“.. وأنت قادم من الإشارة الضوئية (البيفيو) إلى تاجوراء، ستجد إشارة ضوئية أخرى تتلوها، قد لا تعمل تلك الإشارة نظراً لانقطاع الكهرباء – أو فقط لأنها قررت أن تأخذ قسطاً من الراحة- ولكنك ستراها، انعطف يساراً مع الإشارة لتدخل إلى الطريق المزدوج أو “المزدوجة” كما يسميها التواجير، وهي أولى الطرق المزدوجة في البلدة، ورغم مرورها بمسجد مراد أغا، القائد العثماني الذي حرر طرابلس من سيطرة فرسان القديس يوحنا، إلا أنّه لم يُسمَّ بهذا الاسم البتة.
عليك أن تستمر في قيادة سيارتك حتى تصل إلى جزيرة دوران للسيارات، تسمى جزيرة الدوران “بوشوشة” لقربها من مستوصف بوشوشة الصحي، تنعطف مع الجزيرة يميناً.
استمر، ستقابلك أربعة مطبات، الأول والثاني سيئا السمعة وقد يضران سيارتك، إذا لم تتوخَ الحذر، الثالث ممسوح، والأخير يفضل أن تتخطاه على اليسار، لأنّ حفرة في الطريق تتلوه مباشرة، بعد المطب الأخير سترى مسجداً في أعلى الهضبة يميناً، بعد المسجد سور أبيض لمقبرة، لا تنعطف يميناً مع المسجد، استمر للأمام قليلاً حتى تصل إلى بوابة السور، ستجد مقابل السور هضبة أخرى، تدخل الهضبة (الساليطة). ستعرف أنك دخلت الشارع الصحيح عندما تجد بئر ابي جناح (بير عربي/بوجناح) على يمينك ومطبيْن صغيرين اصطنعهما مواطن مزعج.
استمر للأمام حتى تجد نفسك أمام مفترق طرق، سترى مسجداً أبيض صغيراً أمامك، انعطف مع المسجد يميناً، تقدم حتى تجد عمارة كبيرة واضحة المعالم تحيطها الأحجار الفرعونية، ومن ثم مسجد كبير وحديث على اليمين ومدرسة على اليسار كُتِب على سورها ” المدرسة للبيع، والمدير مجاناً”، تقدم نهاية الطريق الإسفلتي حتى تنزل للطريق الترابية، افتح نافذة سيارتك واشتم رائحة صوف الأغنام، ادخل الطريق لتصل إلى “وسعاية”، عند ذلك اتصل بي حتى أخرج لك. .”
ما أخبرتك به الآن ليس مجرد ثرثرة، إنها “نعتة” بيتنا الوحيدة التي أعرفها، هذا بالطبع إذا كنت ستدخل إليه من الطريق الساحلي وليس من طريق الشط، وهي النعتة التي أستخدمها مع الجميع، فنيي الصيانة والتركيب، موظفي الطلبيات والأصدقاء وموظفي الدولة، وربما سأستخدمها يوماً ما مع المحققين في وزارة الداخلية. أكتبها هنا، مع أني أعرف بأنّ الذي سيستخدمها سيخطئ حتمًا في تحديد مكانها والوصول إلى بيتنا.
النِّعْتَة هي بديل العنوان في الثقافة الليبية المعاصرة، جذرها ” نعت” وهو من الأفعال الثلاثية كفَعَل، النعت هو الوصف، ولكن قد يراودك سؤال مهم: لماذا يستخدم الليبيون النعتة؟ ببساطة، لأنّه لا عناوين بريدية في ليبيا، لا وجود للترقيم، ولا أسماء للشوارع خارج وسط مدينة طرابلس، بل في وسط البلاد نفسها لا وجود لترقيمات إلا ما خلفته آثار الزمان من عهد المملكة أو طلاءات الجماهيرية الخضراء، لا عناوين ولا هم يحزنون؛ ولأننا شعب يحكم نفسه بنفسه منذ قديم الأزل، آثرنا أن نبتدع طريقة ما لنصل لأهدافنا، الشعب الليبي يعشق التفاصيل ويعشق الوصف وهو متورط فيهما في كل تفصيلة من تفاصيل حياته اليومية.
كان من المفترض أن يكون عنوان بيتنا شيئا من هذا القبيل: تاجوراء، الحومة، شارع محمد النّعاس، المبنى رقم ٨٠، الشقة رقم ٣.. لكن هذا لم يحدث.
مكيافيللي العابر من قبل الاستقلال إلى Google Maps
قبل فترة كنتُ أتجول في شوارع العاصمة الليبية طرابلس، ركنتُ سيارتي في شارع البلدية وفضلتُ التمشّي في شوارع المدينة التي تحمل سمتًا إيطاليًا يجعلها تشبه أحيانا فلورنسا أو روما أو ربما ميلانو؛ أفتقد لعادة المشي في طرابلس، لهذا أردتُ ذلك اليوم أن أستمتع بحريتي بينما سكان المدينة العجوز يحاولون الاستيقاظ لنهار جديد.
أمشي وأراقب المدينة النائمة التاسعة صباحاً. انعطفتُ من شارع الاستقلال/امحمد المقريف ودخلتُ شارع هاييتي -أو هايتي كما ينطقها الطرابلسية- ومن ثم تسرب جسدي بين أزقةٍ وشوارع حتى وصلتُ شارع الرشيد.
الرشيد، هو شارع المدينة الطرابلسية، إنّه التقاء كل الحقب الطرابلسية، في شارع واسع ممتد يقطع جادة عمر المختار. لا يوجد ليبي واحد -من الذين أعرفهم على الأقل- لم يسمع بشارع الرشيد، فهو يحمل فوق جسده اثنين من أهم الأسواق في طرابلس؛ سوق الرشيد وهو عبارة عن مجموعة من الدكاكين المتلاصقة في كل جانب تبيع الملابس والأحذية والحقائب وأشرطة الكاسيت والتوابل، ويمتليء بالباعة المتجولين الذين يبيعون الحنّة والبخور والساعات والروائح الرخيصة، إنّه السوق الذي تُباع فيه طرابلس بأكملها.
وفي وسط الشارع بالضبط سوق الحوت، سوق مغلق به مجموعة من الدكاكين التي تبيع الحيوانات تتوسطها ساحة مغلقة مفتوحة بأبواب رخامية، تتوسطها مصطبات رخامية من كل جانب يبيع فيها التجار الحوت…الكائنات البحرية التي يفضلها الطرابلسية عن كل كائنات الأرض في وجباتهم.
بعد سوق الحوت وبمسافة ثلاثة أو أربعة أزقة جانبية، فتحتُ Google Maps باحثاً عن محلٍ لبيع أشرطة الكاسيت، أوصاني أحد أفراد العائلة أن أبحث له عن أشرطة كاسيت للموسيقار الراحل محمد حسن، لكن لفت انتباهي شارعان في الخريطة، كُتِبا بلغة ليست غريبة على طرابلس ولكنها لغة فارقتها منذ 50 عاماً، كان الشارعان المتلاصقان يبدآن بكلمة Via الإيطالية، فيا بوكاشيو وفيا مكيافيللي. أي شارع بوكاشيو الكاتب والفيلسوف التنويري الإيطالي، وشارع مكيافيللي (كُتب اسم مكيافيللي بخطأ لغوي زاد حرف سي على الاسم)، انطلقتُ نحو الشارعيْن، لأجد أنهما لا يحملان أي لافتات.. شيء طبيعي الحدوث في المدينة العجوز.
في مكيافيللي وعلى خلاف الشوارع الأخرى المتفرعة من الرشيد المسماة بأسماء فلاسفة وشعراء وكتاب من عصر النهضة الإسلامية، أعادني لمسألة فكرتُ فيها وكتبتُ عنها ساخرًا أكثر من مرة.. وهي مسألة العنونة والعنونة البريدية في ليبيا.
عندما عدتُ للبيت بحثتُ في مصادري عن سبب تسمية Google Maps لشوارع طرابلس بأسماء إيطالية، ” لابد أنّ للأمر علاقة بالاحتلال الإيطالي”، قلتُ لنفسي وبحثت حتى وجدتُ أنّ شوارع المدينة الإيطالية، وفي فترة ما كانت تحمل أسماء مجموعة من الكتاب، الفلاسفة والفنانين من عصر النهضة الأوروبي.
لكنني لا أعرف حتى الآن كيف ولماذا ومتى ومن أصرّ على خرائط Google أن يكون اسم هذا الشارع الذي لا يحمل لافتة واقعيًا، مكيافيللي هو وشوارع أخرى قريبة كبوكاشيو، جيوفاني، تيزيانو، وكيفانو وغيرهم. الأمر الذي جعلني أفكر أكثر في المسألة التي دائماً ما أخذتها بروح كوميدية ساخرة. فنحن نعيش في دولة يعد التخطيط فيها ترفاً معرفياً لا يستحق النظر فيه.
شارع سهى الحسناء والطانطا الحمراء
رحيلي عنك عزّ عليّ جداً… وداعاً أيها الوطن المفدّى
وداعَ مفارقٍ بالرغم، شاءت… له الأقدار نيل العيش كدا
وخير من رفاه العيش كد… إذا أنا عشت حرا مستبداً
سأرحل عنك يا وطني، وإني… لأعلم أنني قد جئتُ إدّا
هذه أبيات لـ أحمد رفيق المهدوي، شاعر ليبي توفي عام 1961 ولُقب بشاعر الوطن، ناضل المهدوي ضد الاحتلال الإيطالي لليبيا بشعره كما فعل المناضلون غيره بالسلاح والعمل السياسي والكفاح الصحفي. هاجر إلى تركيا في عام 1924 ونُفيَ إليها قسرا عام 1936 من قبل سلطات الاحتلال.
لأحمد رفيق المهدوي شارع رسمي يحمل اسمه وهو أحد الشوارع الحية في مدينة طرابلس بحي النوفليين، هذا كل ما يملكه المهدوي من ذكر في السجلات الرسمية للدولة، لا تماثيل، لا بيوت ثقافية، لا جوائز تحمل اسمه، ليس له إلا شارع يتيم لا يذكره أحد، بل يستخدمون اسماً شعبياً له لينعتوا به، شارع أحمد رفيق المهدوي هو شارع سُهى الحسناء.
“سُهى الحسناء” هو أشهر مراكز التجميل في البلاد، يختص المركز بتزيين العرائس والفتيات وتجهيزهن لحفلات العرس والمناسبات الاجتماعية المختلفة، ورغم أنني أحترم شغل سهى الحسناء ومكانتها الاجتماعية والوظائف التي تتيحها للفتيات والنساء، إلا أنّني لا أتوقف عن التفكير في مسألة تسمية الشوارع عندما أدخل الشارع الذي يحتضنها. فأنا لم أعرف أنّ للشارع اسم، لولا اللوحة الخجولة في بدايته، والتي رأيتها صدفة رغم مروري به عشرات المرات.
هذا كل ما يملكه المهدوي من ذكر في السجلات الرسمية للدولة، لا تماثيل، لا بيوت ثقافية، لا جوائز تحمل اسمه، ليس له إلا شارع يتيم لا يذكره أحد، بل يستخدمون اسماً شعبياً له لينعتوا به، شارع أحمد رفيق المهدوي هو شارع سُهى الحسناء.
ولُدت في شارع بئر حسين بحي غودش الكبير في تاجوراء شرق العاصمة، أخذ الحي اسمه عن جزيرة غودش/غوزو المالطية والتي احتلتها الدولة العثمانية لسنوات، إلا أنني تربيتُ وعشتُ أكثر من 28 عاماً من حياتي في شارع بلا اسم في حي الحومة في ذات البلدة، يحدُّ شارعنا مجموعة من الشوارع المسماة باسم أكبر العائلات فيها، شارع العثامنة، القواضي، البداوة، الخشابة، السيّاح، النّعاسة، الكواتب، الأصوال.. وهكذا
كل هذه الأسماء هي أسماء العائلات الكبيرة التي تقطن الشوارع المحيطة بنا، شارعنا يعد حديثاً بالمقارنة بهذه الشوارع… هو نسيج من عائلات “مهاجرة” من الأحياء السابق ذكرها، إلا أنّ شارعنا بدأ يكتسب اسماً فكاهياً قبل خمس سنوات مضت.
كان الاسم يدل على علم قديم في الشارع صدأ فيه لأكثر من عشرين عاماً، كان ذلك العلم شاحنة حمراء لجدي رحمه الله بقيت مزروعة في وسط الشارع حتى اجتثتها عوامل التعرية والبزنس، أخذ أحد أبناء الشارع المغامرين طلاءً وكتب على الجدار الذي كانت الشاحنة متكئة عليه “شارع الطانطا الحمراء“، ومنذ ذلك الوقت صار اسم شارعنا شارع الطانطا/الشاحنة الحمراء. رغم اختفاء الشاحنة منه.
خرائط ذهنية
رحلتُ عن الشارع كما رحل أحمد رفيق المهدوي عن ليبيا مرات عديدة، كانت آخرها عندما انتقلتُ مؤخراً إلى تركيا. كنتُ أدخل مدناً لم تخطئ أعين الدولة أي شارعٍ وزقاقٍ فيها وإن كان الشارع هامشياً، وضعت الدولة اسماً ورقماً للشارع كما وضعت رقماً لكل مبنى ودكانة فيه مهما صغر حجمها وقلت أهميتها، في العادة توجد صناديق صغيرة حديدية وخشبية تكتب عليها أرقام البيوت، في تلك الصناديق فتحات يمكن لورقة أن تمر منها حتى يأتي قاطن البيت ليحرر الورقة من الصندوق.
كانت هذه المشاهد جديدة على إنسان مثلي اعتادت عيناه على تذكر الشوارع التي تدخلها بعلامات أخرى تسجلها في ذاكرته، لم أحفظ يوماً رقم البيت أو الشقة أو الفندق الذين سكنتهم، وحتى عندما عشتُ في مدينة الحمامات بتونس بمعية مؤسسة ثقافية تتيح للكتاب إقامة ثقافية في بيئة جيدة، أرسلت لي المؤسسة اسم الشارع الذي سأقطن فيه ورقم البيت ومكانه بالضبط، لكنني لم أستخدم هذه المعلومة ولو يوماً في حياتي.
نسيتُ كل ذلك واحتفظتُ بخريطة بصرية للمكان الذي عشتُ فيه علمتها بطول السور والمنحدر وشجرة ياسمين قريبة ومجموعة قطط تتجمع دائماً على صندوق قمامة ودكانة ترتفع بدرجات عن المكان وصندوق لعسس المدينة قريب من البيت.
اعتدتُ على ذلك، كما اعتاد الكثير من الليبيين، نحنُ ماهرون في خلق خرائط ذهنية مميزة تحفظ التفاصيل حتى لا تنسى وجودها في المكان، طريقة عيشنا علمتنا الاهتمام بالتفاصيل، نحب دائماً معرفة المزيد وإذا لم نتمكن من ذلك، نختلق تفاصيل وحقائق جديدة يمكنها أن تملأ الفراغات ونشبع فضولنا.
نندمج مع البيئة، مع الجدران، أعمدة الإنارة، المطبات، الصيدليات، المقاهي، المساجد؛ لأننا نحتاجها لمعرفة الطريق.
أسماء متعددة.. أو بلا أسماء
وعلى عكسِ تاجوراء التي احتفظت شوارعها بهُوية عائلية، فإنّ شوارع طرابلس العديدة لازالت تواجهها أزمة هُوية، شارع الاستقلال هو الاسم الرسمي لشارع حيوي في وسط المدينة، كان ذلك اسمه منذ استقلال ليبيا عام 1951م وحتى 1969م، ومن ثم إلى شارع المقريْف، أحد الضباط الوحدويين الأحرار الذي يشاع أنّه اغتيل من قبل معمر القذافي نفسه، وبعد ثورة فبراير عام 2011 تغير اسم الشارع مجددا إلى شارع الاستقلال… ولكن، وبعد مرور عشر سنوات على ثورة فبراير، مازال معظم أبناء المدينة يسمونه شارع المقريْف.
لكل جيل من أبناء المدينة تسمية خاصة به لشوارعها، بعض أبناء طرابلس الذين ولدوا في حضن الاحتلال الإيطالي أو الانتداب البريطاني ما يزالون حتى الآن، يسمون تلك الشوارع بالأسماء الإيطالية، البعض الآخر فضل تسميتها بشوارع دولة الاستقلال، ولكن الغالبية من أبناء المدينة يسمون شوارعها بتسميات الجماهيرية، الجيل الجديد الذي فتح عيونه على ثورة فبراير يستعمل في العادة أسماء الشوارع بعد الثورة.
الأسماء المتعددة التي تمتعت بها شوارع مركز المدينة وإمكانية عدم معرفتك اسم الشارع الحقيقي يعد ترفاً إذا تفرعت جنوب وشرق المدينة أكثر، فإذا اتجهت مثلًا إلى عين زارة وهي إحدى الأحياء/المناطق/المدن/البلدات/القرى -سمها ما شئت- الجنوبية في العاصمة لا وجود لأسماء شوارع فيها بالأساس.
ليس لـ عين زارة هُوية تميزها عن غيرها، هي انفجار عشوائي لأحياء وشوارع جديدة لا يتعدى عمر الكثير منها سوى سنوات عشر، كانت قبل ذلك جزء من الريف الجنوبي للعاصمة وإحدى سلات غذائها وصارت اليوم تنافس العاصمة في ضخامتها.
تبدو عين زارة في الخريطة كأخطبوط إسفلتي عشوائي ضخم يمتص جنوبه ويحوله إلى أحياء جديدة، لكنها أحياء بدون اسم ولا هُوية ولا هم يفرحون.
شوارع للشهداء في نظام اللانظام
في نهايات القرن التاسع عشر، عُين علي رضا باشا الجزائرلي والياً لمدينة طرابلس، وذلك ضمن الحكم العثماني الثاني الليبي، تعلم الجزائرلي في فرنسا وجاء لطرابلس حاملاً خطة للنهوض بالولاية، كان أحد مشاريع الجزائرلي بناء برج بين قلعة السراي والمدينة يقع على أعتاب سوق القزدارة.
حمل البرج ساعة عليها جرس تخبر الناس في أي وقت من اليوم هم، هذه الساعة كانت ترمز لرؤية الجزائرلي للمدينة، لم تكن مجرد ساعة، كانت علامة على أهمية طرابلس كولاية وأهمية تنظيمها والتطوير فيها.
للأسف، لم يطل حكم الجزائرلي كما طال حكم غيره عليها، بعد أن بنى البرج، بدأ بعض الناس في المدينة السخرية منه، حيث أنشأ زجالًا شعبيًا، كما عرفت من الصديق الباحث التأريخي بدر الدين مختار، يغني ضد علي رضا باشا.. “علي باشا ملّا خلبوص، دار الساعة والناقوس”.
لم يعرف ذلك الزجال أنّ البرج، برج الساعة سيستمر ليكون أحد رموز المدينة حتى يومنا هذا، فيسمى الميدان المحيط به بـ ميدان الساعة.
حديث لا مفر منه
لا أحب أن أكون متحاملاً على الجماهيرية، فالضرب في الميت حرام، رأيتُ عند نشري لمقال عن الملابس الحديثة وتاريخها في ليبيا، مجموعة من الليبيين يعلقون على فيسبوك ويتحسرون على أيام زمان، بينما يتهمني بعضهم بأنني لم أتكلم عن الوضع الحالي الذي يعيشه الليبيون مقابل “أيام الزمن الجميل”، ورغم أنني تحدثتُ فعلاً عن الوضع الحالي للملابس الحديثة في البلاد إلا أنّ الكثيرين صاروا أكثر حساسية عند الحديث عن الجماهيرية، كما كان العديد من قبلهم عند الحديث عن المملكة.
ولكن مما لا مفر منه الاعتراف بأنّ جماهيرية الثماني وثلاثين عاماً كان لها أثراً كبيراً على الليبيين، تميزت سياسة الدولة بالعشوائية في القرارات، بالطبع هذه صفة لم تكن في الجماهيرية فقط، بل بالدولة الليبية الحديثة نفسها، ففي منتصف الستينيات قررت المملكة الليبية ودون أن أية دراسة أن تنهك النسيج الاجتماعي الليبي والبنية التحتية ووسائل المواصلات وتضربها في مقتل، حيث قررت إيقاف العمل على السكك الحديدية..أليس هذا قرارًا عشوائيًا؟
في سنين العقيد، رسمت حياة الليبيين الكثير من القرارات العشوائية، بعضها يرتبط ارتباطاً حقيقياً بمزاج القذافي وعلاقاته واتجاهه الفكري، فتارة كان العقيد ليبياً، تارة أخرى عربياً، تارة قائداً ثورياً لكل الثوار في العالم، تارةً اشتراكياً، وتارةً أخرى إفريقياً، قبلياً، إسلامياً، فاطمياً، صحراوياً وهكذا.
كان العقيد يخبر الليبيين بأنّهم عليهم أن يحكموا نفسهم بنفسهم، ولكن هل حدث ذلك؟
في منتصف الستينيات قررت المملكة الليبية ودون أن أية دراسة أن تنهك النسيج الاجتماعي الليبي والبنية التحتية ووسائل المواصلات وتضربها في مقتل، حيث قررت إيقاف العمل على السكك الحديدية، أما في سنين العقيد، فرسمت حياة الليبيين الكثير من القرارات العشوائية، التي ارتبطت بمزاج القذافي وعلاقاته واتجاهه الفكري.
تتضح عشوائية ” الديمقراطية المباشرة”، وحكم الشعب نفسه بنفسه، في خريطة البلاد وشوارعها، لا يحتاج المرء أن يقارن ليبيا بدولٍ أخرى، كل ما عليه فعله أن يمشي داخل شوارع العاصمة طرابلس دون الحاجة لزيارته أي من القرى والمدن الأخرى، وفي جولتي بطرابلس، كنتُ أشاهد عناوين قديمة وأرقام للعمارات والبنايات، كانت الأرقام من طريقة كتابتها تفصح أنّها تعود لعهد المملكة الليبية، وربما أقدم من ذلك.
في البيضاء شرق البلاد، وضع عميد بلدية البيضاء في عهد القذافي تمثال لسيدي عمر المختار في إحدى جزر الدوران، لكن البيضاويين قرروا منذ وضع التمثال أن يسموه اسما آخراً، كان هناك خطيب جمعة في المدينة -والعهدة على الراوي- يشبه تمثال عمر المختار يدعونه “بو الصغير”، فصار البيضاوي منهم ينعت صديقه بأن يلتقوا عند تمثال سيدي بوالصغير.
ذات العمارات والبنايات والمنازل لديها رقم مكتوب بطلاء أخضر مخالف في بعض الأحيان للرقم الأول. وسيان الأمر، ما اختلفت الأرقام أو كانت متشابهة، فهي لا تدل على شيء، إذ يمكن بسهولة تناسي وجودها إذا لم تكن تبحث عنها.
شركة بريد ليبيا، الشركة التي وُضع على عاتقها قبل ثورة فبراير مسؤولية العنونة البريدية مازالت حتى الآن، ومع كل فترة تعقد اجتماعاً للبدء في المشروع، يُسمى مدير المشروع واحتياجات المشروع في الاجتماع، يُنشر الخبر في الصحيفة الرسمية أو موقع الشركة، ومن ثم يغلق الباب على المشروع.
شركات ليبية صغيرة تعمل جاهدة في إيجاد حل لمشكلة العنونة في ليبيا، وذلك عن طريق برمجيات الهواتف الذكية، تعتمد معظم هذه الجهات والشركات على المستخدم ليضع عنوانه في الخريطة، لكن تبدو هذه الجهود مجرد حلول مؤقتة لمشكلة عويصة وتزداد في التعقيد بتقسيم الأراضي الزراعية وانبثاق حي عشوائي جديد كل يوم.
***
بعد سقوط نظام العقيد انتشرت أسماء شوارع جديدة، أسماء تحملها لوحات معدنية تشبه اللوحات الرسمية التي تستعملها الحكومة في وسط طرابلس وفي وسط المدن الكبرى كبنغازي ومصراته، هذه اللوحات حملت أسماء لضحايا وشهداء الحرب الأهلية الليبية الأولى التي تلت انتفاضة 17 فبراير، لم تكن الشوارع وحدها التي تسمت بأسماء الشهداء، بل الساحات، المدارس، الكتائب المسلحة، الدكاكين وغيرها، لكن هذا الحماس في تسمية الشوارع لم يستمر. أذكر أنّه كان هناك اعتراض على تسمية أحد أجمل ميادين طرابلس بـ “ميدان الجزائر”، خصوصاً أنّ الجزائر لم “تساهم” في دعم الثوار، حاول الناس أن يسموها ميدان قطر، لكن بعد فتور الحماس اختفت هذه الأسماء.
***
اليوم وفي ميدان الساعة وبالقرب من برج الساعة الذي بناه الجزائرلي قبل 150 عاماً،ستجد عشرات الرجال يحملون أوراق الدولار عالياً، إنهم يتداولون الأوراق النقدية في السوق السوداء، لم يكن يجتمع هؤلاء قبل 2014 وقبل أن ينخفض الدينار الليبي مقابل الدولار انخفاضا مأسويا، تحول اسم ميدان الساعة مع الوقت إلى ميدان “الحِلْقَة”، اسم لزقاق صغير داخل المدينة يباع فيه الذهب. لم يعد البرج هو رمز المكان، بل صار اختلاطه بالحِلقة، رمزاً للعشوائية في بلاد يبدو ناسها كأنهم يقاومون النظام دائماً.
شوارع للجيعانين والحشاشين
في شارعنا زقاق ضيّق يمر بأكبر تجمع من العمالة المصرية في المنطقة، أو كان كذلك قبل اندلاع الثورة الليبية وتوحش المقاولون ليهدموا الحي المصري الصغير داخل الشارع، كان اسم الزقاق وحتى هذا اليوم وبعد سنوات من هجران سكانه له شارع القاهرة؛ هذه الآلية تتكرر دائماً في شوارع تاجوراء أو شقيقتها الكبرى طرابلس.
ستجد شارع اللحم وشارع المنظفات المتفرعان من شارع أحمد رفيق المهدوي، شارع ” شم الورد” الذي سمي من رائحة الحشيش فيه، شارع الصحافة، طريق الشاحنات، شارع الإلكترونات، وشوارع الجيعانين (الجوعى) التي تضم مجموعة من المطاعم ومحلات الوجبات السريعة والمقاهي، كل هذه الشوارع لم تسميها الدولة الليبية، بل بادر الشعب بتسميتها نسبة للأعمال التي تمارس فيها. رغم أنّ بعضها يحمل أسماء رسمية بالفعل.
شركة بريد ليبيا، الشركة التي وُضع على عاتقها قبل ثورة فبراير مسؤولية العنونة البريدية مازالت حتى الآن، ومع كل فترة تعقد اجتماعاً للبدء في المشروع، يُسمى مدير المشروع واحتياجات المشروع في الاجتماع، يُنشر الخبر في الصحيفة الرسمية أو موقع الشركة، ومن ثم يغلق الباب على المشروع.
حتي الدولة نفسها تبدو أحيانا وكأنها تنسى ما قررته من قبل، فصارت تستخدم أسماء الشوارع الشعبية لتعيين أماكن وجود مؤسساتها نفسها. رأيت أكثر من مرة مواقع وصفحات تتبع الدولة تعنون وجودها باسم الشارع الشعبي رغم وجود اسم رسمي له.
المؤسسة الوطنية للنفط وهي أعرق المؤسسات الليبية وأكثرها تأثيراً تضع عنوانها.. “في طريق السكة” رغم انفتاح بوابتها الرئيسية في شارع عبدالرحمن الكواكبي، الذي يحمل أيضًا اسمًا آخر.. “شارع الجيعانين”.
يمكنك أن تقف في شارع الكواكبي وتسأل أبناء ذلك الشارع وتسألهم: ما اسم هذا الشارع؟ أراهنك إن أجابك أحدهم بأنّه شارع الكواكبي بعشاء في أي مكانٍ راقٍ تختاره في طرابلس.
عنوان.. وبعض الأسف
اليوم، وأنا أسكن في مدينة إسطنبول، شعرتُ بالارتياح عندما طلبت بعض الأثاث لشقتي الفارغة، وضعتُ رقم الشقة، رقم البناية، اسم الشارع والحي الذي أقطنه، كنتُ متشنجًا في البداية عندما اقترب موعد توصيل الطلبية، لم أتعلم اللغة التركية بعد، وأجد صعوبة في التواصل مع الأتراك ولم أحفظ تفاصيل المكان بعد، اتصل بي عمال التوصيل، شعرتُ بارتباك عندما رنّ الهاتف، أخبرني العمال أنّهم في الطريق، وبعد ربع ساعة وجدتهم على أعتاب شقتي دون الحاجة للنعتة، شعرتُ بارتياح بينما أنظر لصندوق البريد خاصتي، ولكن أيضًا شعرت بالأسف أن عنواني الحالي ليس: تاجوراء، الحومة، شارع محمد النّعاس، المبنى رقم ٨٠، الشقة رقم ٣.