حكايتي مع المدينة بدأت في مرحلة مبكرة، وبخيال طفلة صغيرة وخوفها، أردت الشعور بالانتماء لشيء أكبر من العائلة. لا أذكر تمامًا لمَ كنت أطرح هذه الأسئلة وقتها، لكن اليوم حين أعود وأتذكر، أظن أن القصة بدأت بعد زيارات مدن أخرى في سوريا. رأيت معالم أثرية وسمعت الكثير من القصص عن التاريخ والأكل والبيوت والعمارة.
بدأت أبحث عن أي معالم أو هوية معينة تميز مدينتي جرمانا أو قصة تخصها. كنت أبحث عن سردية قوية ومؤثرة، غريبة ومفاجئة، لكن لم أجد إلا حكايات جدتي عن المشمش وشوارته في البساتين، والشوارة هي عملية تجميع المشمش الذي سقط، ويُوضع تحت الشمس الحارقة ليجف ثم يُصنع منه قمر الدين. كما كانت تروي لي عن العمل في «القنب»، وهو محصول ليفي تُصنع منه الحبال وأكياس الخيش بعد عملية مرهقة يقوم بها رجال ونساء المدينة. كانت تلك الحكايات، يتخللها التعب والعمل المضني لتأمين لقمة العيش.
كَبرتُ، وكَبُرَت الأسئلة. ازدادت تعقيدًا مع تعقيد وضع المدينة. تغيّرت علاقتي بها، وبدلًا من بحثي عن قصة جرمانا، أصبحت أريد فهم التحوّل العنيف الذي مرّت به، والتغيير الذي أنبت عمارات محشورة، وحارات ضيقة، وشقق كثيرة وصغيرة ضمن أبنية تواجهك بالبلوك والأسمنتِ الرمادي المُغَبَّر، كلونٍ جديدٍ للمدينة، لم تختره لنفسها، لكنّ اختُير لها.
جرمانا مدينة في محافظة ريف دمشق، تواجهك بإشكالية وجودها منذ البداية؛ فقد انتشر الإسلام في دمشق وغوطتها منذ القرن الأول الهجري ودخلوا في ظل حكم العرب وتأصل الإسلام فيها. لكن في عهد الدولة الفاطمية، بحسب ما توفر من مرويات، اعتنق سكان تلك البلدة قديمًا مذهب التوحيد، وذلك بحسب كتاب «جرمانا جارة الفيحاء» الذي أعدّه المجلس المحلي للبلدة بمشاركة مجموعة من المؤلفين، لتكون هي البلدة الوحيدة في تلك الفترة التي قطن فيها مجموعة من غير السُنة. يروي ابن طولون الصالحي أن سكانها من التيامنة، سكان وادي التيم بقضاء حاصبيا في لبنان، وقد عملوا بالزراعة منذ وفودهم إليها واستقرارهم فيها.
جرمانا مكان للعيش المشترك؟ لا. جرمانا مكان للدروز؟ لا. تجمع سكاني مديني؟ لا. أظنها حالة فريدة في سوريا إذا لم نحسب دمشق
لسنوات طويلة، بقيت جرمانا -كما جاراتها في ريف دمشق- تعمل في الزراعة وبعض الحرف البسيطة. في منتصف القرن العشرين، قُدّر عدد سكانها بحوالي خمس آلاف نسمة، بحسب نفس الكتاب، يقطنون بيوتًا تُشبه الطراز الدمشقي لكن أقل ترفًا، مصنوعة من الطين والخشب ومدهونة بالحوارة، وغيرها مما توفر في البيئة، وكانت البيوت تُسمى «الدار»، وتوجد في مركز القرية القديمة. من حولها توزعت البساتين حيث تعمل العائلات وتقضي الصيف، لتعود في الشتاء إلى دورها.
بينما كل هذا آخذ بالزوال، لم يبق من الدور إلا ما يُعدّ على أصابع اليد الواحدة، والبساتين تآكلت تمامًا على حساب كتل اسمنتية ضخمة مصمتة.
روى لي موفق دلول، أحد مؤلفي كتاب «جرمانا جارة الفيحاء»٬ أنه لعدة أسباب، كان العمار في جرمانا أكثر من باقي الريف لقربها من دمشق، فبدأ يقصدها بعد 1980 الكثير من الأشخاص المنتمين لبيئات وطوائف متعددة في سوريا، اختاروها للسكن والاستقرار، لوجود عدد كبير من الأراضي الزراعية والأشجار مما كان يجعل جوها جميلًا وهواءها نظيفًا، إلى جانب جوها الاجتماعي الذي يصفه دلول بـ«حياة سمحة هادئة بسيطة وطيبة».
هذا السبب هو ما دفع أيضًا في زمن لاحق كل من اللاجئين العراقيين والنازحين داخليًا من سوريا لاختيارها كمنطقة للسكن بسبب هذا الجو الاجتماعي المتحرر نوعًا ما، إضافة الى الفرص الاستثمارية والتجارية الموجودة فيها.
شكل الحارات القديمة للمدينة وبساتينها. المصدر: صفحة جرمانا الوثائقية
يروي دلول أيضًا أنه كان هناك مدعاة أساسية للفوضى العمرانية من بعد الثمانينيات والتسعينيات، حين انتشر الخوف بين الأهالي من استيلاء بعض مؤسسات الدولة على أراضيهم لإنشاء مدرسة أو حديقة أو غيرها مقابل تعويض غير منصف، وهو الخوف الذي نشره المستثمرون العقاريون، لذلك اتجهت الغالبية العظمى لإنشاء أبنية عشوائية دون ترخيص لتستفيد اقتصاديًا منها.
وبرأيه فإن المال يلخص المشكلة، فإغراء المال أعمى العديد من الأعين، خاصة مع قدوم اللاجئين العراقيين، فاستغل بعض المستثمرين والملاك الكبار في المدينة ذلك، وكان هناك عدد كبير من اللاجئين القادمين يمتلك مالًا كثيرًا مما رفع أسعار المنازل بطريقة جنونية أثرت على الفقراء والطبقة المتوسطة من العراقيين والسوريين.
كان الكثير منهم يعتبر المنطقة محطة للسفر، وبرأيه العديد من الملاك الكبار اعتبر المدينة سلعة، وأُعيد السيناريو ذاته بعد 2011، حين نزح عليها مئات الآلاف من كل مناطق سوريا، حينها استغل بعض المستثمرين هذه الأوضاع، موظفًا نكبات الآخرين على حساب مدينته ومكانه وأهله.
«ما بضل بالوادي إلا حجاره» برأي دلول لن يبقى بعدها في المدينة إلا حجار المدينة ويعني بهذا أهلها وأولادها.
بجولة طويلة بين أحياء المدينة المختلفة٬ مشيت في الشوارع التي أعرفها وتلك التي لا أعرفها. تحدثت مع قاطنين أصولهم من هنا، ومع وافدين من وقت طويل ووافدين جدد. عبر قصصهم وانطباعاتهم عنها٬ حاولت رصد ما هي هذه الأرض المشتركة التي تجمعهم٬ ما ملامحها كما يصفوها٬ وما إذا كانت هناك مساحة للانتماء لها.
أحدى العمارات في جرمانا. تصوير: رهام مرشد
أرض مشتركة
تدلني ريم على رصيف قريب وتتذكر يوم وصولها في 2012؛ «كنت بالبيجامة بعد تغريبة استمرت أيام هربًا من دير الزور بعد حصار دام شهر. وصلت هنا واستقبلني الأصدقاء وبكينا على هذا الرصيف» (تشير إلى الرصيف).
تحكي لي أنها اختارت القدوم لجرمانا بسبب وجود أختها وبناتها في المدينة، وتظن أن السبب الأساسي لاختيار الناس جرمانا هو أن واحد يدل غيره ليأتي، كما أن وجود عمارات فارغة ساعد أن تتسع المدينة لهذا الكمّ من الأشخاص. «بدايةً كنت أشعر بالنفور من المكان. الآن أصبح يعني لي أكثر. عملي هنا، أصدقائي هنا».
لا تشعر ريم بالانتماء بعد كل هذه السنوات، كان جوابها نفيٌ قاطع حين سألتها ولأسباب عدة كما روت.
أخبرتني عن حادثة جرت خلال عملها في المجلس المحلي للمدينة التي تراها مثالًا واضحًا لمَ لن تستطيع أن تشعر بالانتماء؛ «كنا نحكي أنا وصديقاتي عن ورقة ما كنت أعمل عليها لمراجع، وكان لديه سؤال حول عقار له في المدينة وأخبرته برأيي ونصحته بما يجب أن يقوم به وكيف. حين حكيت القصة أجابتني صديقتي باستغراب شديد: ‘ليه إنتي متلنا’ بما يعنيه هل يحق لك ما يحق لنا؟ لذا لا، لا أستطيع القول إنني أشعر بالانتماء إلى المكان، فدائمًا ما تواجهني مواقف تذكرني إنها ليست بلدك. بينما لدي إحساس المقيم، لكن أعرف أن هذه المحطة لن تنتهي، فلم يعد لدينا شيء في دير الزور. المدينة مُحيت تمامًا وأصبحت خرابًا».
كأن المكان مدينتان، وكأن الأشخاص الذين يقطنوها يعيشون بكونين متوازيين، أهلها يظنون أنها جرمانا المئتي ألف شخص، والقادم يراها مدينة الثلاثة ملايين شخص. الفارق شاسع بين أفكار كل مجموعة تقطنها، وكأن كل مجموعة لا تتشارك المكان ذاته مع غيرها من المجموعات..
ترى ريم أن الشيء الجميل هنا أنها تقبل الجميع؛ «تستطيع الذوبان فيها دون أن يلحظك أحد وتعيش حياتك بحرية نوعًا ما. لم يأتِ أحد إلى هنا ولم يعرف كيف يعيش. لكن يوجد فئة من الأهالي الأصليين يشعروننا أننا جينا من الهفا، وأن هذه حاراتهم ومكانهم. أنا أعرف التعامل مع سكان المدينة كوني من طبقة متوسطة وكنت أقطن في قلب مدينة دير الزور٬ لكن بعض القادمين من القرى تختلف حياتهم عن نمط حياة أهل المدينة هنا، لذا يواجهون صعوبات كثيرة في التعامل. ومع أن نسبة الدروز أصبحت قليلة مقارنة بعدد سكانها اليوم، لكن كل المفاتيح بيدهم، فصوتهم أعلى وامتيازاتهم أكبر، ودائمًا ما تُحسم أي مشكلة لشبابهم. ولا أعتقد أن هذا سيتغير في المستقبل. نحنا مكسور جناحنا. فينا نعيش هون طالما نحنا أوادم».
سبق ريم إلى المدينة آرام (اسم مستعار) منذ التسعينيات. وقد تعرض لبعض المواقف الشبيهة من سكانها الأوائل. التقيت بآرام في دمشق، وكان واضحًا من الاتصال بيننا قبل اللقاء أنه لا يفضل الجلوس في أي مكان بجرمانا. آرام ، كاتب ورئيس تحرير سابق لجريدة سورية،يقطن في المدينة منذ التسعينيات واختارها لعدة أسباب كما يروي وهو يدخن ضمن مكانه المعتاد بقهوة الروضة في شارع العابد؛ «اخترت السكن فيها لأنها منطقة جميلة وهادئة تقبل التنوع، وفيها حرية اجتماعية من النوع الذي تستطيع فيه أن تشرب العَرَق، أو تصلي في الشارع دون أن يتدخل أحد، وهذه الصفة قليلة في مناطق سوريا، كانت طيبة التعامل مع الغرباء».
يحكي كيف تغيّر التنوع ليستبدل بقبول سلبي للآخر مما أنتج «مدينة مشوهة»، كما وصفها، «الحمية اليوم التي تنزع نحو العداء في بعض الأحيان والشعور بالتهديد والإحساس الدائم بأنهم أولاد البلد الأصليين ونحن الغرباء. مرة كنت في شارع الخضر بسيارتي وأمامي رجل يمشي على مهل بمنتصف الطريق. انتظرت أن يحيد لكنه لم يفعل فزمرت بشكل خفيف، التفت ونهرني: هاد الشارع كان كرم جدي. بالنسبة له ما زال هذا الطريق له، ونحن الطارئ مَن يجب أن يزول».
أحد الشوارع الجديدة بشكل كامل في المدينة. تصوير: رهام مرشد
في مشغل صغير للخياطة ضمن أحياء المدينة العشوائية، أقابل إيمان القادمة من عربين، وهي تزور صديقتها. قدرت عمرها حوالي 35 عامًا. كانت شديدة الابتسام خلال حديثنا، وعندما تروي لي قصتها مع جرمانا أو بالأحرى حظرها الأول في المدينة؛ «خرجنا من عربين -مدينة في ريف دمشق- في 2012 بعد اشتداد القتال وقصدنا جرمانا لأن زوجي كان يعرفها من خلال عمله وأصدقائه. بقينا في منزل واحد مع أربع عائلات لثلاث سنوات، فلم يكن أحد يتوقع كيف ستكون الأحوال، ومتى سنرجع. أحدٌ منا لم يستطع تأمين تكاليف المعيشة لوحده».
تروي إيمان كيف لم تغادر المنزل خلال أول عامين قطنت فيهما بالمدينة، فقد كانت خائفة مما عاشوه خلال فترة القتال، وأيضًا كان لديها تخوف من قول بعض الناس في عربين أن أهل جرمانا لن يتقبلوهم خاصة وأنهم هم مَن بدأوا «بالشي».. تلتزم هنادي بالحياد، فلا تطلق أي مُسمى عن الحرب، وتهرب من تسميتها «ثورة» أو «أحداث» أو غيرها، بل تصفها «بالشي».
«أحب شارع الخضر، لأن فيه سوق حلو، وبشوف فيه كتير عالم» تقول إيمان واصفة أحد أقدم شوارع جرمانا. تضيف أنها ترى أن أهل جرمانا الأصليين يدٌ واحدة، وهذا برأيها يشكل هويتهم، ولا تشعر أن هذا يضايقها فهي تعيش في البيت ذاته منذ سنوات ولم يزعجها أحد «ليه بدي غيرو، خلص كبرنا هون ومبسوطين».
أما شيرين، فتحدثني عن المدينة بطريقة مغايرة لكل ما سمعته، وكأنها تحكي عن مكانٍ آخر. ذهبت لمقابلتها في مكان عملها ضمن مكتبة في المدينة. تنتمي شيرين لعائلة من عائلات جرمانا الأوائل، وعمرها ثلاثين عامًا. «روحي معلقة فيها، فيها كل شي، ذكرياتي وطفولتي وأهلي، وسعت الكل وبحسها حضن كبير». تشعر شيرين أن المدينة ظُلمت كثيرًا، وأن سكان المكان الأصليين عانوا وتحملوا.
تحكي كيف كانت تمطر المدينة قذائف خلال الحرب، ومع ذلك استقبل أهلها السكان الذين من نفس المناطق التي كانت تُطلق منها القذائف. ترى المدينة لم تتغير كثيرًا، خاصة الساحات الأساسية٬ وتظن أن الهوية الأساسية للمكان هي دينية، وتعتبرها المدينة التي يقطنها الدروز، وتقول إنها لا تستطيع لوم المتعصبين من أهل المدينة فبرأيها هم يشعرون بجرمانا مثل بيتهم وهناك مَن يقطن فيه لكنه سيذهب ولو بعد حين. «أنا بعتبر جرمانا إلنا، بحس هويتي لمّا أقول إني من جرمانا. أنا بحب البلد بعجقتها، وأكتر شي بحبه شارع الخضر، بحسو روح البلد، وما بتمنى هاجر منها وبفتخر إني من هون».
شارع الخضر بشكله الحالي. تصوير: رهام مرشد
ملامح مدينة
لم يلزمني كثيرٌ من التمهيد لفتح حديث مع مفيد كرباج، فقد كنّا جالسين بمكتبه الهندسي الذي يطل على ساحة مشهورة في المدينة اسمها ساحة «السيوف»، وبشكل خال من الابتكار٬ الساحة فيها سيوف كبيرة ومخيفة قليلًا. حديثي مع كرباج، المهندس المدني والناشط المجتمعي، بدأ من المنتصف فسؤالي عن رأيه بوضع المدينة أخذنا إلى الهوية والانتماء، وكان رأيه أن المكان بدون هوية اليوم، إنما يلزمه إعادة تعريف للهوية. في سرد متواصل وكأنه مونولوج داخلي يقول إن «جرمانا مكان للعيش المشترك؟ لا. جرمانا مكان للدروز؟ لا. تجمع سكاني مديني؟ لا. أظنها حالة فريدة في سوريا إذا لم نحسب دمشق».
يروي كرباج أن النزعة الطائفية التي نلمسها في جرمانا عند بعض السكان الأصليين بعد الحرب هي نتيجة استفزاز الهوية المعرضة للخطر. المكون الدرزي الذي هو مكون أهلي ومحلي وطائفي أصبح أقلية في مكانه، لذا برأيه تزيد النزعة الطائفية. ومع ذلك لا تظهر على المدينة أي سلوكيات عدائية كما أنها تسمح لأي شخص أن يمارس أفكاره وعمله بدون أن يُقال له «لا»، وهذه نقطة مهمة طالما ميزتها وجعلتها قابلة لأن تضم هذا الكم من التنوع.
يظن أن شكل المكان على وضعه الحالي هو نتيجة طبيعية للسياق التاريخي التي مشت به المدينة، فمن صنعها وبنى عماراتها هم أشخاص كان همهم بالغالب مصالح اقتصادية مما جعلها بهذه الفوضى العمرانية، كأن المكان مدينتان، وكأن الأشخاص الذين يقطنوها يعيشون بكونين متوازيين، أهلها يظنون أنها جرمانا المئتي ألف شخص، والقادم يراها مدينة الثلاثة ملايين شخص. الفارق شاسع بين أفكار كل مجموعة تقطنها، وكأن كل مجموعة لا تتشارك المكان ذاته مع غيرها من المجموعات.
يفرد كرباج الصور على مكتبه، ويحكي عن مشروعه الوثائقي الخاص بالمدينة الذي بدأ فيه منذ الثانوية، ويروي كيف تربطه علاقة بالمكان. يظن أن السنوات العشر الأخيرة عقّدت صورة المكان أكثر مما تعقّد بكل تاريخه، لأننا أمام عدة مكونات قبل 2011 أُضيف لها بعده مكون سياسي، وهو موقف جرمانا الحيادي مما حصل في سوريا، والذي لم تحسب به خط الرجعة بعد زوال الحرب وعودة العلاقات بين الأهالي في مناطق ريف دمشق.
يفسر كرباج شكل العمارة اليوم في المدينة كانعكاس واضح لعلاقات القوة والسلطة والطبقية في المكان، وحدوث خلل في عقدها الاجتماعي.
يشعر بالأسى حين يتكلم عن فئة من القاطنين هنا من الذين يتحاشون ذكر سكنهم في المدينة وكأنها وصمة تلاحقهم، وينتظرون فرصة للانتقال والعيش بدمشق. هم يعتبرونها محطة ومكان إقامة مؤقت، ولا يهتمون فعليًا بالمكان، وبوضعه، والتأثير فيه، أو المساعدة في تغييره.
أحد الأبنية غير المسكونة بشكل كامل في جرمانا. تصوير: رهام مرشد
أما آرام ، فيظن أن جرمانا اليوم تجمع بين كل مساوئ الريف، وكل مساوئ المدينة، تحافظ على العنجهيات الريفية، ولكن بشكل مزدحم وأبنية كثيرة وبشعة لا مكان فيها للمساحات العامة. «أظن أن جرمانا قبل 2003 كان لديها فرصة لتكون مدينة عظيمة، فكان يتشكل فيها هوية من الطيبة الريفية، ويقصدها طلاب الجامعات والموظفين أو التجار الذين لديهم انتماءات طائفية أقل عمقًا ويبحثون عن مكان أرخص قليلًا من دمشق. التغيير بدأ منذ وقت وفود العراقيين والأسعار بدأت تزداد والإيجارات أصبحت ترتفع كل ثلاثة أشهر. أنا أعرف المنطقة من اللبنة بس جيت عالبلد كانت لبنتها طيبة، اليوم لبنتها غالية ومو كويسة».
سألته أن يصف لي هوية المدينة فشبهها بـ«المحشر»، وأبنيتها ليست عمارة إنما سعي مستمر لكسب سنتيمتر واحد أكثر، حسب تعبيره، مكملًا: «أعيش في المنزل فيها وأسعى للانتقال. لم تكن بالنسبة لي محطة. فيما سبق قَدِمتُ وكنت أشعر بها كمدينتي. كان لدي أصدقاء كثر وكان فيها فضاء ثقافي ومساحة نستطيع اللقاء والنقاش والعيش. اليوم اختفت هذه المساحات».
يروي آرام كيف أثرت السلطة في جرمانا -كما كل سوريا- عن طريق تجاهل ما يحدث، فمجلس المدينة ومحافظة «ريف دمشق» لم يتحركا حين بدأت تتحول إلى ما هي عليه اليوم. كل هذا البناء العشوائي كان يمرّ عن طريق الرشى والواسطات وهذه النتيجة، «إنها ما يحصل اليوم في المدينة يشبه قصة المثل: كوسا محشي ما أكثر خلقك يا ربي».
تغيّرت جرمانا كثيرًا عليّ، وفي بحثي المستمر عن هويتها لم أجد مَن يعزيني٬ إنما وجدت آراءً متناقضة، وشعرت بها كأنها مدن داخل مدن، وبلدوزر يخرج كل يوم على أراضيها ليعيث فيها عمارات جديدة، ويمحي الذكريات..
ذهبت لمقابلة فارس(اسم مستعار)، بعد أن سمعت أنه عاد للاستقرار في جرمانا بعد خمس سنوات خارج البلاد قضاها بمدن أوروبية. وفي الوقت الذي يسافر فيه غالبية الشباب، اختار العودة والاستقرار في جرمانا وفتح عمل خاص بعد مغادرتها في 2016 ثم عودته منذ سنة ونصف.
التقينا في مقهى قريب من مكان عمله، وكان الجو باردًا، لكنه اختار الجلوس في الخارج. لم يكن مرتاحًا لفكرة الأراكيل [الشيشة] والتدخين في الداخل٬ الظاهرة التي انتشرت خلال السنوات العشر السابقة في المدينة بشكل طارئ عليها وغير معتاد. على نقيض ما توقعت، حدثني كيف لا تعنيه المدينة فعليًا، وأن عودته بسبب أهله، وأنه اكتفى من العمل في الخارج.
يحكي فارس عن المدينة وقد عايش جزءًا كبيرًا من تغيراتها؛ «بيت جدي قريب من شارع الخضر حيث المجلس (وهو دار عبادة يقصده المصلون الدروز) كنت أعمل في الصيف بعمر صغير ضمن محل بنفس الشارع، وكان هذا الطريق هو مركز القرية وأقدم شارع فيها، وهذا المكان يمثل للكثير من الدروز هنا تواجدًا دينيًا بسبب قدمه وتاريخه، لكنه اليوم لا يعنيني. أهتم بالتوثيق لكي لا يضيع التاريخ ليس أكثر».
يشرح لي عن فترة شبابه وكيف كان أهله يعاملوه بحرية فكرية واجتماعية، ويرجع السبب في ذلك لأنه ذكر، فلم تلقَ النساء من حوله المعاملة ذاتها. كما يظن أن تلك الفترة هي كانت فرصة جرمانا الذهبية للتحول إلى مدينة دون أن تخسر طابعها وميّزاتها كما حصل اليوم، ففي فترتي التسعينيات والألفينيات، كان مَن يختار السكن فيها هم طلاب الجامعات وبعض الأسر من المحافظات لأنها مكان متحرر لا يقيد مَن يسكنه بانتماءات صغرى. كما أنه أقل تكلفة من دمشق.
كل ذلك تغيّر في 2003. فقد وفد للمدينة عدد كبير من اللاجئين العراقيين، تقريبًا يناظر عدد سكانها، ومن هنا حصل التغير الاقتصادي الأكبر، فقد امتدت موجة العمار لتلبي احتياجات وجود عدد أكبر من العائلات وبدأت الأسعار في الارتفاع، مع استغلال السماسرة وتجار العقارات، وبعض الأثرياء من العراقيين للموقف، بحسب فارس الذي يحدد التغيّر الثاني في موجة النزوح الداخلي السوري التي بدأت في 2011، واستمرت لليوم فأصبح الرقم المتداول اليوم لسكان المدينة حوالي ثلاثة ملايين شخص. ومع كل هذه التغييرات السلطة لم تتصرف حيال الخدمات، بل بقيت الخدمات وكأن البلاد يقطنها 200 ألف شخص.
وصف لي فارس هوية المدينة بأنها «هوية مغلقة» رغم كل الانفتاح الذي نراه بسبب تنوع الفئات التي تقطنها، لكن التنوع قائم على المصلحة. يراها مدينة اعتمدت على أزمات الآخرين واتخذت الحياد في كل مشكلة، المتعهدين والمستفيدين قتلوا الجمال فيها وبقيت أسمنت أصم يحجبنا عن بعضنا. «المدينة المشوهة، اللا فاضلة هكذا أراها اليوم».
تصوير: رهام مرشد
انتماء
«أحبُ جرمانا» يقول مفيد كرباج، «قبل التسعينات لم تكن الأسئلة معقدة، والعلاقات لم تحتَج لكثير من العناصر. كنت أنا ابن المكان وهذا مجتمعي. مكونات هويتي أوضح. اليوم أصبحت الأسئلة أعقد: لماذا توسعت المدينة بهذا الشكل؟ لماذا نرفض المختلف عنا، لكننا قادرين على تشييد ألف بناية وبيعها للآخر؟ أصبحت أعرف أنها ليست مكان يضم مجموعة متجانسة إنما تضم أشخاصًا متنافرين تجمعهم مصالحهم» ويضيف، “ليس لدينا مصالح مشتركة بل مخاوف مشتركة تجمعنا تحت قيادة دينية وليست مدنية».
يتمنى كرباج أن يروي لبناته، في يوم من الأيام، عن الطيبة التي كانت موجودة وشبَّ عليها: «سأحكي لهن عن بعض المآثر الاجتماعية التي رسخت لديَّ، لن أقول لهن في يوم من الأيام أننا كنا مختلفين عن غيرنا، بل سأروي كيف عشنا مع غيرنا»
أما ريم٬ فتشعر بارتباط كبير بالنهر، كما كل أهل الدير، وكأنه جزء من تكوينهم وهويتهم. لكنها ترى جرمانا اليوم دون هوية، وربما فقدتها لتصبح طفرة عمرانية. تحكي لي عن شارعي الجناين والروضة اللذين «أكلا من رجليها شقفة [شريحة]»، وتشعر بارتباك حين أسألها عن مشاعرها تجاه المدينة «هي المدينة لميت حالة، فيها أوقات بكرهها بس يحسسوني أني غريبة، وبرجع بحبها. هي منحتني الأمان بفترات كنت كتير بحاجتو». وتضيف: «اليوم لم يعد قراري وحدي في العودة فمنذ وقت قصير كانت تتحدث مع ابنها وقالت له شو رأيك نرجع ع الدير، هناك بيوتنا وشوارعنا وقبرونا؟ قال لي ‘هناك بيوتك وشوارعك وقبروك أنا هون مبسوط’. ابني الذي ربّي هنا سعيد في المكان، وغالبًا ما أسمعه يتكلم مع أصدقائه بلهجة المدينة، أظن أنها مدينته أكثر منها لي»
إيمان تحكي لي كيف بدأت بالتعود على المنطقة، والخروج من المنزل وبدأوا بالاستقرار هي وطفليها وزوجها في بيت مستقل. حين أسألها عن رغبتها في العودة اليوم إلى بلدتها بعد أن هدأت الأوضاع تقول إنها لا ترغب في ذلك، فهي تشعر أنها كبرت هنا وأطفالها كذلك. كانت تحدثني عن حزنها على وضع جرمانا اليوم، فهي سكنت فيها قبل عشر سنوات ولم تكن بهذا الوضع السيء، فاليوم الكهرباء لا تأتي إلا ساعات قليلة في اليوم، الأوساخ تملأ الطرقات والشوارع، وأصبح كل شيء لونه بني؛ «أشعر بالأسى اتجاهها وأحزن حين يقول مَن يزورني أنها كانت أفضل». حين سألتها هل تشعر بالانتماء لأي من المدينتين، عربين أم جرمانا، قالت: «لا، في كل منهما عانيت. أشعر أن الارتباط بداية يكون بالوضع المريح والخدمات الجيدة، ولم نجد ذلك في أي منطقة بسوريا»
تغيّرت جرمانا كثيرًا عليّ، وفي بحثي المستمر عن هويتها لم أجد مَن يعزيني٬ إنما وجدت آراءً متناقضة، وشعرت بها كأنها مدن داخل مدن، وبلدوزر يخرج كل يوم على أراضيها ليعيث فيها عمارات جديدة، ويمحي الذكريات، ويستبدلها بمساكن صغيرة وكثيرة تضمُ بشرًا لا يعرفون بعضهم، كما سوريا لكن بشكل أصغر.
تم إنتاج هذه القصة عبر أكاديمية الصحافة البديلة وتنشر بالتعاون مع موقع “مدى مصر“