الخامسة صباحاً. أقفُ عند محطّة الباص في شارع مظلم وفارغ. هذا الوقت الذي اتفّقت عليه مع منير لأرافقَه في يوم عمل. البلد في حالة سبات رمضاني اعتدناه لسنوات، لكن هذا العام استثنائيّ بما أنّنا اختبرنا حظر التّجوال الليلي.. من آخر الرّصيف المقابل، يقترب منير (اسم مستعار).
تبدأ نقطة انطلاقه في العادة من حيّة، إحدى الضواحي في شمالي العاصمة، لكن مع الأزمة الصحيّة وفي وقت مثل هذا يصعب العثور على وسيلة نقل عامة، لذلك، ينسّق مع زميل له يوصله إلى وسط العاصمة مقابل مبلغ من المال.
يسلّم عليَّ بسرعة ثمّ يعتذر عن التّأخير، يمسكني من ذراعي ويشير إلى الجهة المقابلة من الشّارع. سنتّجه إلى المكان الذي يضع فيه الدراجة النّارية والعربة التي يجمع فيها البلاستيك وأشياء أخرى. “الموتور والكرّوسة (العربة) موش متاعي، شراكَة مع أحد الزّملاء.” يشرح لي مبتسماً.
قبل أسابيع أتمّ منير عامه الثّالث والثلاثين، وقبل أسابيع أيضاً أكمل عامه الأول في مهنة “التبربيش”، وهي كلمة تونسية تقع بين “البحث” و”التفتيش” وتعني جمع عبوات البلاستيك والخردة من القمامة وبيعها إلى مراكز التجميع.
في السنوات السابقة كان يعمل نادلاً في مقهى، لكن ومع بدء انتشار وباء كورونا وتراجع الحركة الاقتصادية وإغلاق العديد من المقاهي انضم إلى جيش عدده ثمانية آلاف “برباش” أو منقّب نفايات يجولون شوارع تونس بحسب تقديرات منظّمة أنترناشيونال آلرت.
الفارق بين منير ومعظم البرباشة الآخرين أنه لا يملك وسيلة نقل خاصة به لحد الآن، أو بأسلوبه في الكلام الذي لا تنقصه العناية بانتقاء المفردات: “رِيتْ الطبقيّة حتّى في الشْقَاءْ”.
“التبربيش” مهنتي
يتحدث منير عن الساعات التي يمضيها في البحث عن البلاستيك في الشوارع وبيعه في مراكز التجميع دون أن تغادر الابتسامة وجهه. يخبرني أنّه حظي بقليل من التعليم، مستوى بكالوريا غير منهاة، لهذا هو مضطر دوماً للعمل في مهنٍ متعبة.
خلال الأزمة الصحيّة، يقسّم منير أسبوعه حسب نظامٍ محكمٍ، ثلاثة أيّام يستلم الدراجة الناريّة ويجوب شوارع العاصمة وصولًا إلى الضاحية الشمالية في بعض الأحيان، وثلاثة أيام أخرى للعمل في المقهى إن وجد واحداً يستقبله.
أسأله عن الآحاد هل هو يوم راحته، يبتسم منير مجدداً ويقول: “الآحاد مخصّصة لبيع بعض الخضر في السّوق اليوميّة. طبعاً، لا يُسمح لي بالتواجد في أماكن معيّنة داخل السّوق لذلك أترصّد مكاناً استراتيجيّا على الرّصيف. وفي رمضان، زوجتي تعدّ الملسوقة (رقائق عجين) لأبيعها لأنّ الخضر في هذا الشهر تصبح نادرة ومن الصعب الحصول عليها”.
يعدّد منير أسماء أصدقائه الذين يشتغلون في أكثر من مهنة، ويقول: “الحْبَلْ عْلَى الجَرَّرَاة، الكلنا نخدمو في زوز خدم (عملين) على الأقلّ.”
خلال الأزمة الصحيّة، يقسّم منير أسبوعه حسب نظامٍ محكمٍ، ثلاثة أيّام يستلم الدراجة الناريّة ويجوب شوارع العاصمة وصولًا إلى الضاحية الشمالية في بعض الأحيان، وثلاثة أيام أخرى للعمل في المقهى إن وجد واحداً يستقبله.
مع تفاقم الأزمة الصحيّة منذ حوالي العام قرّرت الحكومة التونسيّة صرف مجموعة من المساعدات الماليّة للأشخاص الذين فقدوا مواطن شغلهم بسبب الحجر الصحّي الشّامل، حيث يبلغ مجمل العمال في تونس حوالي 3 ملايين و600 ألف عامل.
نصف هذا الرقم تقريباً عمالة غير رسمية لم تحصل على المعونة، بينهم منير الذي يقول إن “المِتِينْ دِينَارْ (حوالي ستين يورو) فَمَّة نَاسْ خْذَاتْهُمْ وْفَمَّة نَاسْ لَا. وأنا من النَّاسْ إِلِّي لم تستطع الحصول عليها.. وْحَتَّى كَانْ خْذِيتْهُمْ مَا يْخَلْصُولِيشْ حَتَّى الكْرَاء (إيجار المنزل).”
ويتابع: “قبل الكورونا كنت غير مستقرّ بلا أيّ تغطية اجتماعيّة، ولكن الحال المادي كان أفضل.. اليوم بدأت أشعر أنّ “التبربيش” مهنتي، ويمكن أن تنقذني وعائلتي من الجوع فيما لو ركزت فيها”.
وَاكْلِينْهَا.. حْشِيشْ وْرِيشْ
يبدأ منير يوم عمله بالتجوال على أماكن معيّنة قريبة من الأسواق اليوميّة ويجمع البلاستيك من الحاويات وجوانب الطرقات. “أحاول أن أجمع أكبر قدر ممكن من القوارير لأنّها الأغلى سعراً. في العادة، يتراوح سعر الكيلوغرام بين 500 و800 ملّيم (15 و25 سنت)”.
عندما استفسرت عن النّظام المعمول به في التّسليم وعن مسالك التوزيع، أخبرني أنّ السّوق السوداء في هذا المجال ازدهرت بشكل كبير منذ سنوات، لأنّ أغلب البرباشة يفضلون البيع بسعر أعلى من الذي تحدّده وكالة التصرّف في النفايات.
هكذا يتوجّه جلّ جامعي البلاستيك إلى نقاط تجميع خاصّة، يُمكن اعتبارها نقطة من شبكة الاقتصاد غير الرسمي في تونس، حيث يشكل حجم هذا الأخير حسب الحكومة التونسية 38 بالمائة من مجمل اقتصاد البلاد، في حين يُقدّره البنك الدولي بـ 53 بالمائة.
“السّيستام فيه ثلاثة مراحل: مجمّعي البلاستيك، مراكز التجميع التابعة للوزارة والخاصّة ومن يتصرّفون في البلاستيك بعد رحيله”، يشرحُ منير. “بالطبيعَة نحن الحلقة الأضعف لأنّ البلاستيك المجمّع والذي يشترى بأثمان بخسة تحقّق منه ثروات، فبعد عمليّة الرّحي يتمّ بيع الكيلوغرام بألفين فرنك (ديناريْن، حوالي 0,6 يورو).”
أمّا عن مجمّعي البلاستيك ووضعيّتهم فيقول منير: “ثمّة من يجمعُ البلاستيك في عربة بسيطة وثمّة من يملك دراجة هوائيّة أو ناريّة، لكن في السنوات الأخيرة، ظهرت فئة جديدة من البرباشة “المذخمين“، الذي يعملون بسيّاراتهم ولا يكتفون بجمع البلاستيك فقط بل هناك أشياء أخرى كالخُردة والخبز وغيرها من الأمور.” ويضيف مبتسماً: “هاذُم وَاكْلِينْها حْشِيشْ ورِيشْ.”
“أَعْطِينَا نِتْكَلْمُو وِنْفَسْرُو الوَضْعِيَّة مْتَاعْنَا”
لا يبدو منير منزعجاُ من الطريقة التي يصور بها البعض مهنة البرباشة كعمل قليل الشأن أو يستخدمونها أحياناً كشتيمة. “الصورة النمطيّة عن هذا العمل سببها وسائل الاعلام.. ينشرون مقالات عنا لا يرافقها أيّ شرح عن أوضاعنا أو عن طبيعة عملنا”، ويضيف: “أَعْطِينَا نِتْكَلْمُو وِنْفَسْرُو الوَضْعِيَّة مْتَاعْنَا”.
ينتهي من الإعلام ثمّ ينتقل إلى الحكومة، “اهتمام وزارة الشؤون الاجتماعيّة بنا يكاد يكون منعدماً.. أنا لا أريد شيئاً من الدّولة ولا أرغب في عمل ثابت. فقط لو أتمكّن من الحصول على قرض صغير لا يتجاوز ألفين أو ثلاثة آلاف دينار (600 أو ألف يورو) لشراء درّاجة ناريّة وعربة.”
أحاديثه تبدأ دوماً عند حلم امتلاك دراجة نارية وتنتهي عند نفس الحلم. فهو يشارك زميل له الدراجة والعربة نفسها ولهذا السبب يضطران لاقتسام أيام الأسبوع فيما بينهما.
اهتمام وزارة الشؤون الاجتماعيّة بنا يكاد يكون منعدماً.. أنا لا أريد شيئاً من الدّولة ولا أرغب في عمل ثابت. فقط لو أتمكّن من الحصول على قرض صغير لا يتجاوز ألفين أو ثلاثة آلاف دينار (600 أو ألف يورو) لشراء درّاجة ناريّة وعربة
فسّر لي أنّ مصاريف العمل كثيرة و”كلّ شيء محسوب بالورقة والقلم”، وأوضح أن دخله سوف يتضاعف لو تحقق له مراده، وسوف يكون بلا شك أقل توتراً عندما يفكر بمستقبل ابنه المولود قبل أشهر.
اشترى منير في السنة الماضية دراجة نّاريّة بميزانية متواضعة، لكن المشكلة الأساسية هي أنّ الدراجات القديمة تعطل باستمرار ولا تتحمل كل هذا الجهد في الاستخدام، “المُوتُورْ الأُوكَازْيُون يْوَلِّي يِتْكَلَّفْ أكثَر مِلِّي يْرَبَّحْ”.
يتوقّف ويفتح هاتفه: “شوف أقلّ موتور في ‘طيّارة’ (موقع تونسي للبيع والشّراء) بزُوزْ مْلَايِنْ (حوالي 600 يورو)”.
المسمار مْصَدَّدْ والحيط طاحْ
منذ إطلاق برنامج التعليم المجاني في دولة الاستقلال في الستينيات وما يعرف بسياسة “المصعد الاجتماعي” يتعامل تونسيون كثر مع مفهوم العمل على أنه مرادف للوظيفة الحكومية الثابتة التي يتلقّى صاحبها أجراً من الدّولة، ولهذا كان العمل عند الحكومة يوصف في الأوساط الشعبية بـ المسمار فِي حِيطْ، أي عمل دائم ومستقر لا يتغيّر مهما كانت الظّروف.
لكن منير وأمثاله ينتمون إلى جيل آخر يعيش يوماً بيوم، ولا ينتظر من الدولة أي شيء، “فقدتُ الأمل في هذه الدّولة، المسمار مصدّد والحيط طاحْ”.
لهذا خلال الاحتجاجات الليليّة مطلع العام الماضي، خرج منير مع آلاف آخرين في عدة مدنٍ تونسيّة طالبوا بإسقاط النّظام، “كانت أجواء ذكّرتني بالثّورة وأعادت إلّي بعض الأمل ولو لساعات”.
يقول إنه لم يشترك في أعمال التخريب والسلب التي حصلت في بعض المدن، “لكني تمنيت لو أنّ الجميع اتّجه من جديد إلى مقر وزارة الدّاخليّة وطالب من جديد بإسقاط النظام.”
ويضيف: “كنت في الثّالثة والعشرين عندما قامت الثّورة. كان نظام بن علي جاثياً على الصدور مُطَارِداً للشّباب حتّى في مدرّجات ملاعب كرة القدم. اليوم، لم يعد هناك قمع ولكن السّلطة تتجاهل مطالب الفقراء..الآن يمكنك التكلّم كما تشاء ولن تجد أذناً صاغية”.
أسأله عن الانتخابات الرئاسيّة في 15 سبتمبر 2019 وهل كان من المصوّتين لقيس سعيّد أم لنبيل القروي في الدّور الثاني، يجيبني: “قيس سعيّد خيبة أملٍ أخرى تُضاف إلى سابقاتها. كنت آمل أن يتغيّر الوضع مع شخص يقطع مع المنظومة، ثمّ سرعان ما فهمت أنّه كالآخرين.. كل ما يهمني اليوم هو شراء دراجة نارية.. لا قيس سعيد ولا المهازل التي تحصل في البرلمان”.
برباشة بدوام كامل
في الطريق يتوقف منير فجأة، يمسكني من ذراعي مجدداً ويشير إلى مقهى مغلق. “هذا مقهى الحاج الذي اشتغلتُ فيه لسنوات. الحاج متديِّنْ لكنّه كان يتأخّر في دفع الجُورْنَاطَة وفي بعض الأحيان يدفع بعد يوم أو يومين”.
الجُورْنَاطَة في الدّارجة التونسية تعني يوم عمل، وفي المعجم المتداول بين العمّال تعني المبلغ الذي يتلقّاه الشّخص مقابل عدد ساعات عمل محدّدة يوميّاً، وهي، غالباً، كلمة مشتقّة من “giornata” الإيطالية التي تعني “نهار”.
أثرت الجائحة على عمل الرجل، ليس كجامع بلاستيك فقط، لكن أيضاً كنادل في مقهى. يحن إلى أيام ما قبل كورونا وإلى عودة المقاهي للاشتغال بصفة عاديّة. عندها سيواصل الادخار لشراء دراجة ناريّة جديدة، كي يصير برباشة بدوام كامل.
أي سيناريو آخر يبدو مستبعداً بالنسبة له. سبق وأن جرب أعمال أخرى وسبق وأن طرد فكرة الهجرة غير النظامية أو ما يعرف في تونس بـ “الحرقة” من رأسه. يقول إنه لا يرغب في ترك بلده ولا طاقة لديه للبدء من جديد.
“خمّمت برشا في الحرقَة أما تجي للحَقْ؟ أنا غير معني بها، عندي عائلة هنا، مرْتِي وْوِلْدِي شْكُونْ بِيهُمْ… ثمّ أنّو ثمن الحرقة يعادل تقريبا ثمن الموتور. كان جاء عندي حق الحرقة نحقّق حلمي في بلادي. حاليّاً، أنا وإلّي كيفي نحفر الأرض باش نخرجُو الفلوس ونتطلّع للسّماء”.