صابر أبو الرجال، أحد أشقياء حينا القديم، بمدينة الإسكندرية، أحد الهجّامين، المسجلين في قسم الشرطة، وأحد أولاد “أبو الرجال”، العائلة ذات الباع الطويل في الإجرام والانحراف، وأحد تجليات الذكورة المهمشة في المناطق الشعبية في الثمانينيات، حاصل على التهمة القانونية التي صارت أحدى تيمات الفترة الشهيرة “مسجل خطر”.
مازلت أذكره، رغم أني كنت دون الثامنة وقتها. رأيته فوق المنصة الخشبية التي تُنصَب عادةً وسط الشارع في الأفراح وتُقام عليها “الكوشة”، يجامل أصحاب العُرس ويرقص، وجزؤه العلوي عارٍ، ويبدو غير واعٍ بنا ولا أين هو ولا بأي شيء غير الموسيقى التي تعزفها الفرقة.
ينظر في السماء وجسده يتمايل بكل تماهٍ مع الإيقاع الحزين ويداه مفرودتان وفي كل كف مطواة مفتوحة ولامعة. ومع إيقاع الطبلة والأوكورديون، وحرارة كلمات الأغنية التي تشكو ظلم الزمن، راح يغمض عينيه ويضرب بالمطواتين جسده العاري بحنكة ومهارة، لطشات سريعة تزداد مع سخونة الموسيقي وحركات جسمه، بينما الدم يسيل ممزوجًا بعرقه، وكأنه في استعراضه الراقص الدامي يرسل رسائل في الهواء لنا جميعًا بأنه رجل لا يهمّه الدم، وأنه جدير بالضربات، وأنه رجل يصعب إخضاعه.
ويبدو أن الجميع قد وصلتهم الرسالة فقد كانت النظرات من حوله مزيج من النفور والرهبة وإدعاء الابتسام.
كان في الثلاثين وقتها – عاطلًا لا يمثل قيمة تُذكر في سوق العمل مع غياب أي مهارات مهنية لديه سوى جراءته التي يتباهى بها في استعراضه الدامي ولا تُعدُّ في الهيكل الطبقي الأكبر والأعمّ ميزة اللهم إلا في أعمال خارجة عن القانون.
كان يمكن فعليًا استئجار اثنين أو ثلاث مثل “صابر” للقيام بالعمل المطلوب في أي وقت وبمبالغ ليست كبيرة. كان وجوده مرهونًا بالثبات على وضعية “الخطير” لأنه من دونها ومع نحول جسمه سيكون عرضة للافتراس من الجميع وعدم الاحترام والمهانة أو هكذا يعتقد.
غير أنه ومع إدراكه التام لتهميشه طبقيًّا وعدم تقبُّله اجتماعيًا، كان يرى في نفسه “الرجل الوحيد” المهيمن القادر على الصمود أمام الخصوم وغدر الزمان والصحاب، ولا يرضخ لإمرأة، بينما الباقون أنصاف رجال، يخافون ويرضخون بينما هو يعيش لمزاجه، لذا يرقص في استهانة ويجرح جسده العاري، إنكارًا لكل هذا الواقع المحيط الرافض له، وتأكيدًا على الوجه السلبي منه، كي يثير الرهبة والخشية في نفوس ناس الشارع كي ينال الاحترام المحروم منه والقدر اللائق من المعاملة.
“صابر” بالنسبة لأخي “إبراهيم” الذي هاتفته لملئ فجوات الذاكرة بخصوص سكان الحي الذي تركته صغيرًا، لا يمثل النموذج الإيجابي للرجولة وقتها، فهو مشاكس، شقي من الدرجة الثانية، لا يحظى باحترام دوائر أكبر وأوسع كـ”أولاد السيد المرسي” [اسم مستعار] الذين يتاجرون في الحشيش ولايتورعون عن الشجار المسلح إذا لزم الأمر ويحترمهم الجميع حتى رجال الشرطة لما لديهم من كود أخلاقي يتمثل في احترام “أولاد المنطقة/الحتة” واستخدام العنف لكبح جماح الأشقياء والحفاظ على قواعد النظام الأبوي في المنطقة لذا كان يُقال عنهم أنهم “رجولة”.
أما الأشقياء من الدرجة الثانية فعادةً ما كان يُطلق عليهم ألقاب متعددة مثل كَاحُول، وتعني الغشيم، وشُخِيها وتعني الذي يتبرز على نفسه ولا يستطيع التصرف، وأطوطة، الشخص الذي لا يجيد أي عمل أو مهنة لكنه يوحي لك أنه مهم جدًا، ودائمًا ما يسبق كلامك حتي لو كان مش فاهم”، يخبرني أخي، ضاربًا المثل بـ”السيد أطوطة” الذي كان معروفًا بالأساس بـ “السيد وزة” نسبة لأمه “عزيزة” و كان دلعها “وزة”، وللتقليل منه كان ينسب لأمّه، وكان يحضر في الجلسات لإعداد الشيشة ويدخن من دون أن يدفع في المقابل، وأطلق عليه “السيد أطوطة” فيما بعد لأنه شبيه بأطوطة الأشهر “أطوطة الأونطجي”.
واقف زي السندال
تختلف الألقاب والمسميات وتظل القيم والمعاني ثابتة، وتختلف الظروف الاجتماعية الاقتصادية لكن الاستراتيجية واحدة، كلما زاد التهميش زادت استعراضات الذكورة العنيفة وفرض الهيمنة والعدوان.
الألقاب والمسميات، رغم عدم ثابتها واندثارها، إلا أنها تعريفات يحملها الواحد في محيطه العام للإعلان عن نفسه وما تحمله من قيم ومعتقدات، فقلّما يُنادى أحد بلقبه في بيته. اللقب للخارج، قناع للتعامل مع الآخرين، سواء كان بتأكيد الوجه السلبي أو نفيه. وصارت “رجولة” يقال لها أسد ودكر والجن كما في العبارة الأشهر “حمو الجن لا سجن يلمّ ولا حكومة تهمّ”، والشبح، و سندال.
يقول مؤدي المهرجان: ” مفيش صاحب بيتصاحب/ مفيش راجل بقى راجل/ هنتعامل ويتعامل/ طلّع سلاحك متكامل/ هتعورني[ أي تجرحني] أعورك/ هنبوظلك [أي أفسد لك] منظرك /جايب ورا [أي تتراجع] تصبح مَرَه/ ملكش قيمة وسط البشرية /واقف سندال بجدارة هتبقى راجل مية المية”
دائمًا ما تمتدح المهرجانات، الصورة الأحدث من الأغاني الشعبية، والناقل الفعال لشعارات الذكورة المهمشة، وقفة السندال، وقفة الرجل الحقيقي، وهي أحد الموضوعات المفضّلة التي تروج لها المهرجانات، وعادة ما يرافقها الاستعداد لممارسة العنف وحمل السلاح وإحداث الإصابة سواء ضد الآخر رجلًا، أو امرأةً أو شبابًا صغيرًا بغاية التأديب أو دفاعًا عن النفس والأعراض والممتلكات، وذلك أمر مستحسن في الأحياء المهمّشة الفقيرة.
“الطبقات الفقيرة تزيحها المركزية الطبقية إلى أن تتهمّش على الأطراف” يخبرني صديقي حمدي خلف الشاعر والمحامي الحقوقي. “الهامش لا تتحكم فيه السلطة. لعشوائيته وسيولته ولانظامه. ولاتتدخل فيه السلطة إلا عند حدوث الكوارث. وقد ينطبق هذه على اللغة”
في قصة يوسف إدريس قاع المدينة، يصف الراوي تبدلات الأماكن والأجواء من حول الأستاذ “عبدالله” القاضي المرموق الذي يقطن أحد الأحياء الراقية، المتّجه بسيارته إلى قاع المدينة حيث المنطقة الفقيرة التي تسكن فيها “شهرت” الخادمة التي يظن أنها سرقت ساعته، وكيف “تتضخم الملامح وتغمّق الوجوه وتنبت اللحى وتغزر الشوارب وتتناقص الملابس ويصبح البنطلون بلا قميص والجلباب بلا سروال، وتتفتت اللغة إلى أنصاف كلمات وأرباع وتعبيرات لا يفهمها إلا أصحابها.”
في المناطق العشوائية على أطراف المدينة، تستقي اللغة مفرداتها من مشارب متعددة. فالـ”سندال” مثلًا، تعني “السندان” الذي يتلقّى ضربات المطرقة وقُلبت “النوان” لامًا للتخفيف في العامية المصرية، وجاءت الكلمة من قلب ورش الحدادة وخاصة ورش “سمكرة” السيارات واستخدمت للتدليل على الثبات والتحمّل.
هناك “سندال فرنساوى صلب ” لأعمال الحدادة، وهناك “سندال” لردّ صاج السيارات المنبعج عند الزوايا، حيث يوضع “السندال” وراء الصاج ثم يُطرق عليه من الأمام لإعادته إلى حالته الأولى، يوضح لي أخي.
من دلالة “السندال” الوظيفية كاِسم آلة، صارت كلمة “سندال” صفة، ثم اشتُقّ منها الفعل “يسندل” وأصبح المصدر السَنْدَلة يعني اصطلاحًا الرجولة، والـ”مسندل” اسم الفاعل، وتعني المتخذ “وقفة” الرجل الحقيقي التي لا يصحّ له فيها أن يترجع للوراء.
في فيديو على اليوتوب بعنوان “حمص سندال المعادي” يقف من يبدو أنه حمص في مواجهة مجموعة كبيرة من المغِيرين عليه بكل التصديق التام لشعاره الصميم “السندال”، دون أي حسابات منطقية تكتيكية أو أي تفكير في التراجع.
يُعرّف حمدي الذي نشأ في عزبة “القلعة” على الأطراف الجنوبية لمدينة الإسكندرية، معنى السندال هناك بأنه “الشخص البطل، الذي يقف في ظهرك وجانبك” بينما يرى كريم طلبة، من تجار منطقة المنشية، ويسكن بشارع جمال عبد الناصر أحد شوارع الأسكندرية الرئيسية “السندال” بـ “الشخص القادر على المواجهة” لكنه في النهاية “صايع” و”شِمال” أي منحرف.
كريم لا يحترم الكلمة كثيرًا لأنها بالنسبة إليه تستدعي سياقات الفئات المنحرفة من الشباب، من سائقي التوكتوك، بائعي المخدرات. هو يحب “سندال” كمعنى “فيه ناس سندال بمعنى الكلمة” -كما يقول- لكن اللفظة بالنسبة إليه غير لائقة اجتماعيًا وخارجة عن الأدب والقانون.
خطر .. ومجنّن الحكومة
تتقاطع شخصية مسجل خطر وشخصية السندال في كثير من النواحي لدرجة التماهي وتنسج حولهما أساطير مؤسسة فكلاهما يتحمل الضربات وعلى استعداد تام لممارسة العنف ولا يخشى الشرطة/ الحكومة، أعلى درجات السلطة، حتى لو كانت العاقبة السجن أو الموت بالإعدام، كلاهما يواجه “أخصام” من مرشدين للشرطة وأصدقاء أنذال، ولا يحترم المرأة إلا أمًا وأختًا، ولا تكون خصومتهما إلا مع الأقوياء. وكلاهما يحب الرقص، والاستعراض سواء على أغاني الشعبية التقليدية أو المهرجانات.
تاريخيًا، السندال امتداد لشخصية “مسجل الخطر” التي ظهرت في الثمانينيات وأضفت عليها أفلام “عادل أمام” كـ”سلام يا صاحبي” و”حنفي الأوبهة” و”مسجل خطر” مسحة البطل الشعبي الضاربة في أصولها في سير الشُطار والمغامرين ضد السلطة الظالمة والطبقة الغنية الفاسدة، كـ”علي الزيبق”، وغيره من الشطار، إلى أن تجلّت في أفلام محمد رمضان “الألماني”، “عبده موته”، “قلب الأسد” وظهور المهرجانات.
“مجنن الحكومة من وانا في سته ابتدائي. بقيت مسجل خطر في سجلات الحكومة من وانا في إعدادي. ودخلت ثانوي من فُجري قالوا عليَّ إرهابي..”
تنسج الذكورة المهيمنة في المناطق المهمشة خيالات وأساطير حول مفهوم الرجل الحقيقي لا تمتّ للواقع بصلة لكنها تعمل كأيديولوجيات شعبية تؤثر على حياة الرجال اليومية وتجعلهم يتصرفون في أحلك المواقف وفقًا لها.
يتضح ذلك في فيديو آخر، على اليوتوب، تداهم فيه أفراد الشرطة شقة المدعو سامح بعلو “مسجل خطر”، كما يظهر في عنوان الفيديو الذي صوّره شخص ما بهاتفه المحمول.
في الفيديو يظهر سامح بِعلو الـ “مسجل خطر” واقفًا بمعزله ومن دون فريق يسانده أمام فرقة من الشرطة قادمة لإلقاء القبض عليه، من الطبيعي والبديهي أن يسلّم نفسه للشرطة – وليس في ذلك إهانة كبيرة- خاصة وأنها ليست أول مرة، لكن سامح يرى الموقف بشكل آخر فنزوله من بيته محاطًا بأفراد الشرطة ومدفوعًا إلى صندوق الخلفي لسيارة الشرطة مثلما يحدث مع باقي الأشقياء والخارجين عن القانون الأقل شأنًا، يُعد تعدي على شخصه من نواحي مختلفة.
بدايةً، نجد أن سامح لا يمانع في النزول مع أفراد الشرطة لكنه يعترض على طريقة النزول، “حنزل معاك يا محمد بيه…” يحاول سامح أن يكون مهذبًا يحافظ على استخدام لقب “محمد بيه”، لتدليل على احترامه لممثل السلطة، يمنحه الوعد بإجابة طلبه “حنزل معاك يا محمد بيه”، لكنه في ذات الوقت يلمّح له برغبته في حفظ ماء وجهه، “ماينفعش أنزل معاك في المساكن بفضيحة”؛ فهو رجل معروف في المساكن، صاحب لقب وتعريف في نطاقه العام، ومجرد نزوله بتلك الكيفية سيكسر هذا التعريف وهو ما يُعد تهديدًا لـ”وجهه” بشكل عام في منطقته.
“أنا متجوز يا باشا.. وإنتَ عارف إن آني متجوز..” يلمّح سامح برغبته بعدم الإساءة إليه أمام زوجته، والتصرّف معه كرجل متزوج، صاحب بيت. وتفرض صورة رجل البيت على سامح أداءات معينة منها أن يظهر كزوج يُكفّي احتياجات بيته – نسمعه يقول لزوجته: “خدتي احتياجاتك؟”- وكذلك مسموع الكلمة من جانب زوجته وخاصة في حضور الآخرين، يقول لها “اسكتي يا بت” تسكت، كما أن كونه “رجل متزوج” تصنع للبيت “حرمة” لا يصِحّ تعديها، ومجرد اقتحامها وضبط سامح وإحضاره بهذه الطريقة يُعدّ انتهاكًا لحرمه الشخصي، وإهدارًا لماء وجهه في نطاقه العام والخاص.
سندال جدير بالاحترام
يتوقع سامح أن ينال قدرًا من الاحترام عند التعامل معه؛ فهو ينفي أن تكون هذه هي الطريقة الملائمة معه: “يا باشا مش أنا اللي حيتعمل معاه اللي اتعمل مع حد.. سعادتك”.
وفقًا لتاريخ سابق من التعامل المباشر مع الشرطة، يفترض سامح أنه سينزل مع “محمد بيه”، يدًا بيد، “أنجاجيه”، إلى سيارة الشرطة و”حركب جمب منك”، تأكيدًا على أنه لن يركب في الصندوق الخلفي لسيارة الشرطة، ويسوق الدليل على هذا قائلًا: “زي ما “عمرو بيه” نادى عليّا وقال لي: “اوقف يا سامح” وقفت له وركبت معاه”، إذًا مثل هذا التعاون السابق يستلزم في المقابل قدرًا من التعامل اللائق بحسب اعتقاد سامح.
ولأنه لايثق في الحصول على مثل هذه المعاملة اللائقة، خاصة مع محاولات أفراد فريق الشرطة التقليل من شأنه من خلال مخاطبتهم إياه بلقب “ولَاه” -أي “ولد” للتصغير والتحقير-، يصرّ سامح على حمل مطواتيه، ليس لاستخدامهما ضد الشرطة التي تتعامل بالمسدسات والأسلحة النارية، ولكن لإحداث انطباع بأنه رجل حقيقي، سندال لا يخاف أحد ويمكنه استخدام العنف، وهو ما يتوجب على جمهوره تواخي الحذر عند التعامل معه، وفي ذلك بعض من حفظ ماء الوجه بالنسبة إليه.
إصرار سامح على حمل المطواتين يصيب في مقتل مكانة “محمد بيه” العليا ويهدر ماء وجهه باعتباره رمزًا للسلطة التي تتوقع من الفرد الطاعة والخضوع والاستجابة، فحمل السلاح أمر يحق للسلطة، وحمل الفرد للسلاح تشبّه بالسلطة ونديّة تقرّب – إن لم تكن تُساوِي- المسافات بين سامح ومحمد “بيه”. يخلق هذا تهديدًا إضافيًا لوجه “محمد بيه” كقائد فريق، يتوجب عليه أن يكون على قدر توقعات أفراد فريقه وإظهار السيطرة من خلال فرض الهيمنة على سامح وإجباره على الخضوع إليه، وأي إخفاق منه في تلبية أي من هذه التوقعات يهدد وجه بشكل أساسي.
تتعارض احتياجات الوجهين مما ينذر بانقطاع التفاعل بينهما، “محمد بيه” يصر على أن يسلِّمه سامح المطواتين حفاظًا على ماء وجهه كممثل للسلطة وقائد لفريق شرطي، وسامح يصر على النزول بهما حفاظًا على ماء وجهه كرجل حقيقي “سندال” أمام زوجته وأهل المساكن.
ومع تعقّد الموقف يعرض سامح على “محمد بيه” إنهاء الأمر، “خلاص يا محمد بيه.. نريحوا الليلة[أي ننهي الأمر].. إيه رأيك؟”، يتجاوز سامح المساحة المسموحة له كفرد، ليظهر وكأنه يملك القوة الكافية لتخيير ممثل السلطة في إنهاء الموقف فورًا، وهو ما يُنظر إليه من قبل الفريق المرافق على أنها وقاحة من سامح مثلما صاح فيه أحدهم: “ما تخبش [لا تُجنّ] يالَا..”.
لكن سامح يتمادى في تجاوزه ويمارس عنفًا ذاتيًا ويعتدي على بطنه ورأسه، عنفًا استعراضيًا له منتوج، وهو إحداث انطباع يثير الخوف والحذر في نفوس جمهوره، لإثبات رجولته من خلال تحمّل الألم والاستهانة به. ثم يسخر سامح من “محمد بيه” وعدم قدرته على اعتقاله مستخدمًا غطاء الاحترام المبالغ فيه، “محمد بيه أبو كليلة بنفسه شخصيًا اللي حيعتقلني”.
ولمّا يتبين لسامح أن أحدًا ما يصوّر الموقف، وهو ما يعنى توثيق “الفضيحة”، يتصرف كما هو متوقع منه كـ”مسجل خطر”، ويؤدي دور البلطجي – الصورة النمطية التي يتوقعها منه الجمهور- حتى النهاية، ويقوم بإحضار إسطوانة غاز أمام الباب لتهديد الآخرين في رسالة بجاهزيته لاستخدام العنف مع تحمُّله للعواقب وهو يهتف قائلا: “إديني طلقة يا محمد بيه ما دام حتصوروني وتمشوها في الجورنال ..إديني طلقة يا محمد بيه..”.
تفرض خيالات وأساطير الذكورة المهيمنة حول “الرجل الحقيقي” على “سامح بِعلو” ضرورة التمسك بالمطواتين، لأنه بذلك يصبح رجلًا حقيقيًا، “سندالًا” جديرًا بالاحترام، يحافظ على ماء وجهه، ورغم لامنطقية هذا الفعل إلا أنه محمود وفق للتقاليد الاجتماعية داخل جماعته، لدرجة أن السينما خلدت هذا الفيديو في فيلم “شدّ أجزاء”
ولو افترضنا- كما افترض إيرفين جوفمان عالم الاجتماع الكندي- في كتابه “عرض الذات في الحياة اليومية” أن “المجتمع منظم على أساس أن أي فرد يملك خصائص اجتماعية معينة له حق أخلاقي في توقع أن الآخرين سيقدرونه ويعاملونه بطريقة لائقة في المقابل”، قد يصبح لسامح الحق فيما فعل لأنه ما فعله إلا درءًا للإهانة عن نفسه وطلبًا لمعاملة لائقة.
يمارس “صابر أبو الرجال” و”سامح بعلو” عنفًا ذاتيًا استعراضيًا أمام التهميش والرفض الاجتماعي لفئتهما، وأمام غياب الحد الأدنى من المعاملة اللائقة، يجرح كل واحد منهما نفسه كي يصنع انطباعًا بأنه مهيمن على الموقف وعنيف لا يخشى الإصابة وعدواني لكي يخشاه الآخرون، عوضًا عن الاحترام الغائب.