يتصل به ليعلن له أنّه مغادر، اتصل به وقال له “يا عبد، بعد أن أكلت من لحم أكتافنا، الآن تقرر أنّ ليبيا لم تعد تعجبك؟ اخس”.
كتابة متأخرة
في 2017، كنتُ أعمل في المركز الإعلامي لإحدى منظمات الإغاثة المحلية، كنتُ أعمل فيه كاتباً ومصوراً ومخططاً ومحرراً، وفي حرارة صيف تلك السنة، كان علينا أن نتجول مع قوافل الإغاثة للنازحين من تاورغاء في مخيّماتهم ولمراكز احتجاز المهاجرين الذين حاولوا عبور البحر الأبيض المتوسط إلى “جنة” أوروبا. زيارات قليلة كانت كافية لتلك المعسكرات جعلتني أشعر بالذنب لتجولي بالكاميرا، لا لأصوّر أوضاعهم، بل لأصوّر عطايا الأمم المتحدة ومنظماتها الصديقة لهم بينما يعيشون في أسفل درك من الجحيم.
رأيتُ في عزّ قيلولة رمضان في الصيف الحار، موظّفاً خمسينياً يتحرش بمهاجرة، يحتضنها من الخلف، هي كانت تضحك، فعل المقاومة لم يكن جائزاً من سحنات وملامح المهاجرين الواقفين في الطابور، ومن أسلحة الحراس الموجهة نحوهم.
لستُ هنا في مجال الحديث والتنظير عن العنصرية. فكرت لسنوات قبل أن أكتب مقالاً أذكر فيه تجاربي مع الآخر وخفت من أن يفهم ما أريد قوله على غير هدفه.
رأيتُ أيضاً في مركز آخر، طعامهم، المعكرونة المبكبكة، الطبق الليبي المحبوب، بدون طماطم وتنفث منه رائحة سيئة، توجه إحدى حبيسات المركز أصابعها نحو الطبق وتخبرني “انظر ما الذي يجعلوننا نأكله، هل يعقل لإنسان أن يأكل هذا؟”. كانوا يطلبون مني المساعدة، أن أخبر العالم خلف القضبان عن قصصهم وما الذي يعانونه، لكنني لم أفعل. كنتُ هناك، لأصوّر استلامهم للمساعدات وأخذ مقابلات عن عطايا وأفاضل الأمم المتحدة والمنظمة التي كنت أشتغل لها.
لستُ هنا في مجال الحديث والتنظير عن العنصرية، فكرت لسنوات قبل أن أكتب مقالاً أذكر فيه تجاربي مع الآخر وخفت من أن يفهم ما أريد قوله على غير هدفه. ما ذكرته هنا ليس اتهاما لشعبي الذي أنا ابنه بالعنصرية أو التمييز أو كراهية الآخر، هناك تركيبة غريبة في ليبيا من الاضطهاد المتبادل، بعض السود الليبيين يحتقرون السود الآخرين، مثلما تفعل بقية الألوان الليبية.
لدي صديق أمازيغي، أحبه، كما أحب أخي، رغم الاضطهاد الممارس عليه، لديه عنصرية “لطيفة” تجاه العرب والسود وكراهية تجاه التوانسة، كما لديْ أصدقاء يحبون كل الأجناس وكل الألوان واللغات، البعض منهم يتماهى في حبه لهم حد كراهيته لليبيته واحتقاره لها، البعض الآخر ينكرون وجود العنصرية في ليبيا.. كنتُ مثلهم، وكنتُ أقول أنّ ندائي لفراس السيد، النوبي الرائع، بالعبيد هو تحبب له، وكنتُ أشعر بذلك بالفعل، أنّه “عبيداتي”؛ لم أرغب في أن أعترف بخطأي فيؤنبني ضميري، لم أرغب في التطهر من أخطائي، لأنني لم أرغب بالنظر لها كأخطاء.
لكن في كل مرة أذكر كل ما مررت به، أشعر بالحيرة. وأفكر، أنّ الخطوة الأولى لتخلصنا من رهاب الآخر – ربما هذه هي التسمية الصحيحة؟- هي أن نعرف الآخر، أن نأكل معه، نشرب معه، نتعارك معه، نلكمه وندعه يلكمنا، ونرقص معه ونبكي معه، نجادله وربما لا نخشى من أن نأكل من الثوم الذي يأكل منه. ربما.