بينما يعيش حياة عادية دون أن يفكر فيها فعلًا، يدرك بطل رواية “موت إيفان إيليش” لـ تولستوي أنه مصاب بمرض قاتل وأن أيامه معدودة، ورغم إنكاره العميق والمتأصل لذلك، إلا أن شيئًا ما يدفعه إلى التفكير في حتمية الموت، هذا التفكير بوصفه مواجهة لموته الشخصي، وهذه المواجهة باعتبارها التجربة الأخيرة له في العالم.
كان إيفان مثل سائر البشر العاديين، نادرًا ما يفكرون أثناء العيش اليومي في المسألة، وربما تكون الطريقة المناسبة للتعامل مع حتمية موتنا ببساطة أن نتجاهلها. وحدهم الفلاسفة والروائيون وعلماء النفس هم من شغلوا أنفسهم بلا هوادة في كيفية مواجهة الفرد لحتمية فنائه، وبهذا المعنى فإن الفلاسفة يحاولون لعب دورهم النبيل والقديم في تعليمنا شيئًا عن حدودنا البيولوجية وعن هشاشة وجودنا، بدءًا من أفلاطون وشيشرون ومونتان وشوبنهاور وصولًا إلى فلاسفة عصرنا. الأمر أن قراءة الأدب والفلسفة لن تعلمنا الكثير عن موتنا، بل كيفية العيش بالرغم منه. هاهو هايدجر يصف الحياة نفسها بأنها “الوجود نحو الموت”، في نظره أن القوة التي تمكّن الإنسان من فهم موته هي ذاتها التي تجعله قادرًا على فهم حياته، لذلك يرى الإنسان حياته في ضوء مماته.
أن يأتي كفيضان..
ماذا لو أن إيفان إيليش كان يحتضر في زمن من الموت الجماعي، ماذا لو كان يموت خلال سنوات الطاعون في القرن الخامس عشر، ماذا لو كان يموت في القاهرة في 2011 وما بعدها، أو أثناء إحراق الآلاف من ضحايا كورونا في الهند قبل أشهر، كيف كان تولستوي سيكتب عن حتمية موت الفرد في حفلة من الموت الجماعي؟ أكتب هذه العبارة وأفكر في عكسها، أحيانًا يرتفع موت فرد واحد على أصوات الموت الجماعي، لنأخذ جورج فلويد نموذجًا، الذي أصبح حتفه في الواجهة في حين تراجعت أخبار ضحايا كوفيد في أميركا كما لو أنها مجرد خلفية متوترة لأحداث دامية.
أكيد أننا لم نكتشف الموت للتو، كورونا لم تجعلنا ننتبه فجأة لوجوده، كانت السنوات الأخيرة عقدًا من الموت الكثير أو الموت بكميات؛ في مظاهرات، انفجارات، حوادث قطارات، إعدامات، في السجون، والآن بالوباء. نحمل اليوم في هواتفنا خرائط للموت، دون أن ننتبه أنها كذلك، نطلق عليها خريطة كوفيد-19، كم عدد الإصابات هنا أو هناك كم من بينها وفيات، ربما تطمئننا الأرقام أننا لسنا بين الضحايا، بل إننا نحن الذين نعرف أعدادهم.
لم نكتشف الموت للتو، كورونا لم تجعلنا ننتبه فجأة لوجوده، كانت السنوات الأخيرة عقدًا من الموت الكثير أو الموت بكميات؛ في مظاهرات، انفجارات، حوادث قطارات، إعدامات، في السجون، والآن بالوباء
ليس الموت الجماعي موت الفجأة، حتى وإن لم يفقد عنصر المفاجأة، بل إنه موت سياسي في الأصل. المفكر الكاميروني أشيل مبمبي في مقالته الشهيرة “سياسات الموت” يرى أن التعبير النهائي عن السيادة يكمن بدرجة كبيرة في القدرة على إملاء من يعيش ومن يجب أن يموت، من ينبغي إنقاذه ومن يجب أن يترك ليموت، ومن ثم فإن القتل أو السماح بالعيش أو تعريض أحد للموت أو حتى تجاهل معالجة أسباب الموت بكثرة، كأن تتكرر حوادث القطارات مثلًا دون التفكير في حلها من جذورها، يشكل جزءًا من حدود السيادة وسماتها الأساسية، وممارسة السيادة هي ممارسة السيطرة على عدد الوفيات وتعريف الحياة على أنها نشر مستمر للسلطة ومظهرها.
هل يمكن التصالح مع الموت الجماعي؟ هل لموت فرد مع الجماعة وقع أخف من موته وحيدًا؟ ثمة مثل شعبي يوافق على هذه الفكرة تمامّا “الموت مع الجماعة رحمة”.
أن يأتي في صورة فيروس
يسعل عجوز في السوبرماركت، ويلتفت الجميع نحوه. الموت يأخذ صورة فيروس في الهواء وعلى الأسطح، والفيروس يأخذ صورة إنسان يسعل وعلى وجهه كمامة، وييستهدف الكل ولكن بشكل خاص يفتش عن الأجساد الشائخة والأكثر هشاشة.
حملت يُسرى والدها الثمانيني في صباح باكر إلى المستشفى، ظهرت الأصابة بكورونا على شكل خرف، فجأة لم يعد الأب يميز الليل من النهار، استهدفت الفيروس ذاكرته قبل رئته ولم تفد إجراءات الحظر التي وضعها حتى على أبنائه ولا العشرات من علب الكمامات والمعقمات. رغم تردي حالته مازالت العائلة تتحاشى الدخول في تفاصيل الإجراءات الضرورية، لكنهم يأخذون بعضها، يتعاملون مع الموت من دون ذكر اسمه أو الاعتراف أنهم يفعلون، تقول يسرى.. نفعل ما يفعل الآخرون، نتجاهله.
ظهرت الأصابة بكورونا على شكل خرف، فجأة لم يعد الأب يميز الليل من النهار، استهدف الفيروس ذاكرته قبل رئته ولم تفد إجراءات الحظر التي وضعها حتى على أبنائه ولا العشرات من علب الكمامات والمعقمات
دخل عبدالله والد صديقتي لبنى المصاب العناية المركزة لثلاثة أشهر، لقد أعد إجراءات رحيله بنفسه، واشترط على أولاده ألا يدفن في الليل، وأن يدفن بجوار من فقد من ذويه لعله سيقابلهم في عالم آخر. ربما أن هذه الفكرة، القديمة قدم الإنسان نفسه، هي ما يدفعه إلى الاستعداد لنهاية الحياة باعتبارها بداية لأخرى. وحين عاد عبد الله إلى الحياة من العناية المركزة، وأخبره الأطباء أن بإمكانه مغادرة المستشفى كان مصدومًا تقريبًا. لقد “تصالح مع الموت”، ليس سهلًا أن تستعد، وحين تفعل ليس سهلًا ألا تستعد. يقول إن جزءًا من الاستعداد هو الشعور بالراحة وبأنه أدى دوره على أكمل وجه، تلك الراحة التي تأتي من اطمئنانه أنه سيترك الجميع بخير.
لا يشبه والد لبنى بطل تولستوي، كان إيفان يرى أنه لا يستحق الاحتضار لأنه عاش على نحو “صائب”، لأنه فعل ما ينبغي فعله، وفي هذه الحالة فإن الاحتضار المؤلم على هذا النحو ليس إلا إجراءً تعسفيًا في حق رجل عاش حياته وفقًا لما يقول الكتاب.
يقدم تولستوي نموذجًا آخر لمشاعر الإنسان نحو الموت؛ نموذج لربما يكون طبيعيًا لإنسان مسلوب ومحكوم بقصر الحياة؛ أن يشعر بالغضب. ولكن ممن؟ وعلى ماذا؟
وحين عاد عبد الله إلى الحياة من العناية المركزة، وأخبره الأطباء أن بإمكانه مغادرة المستشفى كان مصدومًا تقريبًا. لقد “تصالح مع الموت”، ليس سهلًا أن تستعد، وحين تفعل ليس سهلًا ألا تستعد. يقول إن جزءًا من الاستعداد هو الشعور بالراحة وبأنه أدى دوره على أكمل وجه، تلك الراحة التي تأتي من اطمئنانه أنه سيترك الجميع بخير
سألت والدتي السؤال نفسه مرتين.. هل تخشين الموت؟ جاء الرد سريعًا دون تردد “لا”، وأعقبه “أديت دوري، وأعلم جيدًا أن الحياة ستنتهي يومًا ما، ولا أخاف تلك النهاية”، كان ذلك قبل الجائحة، ولم تتغير الإجابة بعدها لكن زادت عليها المخاوف. تسمع والدتي بحرق جثة المتوفى بكورونا أو عدم إقامة صلاة الجنازة عليه، فينتابها القلق، ذلك أن الشعور بالسلام تجاه نهايتها مشروط بطريقة مغادرتها للحياة، والاستعداد لدخول الحياة الثانية المجهولة على نحو لائق. تلك الحياة الثانية التي شغلت الأديان والقدماء، بل إن الفراعنة فكروا حتى في الجوع بعد الموت، فدفنوا مع الميت الطعام والشراب قوتًا له أثناء رحلته إلى العالم الآخر.
يرى الفيلسوف الأمريكي وليم إرنست هوكنج أن إيمان الإنسان بموته الشخصي أمر مكتسب وليس فطريًا، فلا يمكن المساواة بين تقبل الإنسان لموته والمسالمة مع الموت، حيث يطلق الإنسان العنان لخياله ويوسع دوائره من أجل إطالة الحياة، ويدرك في النهاية أن الحياة تتجه إلى الموت، فتقبل الإنسان للموت بهذه الطريقة لا يُكن أن يكون شأنه شأن مسالمة الموت. فالإنسان يواصل الأمل والتفكير في أشياء مستحيلة لإطالة الحياة، ولكن ما أن يحين الوقت المناسب حتّى يدرك الفرد أن الحياة التي يعيشها تتجه نحو تهيئة الظروف العقلية اللّازمة لإنهاء تلك الحياة ذاتها، فمثلما لا يدرك الإنسان لحظة مولده لن يدرك لحظة موته، يربط هوكنج بين الموت والحرية، فتقبل الموت من وجهة نظره هو بمثابة مرحلة جديدة من الحرية.
الاحتراز منه والاعتياد عليه
بدا الأمر وكأنه ضرب من أفلام الخيال العلمي، حين بدأت أخبار الفيروس تنتشر العام الماضي، ثمة مخلوقات غير مرئية تستهدف الإنسان، وتتوحش بشكل خاص على كبار السن. وبدا كأن الوباء جاء بوباء من نوع آخر، وباء معلوماتي شجّع على تناول أدوية مختلفة ولا بد أن لهذه الفتاوى الصحية التي انتشرت من آثار نفسية وربما صحية من نوع ما، بل إن دراسة أميركية حول أثر التضليل المعلوماتي الذي انتشر تلفت إلى حجم الإهدار المهول في الأدوية والموارد الصحية التي لم تكن لتساعد في الحيلولة دون الإصابة من الفيروس بأي حال.
رغم إنكارهم الخوف وتذرعهم بالإيمان بالقدر، لكنهم كانوا خائفين، دخل كثير من المسنين القادرين على العزلة بيوتهم وأوصدوا على أنفسهم. أصبح الصيدلي هو الرفيق الدائم لهم عبر التليفون، اتصالات يومية وأسئلة حول المرض، طلب أدوية تساعد في زيادة المناعة، وأسئلة مكررة يومية عن مخاطر الإصابة بالفيروس.
خلق هذا الخوف علاقة اعتمد المسنون فيها على الصيادلة. يتصفحون أرقام البيانات اليومية عن الوفيات والإصابات، ويخاف المحيطون منهم وعليهم.
لكن السأم يغلب الخوف، بدأ القلق يقل تدريجيًا بسبب الملل، ومعه أصبحت المبالاة أقل، قلّت المكالمات التليفونية التي كانت الصيدليات تستقبلها بشكل يومي، سألت بعضهم وفسر لي الأمر بالاعتياد، سماع أخبار الوفيات كل يوم وفي كل مكان، يحدث شيئًا من الإرهاق النفسي أو ما يسمى في علم النفس بـ Mental Fatigue وهذا يقود كثيرين إلى التعامل مع الأخبار الثقيلة والسيئة بلا مبالاة قد يفسرها كثير منا بأنها تصالح مع الواقع.
في انتظار الحياة الأخرى
بائع الخضروات الستيني الذي أمر عليه يوميًا مثلًا، لم يفكر حتى في ارتداء الكمامة، لم يسجل للحصول على اللقاح، يرى أنه عقد سلامًا مع الموت من قبل الجائحة، لا بد أن موته سيكون تعويضًا له عن حياة يصفها بالقاسية عاشها في الكد والتعب، يقول بيقين.. “سيكافئني الله بالطبع في النهاية بعد حياة من الشقاء”.
طبيب العظام الذي شارف على السبعين يقول إنه سيستقبل “حاصد الأرواح” براحة، يتخيل نفسه جالسًا على مأدبة عشاء كبيرة بها ما لذ وطاب، وكأن تلك المأدبة مكأفأة له على حياته.
والد صديقتي الذي عاد للحياة بعد 90 يومًا من المرض يردد “اللي جاي مش قد اللي راح”، يعلم أنه لن يعيش ستين عامًا مرتين. كذلك هو والدي الذي تخطى السبعين، وأصابه الفزع في بداية الأمر لكنه ما زال يرفض أخذ اللقاح خشية من مضاعفاته التي سمع عنها، إلى أن هدأ مرة والتفت إلي مبتسمًا.. “ربما سألتقي والدي بعد موتي، لا أتذكر ملامحه جيدًا لأنه رحل حين كنت طفلًا، وأيضًا سألتقي أصدقائي”.
بائع الخضروات الستيني الذي أمر عليه يوميًا مثلًا، لم يفكر حتى في ارتداء الكمامة، لم يسجل للحصول على اللقاح، يرى أنه عقد سلامًا مع الموت من قبل الجائحة، لا بد أن موته سيكون تعويضًا له عن حياة يصفها بالقاسية عاشها في الكد والتعب
هل تتشكل العلاقة الخفيفة مع الموت كلما تقدمنا في العمر؟ التفكير في النهاية الحتمية للحياة ينطوي أيضًا على مشاعر التحرر، والوعد المريح بشيء ما بعد الموت كان الناس يبحثون عنه في حيواتهم؛ هذا القبول بمفهوم الموت كمرافق في الحياة هو ما يمكننا تسميته بالتصالح.
أما أنا، فلا أفكر في النهاية وشكلها، ومعظم من هم في عمري لا يفعلون، لا يهمني أن أدفن في الليل أو النهار، وأخذت اللقاح ولم أفكر في أعراضه الجانبية، وأشعر أنني لم أعد أخشى الموت وإن كنت لا أتمناه. لكني أشعر أن العيش في حالة إنكار له أو رفض التفكير فيه أمر مأساوي؛ سيكون بمثابة عيش حياة ناقصة، هذا ما حدث لصاحبنا إيفان إيليتش، الذي يصارحنا في نهاية الرواية بأنه لو أدرك حتمية موته في وقت مبكر لكان عاش بشكل آخر.
ذلك أن تجاهل الموت يسيء إلى الحياة، إلى اختيارتنا فيها، وما يحدث لمن يدرك اقترابه الوشيك من النهاية، مثلما يحدث مع المسنين، هو أن العلاقة الأخيرة بالحياة يجري تخفيفها جراء القبول بالوصول إلى الأخير، ليبدو أن الأخير هذا ليس مفزعًا، بل نتيجة طبيعية تمامًا لوجود الحياة.