ثلاث قصاع: الأولى للأموات والثانية للأطفال والثالثة لمن لا يعرف اللحم طريقًا لأفواههم في غير عيد، من أقارب وجيران وعابري سبيل.
قصاع الكسكسي تلك، لم تكن أبدًا مثل غيرها، لا في توقيت طبخها ولا في حجمها. غير أن الأغرب فيها، هو ما يتزامن مع إعدادها من خشوعٍ وطقوس، فكل كتلة كسكسي ترفعها جدتي من الكسكاس نحو القصعة، تنويها صدقةً على روح أحد الأموات والراحلين، سواء الذين تعلمهم أو تجهلهم.
ثم ما أن تكتمل القصعة وتستوي حتى ترفعها وتحملها نحو الخلاء المحيط بقريتنا -الواقعة بسيدي بوزيد 270 كلم جنوب غرب العاصمة تونس– وبذلك تُعلن إحياء “عيد الموتى” كما عرفته صغيرًا.
لا تطفئ المصباح حتى يعرف الموتى الطريق
هنا لسنا بصدد تقديم درسٍ أنثروبولوجي عن سكان مناطق الأرياف ومعتقداتهم بل هي شذراتٌ مفككة، أحاول الآن تجميعها قبل أن تغادرنا طقوس “عيد الموتى” إلى الأبد، وهي التي بدأت تنحسر منذ نهاية التسعينيات.
ما يهمنا هو قِدَمُ الطقس وجذوره البعيدة في بعض مناطق البلاد، إذ يجزمُ جُلُّ ما كُتِب في هذا الصدد عن علاقة الأمازيغ القدامى الوثيقة بأمواتهم، والتي تتجاوز مجرد الوشائج العاطفية لترتقي لمكانةٍ تشبه العبادة والتقديس الذي يفرض على البشر إبداء الاحترام والوفاء للأسلاف الموتى، وتغيبُ بناءً على ذلك الحدود الصارمة بين دنياهم ودنيا الأحياء، ليعود الأموات في أكثر من حلةٍ ولأكثر من غرضٍ.
“عيد الموتى” هذا يقدم لنا مثالًا على استمرار هذه الفكرة ورسوخها في الثقافة الجمعية. ولعل الأهم، هو إعادة قولبتها وقولبة طقوسها حتى تنسجم مع الثوب الحضاري والديني الجديد، فتقديس الأموات هنا تخلّى عن مظهره الوثني، ليقع دمجه في روزنامة طقوس واحتفالات الإسلام.
ومن ذلك الاختيار الدقيق للتوقيت، أي “ليلة 27” من شهر رمضان وهي الليلة الأكثر قدسية طوال الشهر والمرجح دائمًا أن تكون ليلة القدر المحتملة التي “تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر”.
وبذلك يتم إدماج الطقس وشحنه بالمزيد من القدسية من داخل الإسلام وموروثه، لا فقط لضمان استمراريته وإنما كذلك لمنحه ومنح الموتى المزيد من “الإنعام” متعدد المصادر، وبهذا نجحت هذه العادة في الانتشار أفقيًا في أغلب أنحاء البلاد التونسية ضمن مختلف الفضاءات الريفية والقروية والحضرية على حد سواء لحينٍ قريب.
“ليلة 27″ -وهي الاسم الحضري لـ”عيد الموتى”- هي محاولةٌ لمد جسورٍ بين عالمين، عالم الأحياء المحسوس وعالمٌ آخر غير منظور. ومحاولةُ الوصل هذه، خليطٌ فريدٌ من البساطة والسذاجة والصدق واليقين التي طبعت إيمان التونسيين لقرون. فالإيمان بأن الموتى يعودون هذه الليلة، حقيقةٌ قاطعة، وبالتالي لا يجب أن يغيب النور عن البيت طوال الليلة المباركة، إذ هو دليل الموتى وسراجهم الذي يستدلون به لبلوغ منازل الأهل والأحباب.
هل يمكن أن نحاجج تلك السيدة العجوز الغاضبة على أحفادها عندما أطفأوا المصباح تلك الليلة، بأن مسائل الإنارة وغيرها من اللوجستيات قد تكون آخر ما يشغل بال سكان العالم الآخر لو أرادوا العودة؟
بالطبع لا، ذلك أن معقولية الرحلة من عدمها، أمرٌ لا معنى له، بل هو نسفٌ لجوهر الطقس. فاللا معقولية –في صدقها– هي كنهه وروحه، ومعاملة الأموات كبحارةٍ يحتاجون لضوء منارة ترشدهم في ليلة بحرية طويلة، خلطٌ متعمد لأوراق لعبة الحياة والموت وكسرٌ للحاجز الفاصل بينهما.
على شرف المعلومين والمجهولين
“اللوح” كلمةٌ قديمة، لم تعد دارجةً عندنا اليوم، ولكن بالنسبة للجدة والموتى، هي كلمةٌ محورية، فهي تقصد باللوح كميةً من حبات الكسكسي تعادل ما يحمله مغرف الخلط من آنية الطبخ نحو قصعة التقديم. وما أن يستوي الكسكسي، حتى تشرع في عملية التقديم تلك.
رفع “ألواح” الكسكسي، هو أكثر مراحل الطقس إثارةً للأسى، ذلك أن كل لوحٍ، هو في النهاية صدقةٌ على شرف أحد الراحلين، تصرّح وتجهر بها الجدة، فتقول: “هذه من أجل فلان وهذه من أجل فلتان”، في سلسلةٍ طويلةٍ من أموات العائلة الآخرين والأولين، المقربين والأبعاد.
وما أن تنهي سرد أسماء ما ذبل من أوراق شجرة العائلة حتى تجاوزهم للأفق الأرحب، فتقول: “هذه لكل الأموات وهذه للغائب وهذه للمنسي وهذه لمن لا أهل له وهذه ‘للبراني’ الغريب“.
وبذلك تحول قصعتها من هديةٍ عائليةٍ محضة إلى قربانٍ إنساني جامع، تنصف به وتمنح حيزًا للمهمشين ومن لا عقب لهم، للمنسيين وللأغراب وكل مستضعف بمعايير ذلك الزمان بسبب غياب الأهل والعشيرة.
غير أن المؤسف في الأمر، يكمن في كون جدتي، لم تلتحق بالمدرسة يومًا، ورحلت دون أن تسمع بأصناف الاستضعاف والهشاشة الجديدة، وإلا لأضافت ألواحَ أخرى، للمهاجرين غير القانونيين والأقليات والنساء والعمال.
المهم أنها لم تنس ضيوف السماء الآخرين، القادمين في هذه الليلة، لذلك تستدرك وتضيف لوحًا آخر على شرف الملائكة، حراس الليلة المباركة والمشرفون على تنظيم حركة مرور الموتى المكتظة في ليلة الذروة من وإلى عالم الأحياء.
باكتمال رصف “النعمة“، وهي عبارة إجلال تكنى بها حبات الكسكسي، يوضع على الطبق لحم الضآن ويرسل نحو وجهته المعلومة. وهنا يختلف المشهد من بيت إلى آخر، فلكلٍ وجهته وطقوسه، ومن أغرب تلك الطقوس، القصعة المتروكة في الخلاء. هذه القصعة، تجسيدٌ حرفي لعودة الأموات، ذلك أنها توضع في مكان قصي ومتوارٍ عن الأنظار خارج المنزل أو في أحد أركانه وتترك في العراء ليلة كاملة. ومن الغد تعيدها الجدة مستبشرة وتشير بأناملها لنواحٍ من الطبق، فنعاين مواضع صغيرة أشبه بنقر الدجاج، ثم تهمس بأن الأخيرة هي أدلة على قدوم الأموات –ومعاشر الجن– حتى، وأكلهم من الطبق.
لا نعلم حقًا من نقر تلك المواضع: طيور الليل الهائمة، القطط، الحشرات، الجن، الملائكة.. أم غيرها. ولكننا نعلم ونبتهج لرضا صاحبة البيت على نفسها، متى ما عاينت نجاحها في إكرام وفادة ضيوفها وأحبابها القدامى. بيد أن كرمها في ذلك اليوم، عمّ ليشمل إلى جانب الأموات، الأحياء طبعًا.
خطــ٣٠ // باستخدام Ai // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft
“غنجايتك” وديار الناس
يرتبط الكسكسي لدى التونسيين في شهر رمضان بثلاث مناسبات، الأولى يوم “القرش” أي آخر وجبة في شهر شعبان قبل دخول شهر الصوم، أما المناسبة الثانية فهي ليلة “النص” أي ليلة منتصف رمضان، وتتمثل آخر مناسبةٍ في كسكسي “ليلة 27”.
والجامع بين كل هذه الأيام هو قداستها ورمزيتها وبالتالي فإن الاحتفاء بها لا يتم إلّا عن طريق هذا الطبق الأكثر إجلالًا لدى التونسيين.
غير أن المميز بالنسبة لكسكسي “عيد الموتى” هو زمن إعداده، فهو خلافً للمعتاد في موائد رمضان يطبخ في وضح النهار، تحديدًا عند الظهر من اليوم السابق لليلة 27، ويا سعد المرأة التي تنتهي منه قبل جيرانها وقريباتها.
هذا الأمر يرتفع لمنزلة الإلزام، فلا يجوز أن يطبخ أو أن ينتهي إعداده إثر صلاة العصر. ولهذا التحديد الزمني الصارم معانٍ عدة، أبرزها، طابع هذه الوجبة الخيري، فكلما تم التبكير به، كان هناك تغطية لأكثر عدد من مستحقي الوجبة من المحتاجين.
أما أكثر من يبتهج للكسكسي و”الزهومة” عند منتصف يوم الصيام الطويل فهم الأطفال بطبيعة الحال، فهم الوحيدون المسموح لهم بالمجاهرة بإفطارهم. بالتالي يمنح لهم شرف تذوق الطبق قبل جميع الأحياء والأموات، فقط متى ما التزموا بشرط إحضار “غناجيهم” معهم، والغنجاية هي كلمة أمازيغية قديمة يقصد بها الملعقة.
في ذلك الزمان لم يكن يعنينا كثيرًا معرفة جذور كلمة “الغنجاية” الايتيمولوجية، بل ما كان يهمنا وقتها ونحن أطفال هو أن لا ننسى حملها أو نضيعها في رحلتنا نحو ديار الجيران والأقارب لافتكاك حقوقنا المكرسة بالعرف والعادة، ذلك أن ثلث أطباق كسكسي الموتى، هي من حق الأطفال، كل الأطفال بقطع النظر عن أصولهم وعائلاتهم وطبقاتهم الاجتماعية. فنطرق الأبواب صائحين: “طاب ولا مازال؟”
هنا تختلف الإجابة حسب الجهات وحسب مراحل الطبخ، المهم أن “لا” تغيب عن القائمة، وأقصى ما قد يسمعه الأطفال هو “مازال” وحينها تصيح العصابة “هانا راجعين” وتختار منزلًا آخر لحين. ومتى ما كانت الإجابة “نعم” تفتح الأبواب ويلج الأطفال ويعلو الصياح ويُؤتى على الكسكسي واللحم. فإن نال الطبق استحسان الصغار، يلقى البيت وأهله الإطراء ووسط الشارع ترتفع الأصوات بالغناء “هذي دار بوبشير فيها القمح و الشعير“.
أما لو اختار أهل البيت التقتير على الأطفال وعدم إكرامهم، فإنهم يعرضون أنفسهم لأقذع الهجاء على مسامع الجميع. وهكذا دواليك يمضي الأطفال، إلى ما يقارب العصر، في رحلتهم بين البيوت، حتى يصلوا مرحلةً يطلبون فيها اللحم دون “النعمة” وتلك دلالة التخمة، ولا يبقى في البيوت سوى قصعة الصدقة، تلك التي ترفع قبل الغروب نحو مستحقيها من المحتاجين.
على قدر المحبة.. كُل
“القسامية” و “الموسم” و”الحسبة” هي أسماء عدّة تختلف حسب المناطق، ولكنها تشترك للتدليل على فعل واحد، هو اقتسام اللحم قبل دخول “ليلة 27” وتوزيعه على المشاركين في الموسم والمستحقين، وتسمى في بعض المناطق بالجزائر “الوزيعة“. هذه العادة بنت عصرها، فرضتها جماعية الحياة وشح اللحم وندرته في فترات كثيرة. لذلك كان الموسم فرصةً لتعميم “الزهومة” على المقتدرين والعاجزين سرًا وجهرًا.
وهنا تمضي ثالث قصاع الكسكسي نحو وجهتها، وترفع هذه القصعة بكل احتفالية وتوضع عند رأس النهج حتى يأتيها مستحقها. وفي مناطق أخرى، يمضي بها صاحبها سرًا. وفي كل الأحوال، تنال ما يليق بها من تشريف، ذلك أن قصعة الموتى لا ترفض، بل إن الإقبال عليها تأكيدٌ على ما بين الحي والميت من حب ووفاء وامتنان. وكل ملعقة ترفع نحو الأفواه تساوي أجرًا وثوابًا في حق الميت بمقدار ما فيها من حبات كسكس، أو هكذا يقول الراسخون في العلم من أميي وبسطاء قرانا وأحيائنا.
وللضيوف والأحباب والجيران، نصيبٌ أيضًا، يسعى لهم ويسعون له، ابتغاءً للرحمة ولذكرى الراحلين. ومتى ما أبدى أحدهم علامات الشبع أو الحرج والتعفّف يهمس له صاحب القصعة “كول راهو كان يحبك”، أي كل فإن الفقيد الذي أقيمت على شرفه كان محبًا لك وبالتالي فإن رد الجميل يقتضي عدم الإعراض عن كسكسيه، فيرفع بذلك الحرج والكلفة. وبتلك القصعة، ينتهي “عيد الموتى”، ويشبع الأحياء وقبلهم الأموات، وتتجدد الأواصر معهم، في انتظار العيد القادم. أو هكذا كان عليه الحال لسنين.
ماذا عن اليوم، هل مازال لـ”عيد الموتى” مكانته عند التونسيين؟ على مثل هذا السؤال، تبدو الإجابة أقرب للنفي، ذلك أن العقلانية لم تعد تقبل بتجوال الأموات وسط عالم الأحياء، أما عن اللحم فقد غزا البيوت وما عاد لاقتسامه في الموسم جدوى ولا جاذبية، وبالنسبة لقصعة الكسكسي فإن الصدقة العينية قد أصبحت بدورها عالةً وتكرارًا لا يحبذه حتى المحتاجون.
ناهيك أن المؤمنين به صدقًا والمخلصين له والقائمين على طقوسه بكل وفاء، ترجلوا واحدًا تلو الآخر ليلتحقوا بركب الأموات: جدتي وعم علي والحاجة بنت كرعود وغيرهم ممن كانوا ذات يوم الأحرص على ربط الوصل بين العالمين.
مع ذلك، ورغم انقطاع العادة، فإنهم سيعودون “ليلة 27″، حتمًا سيعودون كما فعلوا لآلاف السنين، طالما أنهم يعرفون الطريق، وطالما أن البلدية الموقرة لن تتخلى عن الإنارة العمومية للشوارع في المستقبل المنظور. غير أن الفارق الوحيد هذه المرة، هو أنهم لن يجدوا قصعة لكسكسي تنتظرهم هناك في العراء.