“وعاش آدم مئة وثلاثين سنة، وولد ولداً على مثاله كصورته وسمّاه شيتاً. وعاش آدم بعدما ولد شيتاً، ثماني مئة سنة فولد بنين وبنات…. وعاش شيتٌ مئة وخمسِ سنين وولد أنوش… وعاش أنوش تسعين سنة…”.
بهذه “التلاوات المسطّحة” كما تسمّيها الناقدة الأميركية إلين سكاري في وصفها للسير التي يقدّمها الكتاب المقدّس، يمكن أن تُتلى أيضاً سيرة جان كالمون، المعمّرة الفرنسية التي عاشت مئة واثنين وعشرين سنة، ومئة وأربعة وستين يوماً. فالعهد القديم يتعامل مع هذه الشخصيات بهويّاتها العمريّة، ولو أنه يوغل في تفاصيل الحكايات والمغامرات الشخصيّة لبعضهم لاحقاً. الأمر أكثر من مجرّد سؤال عن كيفيّة كتابة سيرة أحدهم، خصوصاً حين يصير العمر كتلة هويّاتية صلبة في حالة المعمّرين تحديداً ممّن تؤول حيواتهم في النهاية إلى سنوات مكدّسة.
صيغت حياة كالمون وكُتبت مراراً، بين تاريخين: 21 فبراير سنة 1875 وحتى العاشرة صباحاً من يوم 4 أغسطس 1997. لن تقول السيرة أكثر من ذلك، ستتكتّم عن الأمراض التي أصابتها، وتذهب بعض تمثيلاتها البصريّة أبعد من ذلك فتظهر وجهها الضاحك مع سيجارة بيدها وكأس من النبيذ الأحمر. وحده الباحث الفرنسي فرانسوا شامبينيول يجازف باقتراح عمر آخر للمرأة، ويحاول أن يُثبت في ورقته البحثية أن كالمون ماتت سنة 1937، وتمّ تسجيل وفاة ابنتها بدلاً منها (للتهرّب من الضرائب)، فيما انتحلت ابنتها اسمها وشخصيّتها وعاشت حياتها حتى سنة 1997.
هذه خدعة محتملة، تشترك فيها قصّة كالمون مع سكّان قرية فيلكابامبا في الإكوادور، المنطقة التي باتت تعرف بوادي الشباب. قبل سنوات أرسل “المعهد الأميركي لعلم الشيخوخة” باحثين إلى القرية للتبيّن من حقيقة الأعمار الطويلة للسكان.
جاءت النتيجة مخيّبة عندما توصّل الأطباء إلى أن العمر الطويل، هو سنوات متراكمة لعدةّ أشخاص، حيث يحمل المسنّون هناك أسماء آبائهم، وقد تمّ احتساب أعمارهم وأعمار آبائهم معاً. تجاهلت النتائج السرديّة المحليّة للسكان أنفسهم، وحسم المعهد الأميركي الأمر.. لن يبلغ أحد عمراً طويلاً من دون عكّازات التدخّلات الطبية.
منذ أن نشر الطبيب الأميركي روبرت هافيغهيرست مقالته “التشيُّخ الناجح” (سنة 1961)، بات الاهتمام بزيادة عمر الإنسان عمليّة متكاملة تأخذ بالحسبان الرضى والسعادة والقدرة الجسديّة. طرح هافيغهيرست نظريتين متناقضتين.. تقترح نظريّة النشاط أن يحافظ الفرد المسن على أنشطة وسلوكيات منتصف العمر، فيما انصرفت النظريّة الثانية إلى الانفصال، والتي تفضي إلى ابتعاد المسنّين عن الحياة العمليّة لدى بلوغهم سن الكبر والتماهي مع أجسادهم وقدراتها. خرجت نظريات كثيرة بعدها لبلوغ “تشيّخ ناجح”، وظلّت تدور حول هاتين النظريتين بأبعادهما النفسية والعقلية والفيزيولوجية وحتى الاجتماعيّة لعملية التقدّم في السن، ومعهما التجربة الفرديّة للشخص واستعداداته. التحق هافيغهيرست في وقت مبكر بموكب البحث عن مصائر بديلة للجسد المسنّ، الذي، لا يزال، فضلاً عن علله وهواجسه الخاصّة، محاصراً من قبل مؤسسات الصحّة ومدارس الطبّ وأنظمة الصحّة والضمان.
ردم ينبوع الشباب
تتكرّر صفة “العشوائية” لتوصيف السيرورة التي تدمّر الجسد في الخفاء مع التقدّم في السن، غير أنها تغيب عن الرسالة التي بعثها الوزير بتاح حتب، إلى الملك جد كا رع (الأسرة المصريّة الخامسة) طالباً منه أن يؤذن له بالتقاعد. يصف الوزير وصفاً دقيقاً العوارض النفسية والجسدية التي تصيب المسنّ..
“لقد حلّت الشيخوخة، وبدأ خرفها، وامتلأت الأعضاء ألماً.. وأصبح الفم صامتاً لا يتكلّم، وغارت العينان، وصمّت الأذنان.. وأضحى القلب كثير النسيان، غير قادر على تذكّر أمسه. العظام تتألّم من تقدّم السن، والأنف كُتم فلا يتنفّس، وأصبح القيام والقعود كلاهما مؤلماً، والطيّب أصبح خبيثاً، وكل ذوق قد ولّى. يجعل تقدّم السن حال المرء سيّئاً في كلّ شيء”.
يتلازم المرض مع التقدّم في السن، وفي أحسن الأحوال يتمّ توصيف طول العمر كجحر لبعض الأمراض مثل الخرف، والأمراض السرطانية، واعتلالات القلب. بالعودة إلى النصوص الطبيّة القديمة، رأى الطبيب الإغريقي غالينوس في القرن الثاني، العمر الطويل على أنه يرزح ما بين المرض والصحّة، إنه ليس مرضاً مباشراً، إلا أن الوظائف الفيزيولوجية لكبار السن تتقلّص تدريجيّاً.
بعد سنوات طويلة من الحديث عن سبل جديّة لمكافحة الشيخوخة، بيّنت دراسة “لا صحّة لينبوع الشباب” (2002) إخفاقات الطب على الملأ. الورقة (لمجموعة من الباحثين الأميركيين)، نفت توصّل الإنسان إلى نتائج حاسمة بشأن مكافحة الشيخوخة وأطاحت بأي احتمال بالوصول إلى ينبوع للشباب، مؤكّدة أنه “ليس هناك أي تدخّل أثبت قدرته على إبطاء أو إحباط شيخوخة البشر”.
لقد حلّت الشيخوخة، وبدأ خرفها، وامتلأت الأعضاء ألماً.. وأصبح الفم صامتاً لا يتكلّم، وغارت العينان، وصمّت الأذنان.. وأضحى القلب كثير النسيان، غير قادر على تذكّر أمسه. العظام تتألّم من تقدّم السن، والأنف كُتم فلا يتنفّس، وأصبح القيام والقعود كلاهما مؤلماً، والطيّب أصبح خبيثاً، وكل ذوق قد ولّى. يجعل تقدّم السن حال المرء سيّئاً في كلّ شيء
علّلت الورقة (حملت توقيع 51 طبيباً وباحثاً) ذلك بأن التقدّم في السن ليس عمليّة مبرمجة جينياً، ولا تحدث وفق برنامج صارم ومحدّد مسبقاً. وبنشرها، انتقدت تحوّل الطب إلى سوق مربحة تستغلّ قلق الناس من الكبر والموت، في اتهام واضح لـ “لأكاديمية الأميركية لطب مكافحة الشيخوخة” (تأسّست سنة 1992) التي سوّقت لتدخّلات كثيرة على أنها وصفات سحريّة لإخفاء العمر، منها الممارسات التجميلية، والهورمونات البديلة، والفيتامينات، والعلاجات الطبيعية مثل اتباع نظام غذائي صحي ورياضي منذ فترة مبكرة.
اختصر هذا المقال الخلافات بين تيارين في هذا المجال، علم الشيخوخة (Gerontology)، وطب مكافحة الشيخوخة (Anti-Aging Medicine)، الذي يُتوقع أن يحقّق أرباحاً تبلغ حوالي 271 مليار دولار في عام 2024، من ضمنها عمليات التجميل بالطبع، كما نقلت مجّلة فوربس قبل عامين. هذه حال كل اكتشاف يعد ببلوغ شيخوخة صحية، سيترافق غالباً مع نقاشات وأصداء متناقضة، خصوصاً من قبل مجال علم الشيخوخة الاجتماعي، برصده ثغرات عرقيّة وطبقية وجندريّة في الأطر النظريّة التي تتبعها تلك الاكتشافات التي تستثني عوامل مثل الفقر الذي يحرم مجموعات كاملة من الوصول إلى العلاجات.
نبذ الأجساد الضعيفة والمتمرّدة
يستبعد الناس دائماً تقدّمهم في السن، مثلما تلاحظ سيمون دو بوفوار في كتابها “البلوغ” Coming of Age (1970). يتحصّنون بقناعة أن الكبر حين يأتي فإنه حتماً سيصيب آخرين غيرنا. ولعلّ هذا الإنكار هو الشرارة النفسية الأولى التي تولّد الرغبة في البحث عن شيخوخة ناجحة، أو أنها قد تقود أجساماً أخرى إلى الاستسلام للتغيّرات القهرية. سواء كانت لعبارة “التشيّخ الناجح” القدرة على تحفيز بعض الأجسام للمواظبة على الرياضة أو اتباع نظام صحّي منذ وقت مبكر، فذلك لا يبدّد سطوة هاتين الكلمتين. ماذا لو أخفقت بعض الأجسام في الحفاظ على استقلاليّتها في الكبر؟ أي تشيُّخ يعيشه من يعاني من التبوّل اللاإرادي أو من يحتاج إلى يد أخرى من أجل الاستحمام، أو من يخفق في رفع الملعقة إلى فمه؟ تنبت دعوات الشيخوخة الناجحة وتتغذّى كفطريّات على أجسام الكهول المعتلّة.
تكتب دو بوفوار عن التقدّم في السن كعمليّة خارجية، وهذا ما يمّيزها عن المرض أو الأوجاع التي يعانيها المصاب بمفرده. مهما بدت العلاقة مع التقدّم بالسن مبهمة بالنسبة إلى الشخص نفسه وعصيّة على التصديق، فلن تحمل أي التباس بالنسبة للآخرين بفضل العلامات التي تظهر على الهيكل الخارجي. الكبر هو تجربة مرئيّة، ولن يفلت الرائي دائماً من مساءلة مصيره الشخصي. فلنتخيّل الحفر والنتوءات التي تغور في الجسد بعد عمر طويل، إفرازاته السائبة، موته وحياته اليوميين. لا تقلّ هذه الصدمة عن صدمة رؤية الجثّة.
يستبعد الناس دائماً تقدّمهم في السن. يتحصّنون بقناعة أن الكبر حين يأتي فإنه حتماً سيصيب آخرين غيرنا. ولعلّ هذا الإنكار هو الشرارة النفسية الأولى التي تولّد الرغبة في البحث عن شيخوخة ناجحة، أو أنها قد تقود أجساماً أخرى إلى الاستسلام للتغيّرات القهرية
تلك لحظة حادّة تصفها المفكّرة البلغاريّة الفرنسية جوليا كريستيفا بأنها تجسّد حرفياً مفهوم “انهيار التمييز بين الذات والموضوع الذي يعدّ حاسماً لتأسيس الهوية ودخولنا إلى النظام الرمزي… ما نواجهه عندما نمر بصدمة رؤية جثة بشرية (خاصة جثة صديق أو فرد من العائلة) هو حتفنا الذي أصبح حقيقة ملموسة”.
عثرتُ في نص “قوى الرعب” (1981) لكريستيفا على إجابة لحالة جسدي الذي ظلّ يهوي ويُصاب ويتعثّر خلال الطفولة. ورثتُ تلك الندوب ولم أكتسبها بنفسي. أعرف الآن أنها كانت سليلة نظرة واحدة التقطتها كعدوى ما إن وقعت عيني على ظهر جدّتي وحفره الداكنة حين مددت رأسي من نافذة غرفتها لأتفرّج على أيّامها الأخيرة. لم أتجاوز تلك النظرة، لأنني ربما لم أستطع العثور على الحدود بين جسدينا. وفاتني أنني حين رأيت جدّتي وقد استسلمَتْ للفراش لم أستطع أن أقربها مرّة أخرى. ربّما كانت محاولة لحماية جسدي. وبقدر ما تفاديت الاقتراب منها، مسّتني عللها كصورة هستيرية أراها تتربّص بكلّ جسم.
من خلال صدمة رؤية الجثّة، تشرّح كريستيفا معنى الشعور بالدناءة أو الحقارة على إنها ما “يعبث بالهويّة، وبالنظام، والسلطة، إنها ما لا يحترم الحدود، والوضعيّات، والقواعد”. سيخرج شعورنا بالاشمئزاز لدى رؤية جثّة متفسّخة أو جرح أو أي إفراز مقرف، وسيكون هذا الشعور حماية ذاتية ضد ما يهدّد هويّتنا نتيجة انهيار هذه الحدود بين الذات والآخر. وقد تتطوّر هذه الحماية في الحالة العامة إلى نبذ أجساد الجماعات الضعيفة والمتمرّدة كالمثليين والفقراء والنساء، والمسنين الذين يثقلون كاهل الأنظمة الصحية في العالم.
قصة الهرمونات المضادة للشيخوخة
لدى هنود النامبيكوارا (السكان الأصليين في الأمازون) كلمة واحدة تعني يافع وجميل، تقابلها كلمة واحدة تعني كهل وقبيح. تتقاذف التمثيلات اللغوية والبصريّة هذه التصوّرات البائسة عن المسنين وحيواتهم الجنسيّة، وتظهر كدافع أساسي للاكتشافات الطبية وعلاجاتها المتعلّقة بالتدخّلات الهورمونية بشكل أساسي منها هورمون النمو البشري، والهورمونات البديلة مثل التيستوستيرون للرجال والأستروجين للنساء، ووعودها بالصبا الأبدي للجسد.
تمّ اكتشاف هورمون النمو في الغدّة النخامية سنة 1921، لكن نتائجه لم تظهر إلا مطلع التسعينيات، آنذاك احتفت الصحف العالمية بدراسة الطبيب الأميركي دانيال رودمان وفريقه التي استندت إلى تجربة عيادية أُجريت على 21 رجلاً يتمتعون بصحة جيّدة وتتراوح أعمارهم بين 61 و81 عاماً. احتفال ترافق مع نظرة إعجاب بالرجال الذين خرجوا (بعد ستة أشهر من الحقن بنسخة معدلة وراثياً من هرمون النمو البشري الطبيعي) بأجسام تصغر أعمارهم البيولوجية بحوالي عشرين عاماً، خصوصاً لناحية اكتسابهم عضلاً وخسارة الوزن.
بعدما سوّقت الصحف العالمية الخبر على أنه الحل للشيخوخة، اضطرّ رودمان نفسه للتأكيد على أنه لا يمكن اعتبار الاكتشاف ينبوعاً للشباب. أما الهورمونات البديلة (التستوستيرون والأستروجين تحديداً) فقد غيّرت النظرة إلى الحياة الجنسية لكبار السن منذ خمسينيات وستينيات القرن الماضي رغم الجدل الذي ما زالت تثيره. حين نشر الطبيب النسائي روبرت أ. ويلسون، كتابه “أنثوية للأبد”، تفاوتت ردود الفعل النسويّة حينها. الكتاب الذي حقّق مبيعات قياسية لدى صدوره منتصف الستينيات اعتبر أن انقطاع الطمث يسلب النساء أنوثتهن، مروّجاً بذلك لهورمون الأستروجين.
يعطى الأستروجين البديل كمراهم ولاصقات جلدية وحقن، وهو هورمون الجنس الرئيسي لدى النساء يفرزه المبيض وبعض الغدد الأخرى، ويقل إفرازه مع التقدّم في السن تدريجياً إلى أن يجفّ نهائياً بالتزامن مع انقطاع الطمث. يتيح الهورمون البديل فرصة للنساء بتبديده مخاوف جسديّة كثيرة لديهن، خصوصاً تلك التي تتعلق بالحفاظ على الصفات الأنثوية التي يمنحها للمرأة كالجلد الناعم والصدر والرغبة الجنسية ويقلل نسب الاكتئاب والقلق والهبّات الساخنة التي ترافق “سن اليأس”.
لكن سرعان ما تجاوز هذا النقاش أحلام النساء الفرديّة وأجسادهن المشتهاة ليقبع في الفضاء العام أخيراً، وعلت ردود الفعل المختلفة من قبل النسويات اتجاه أفكار “أنثويّة للأبد”، إذ اعترض بعضهن على الطرح الطبي الذي وصّف فترة انقطاع الطمث بالمرض، فيما احتفت أصوات أخرى بالاكتشاف الذي هبط كمعجزة لتبديد قلق النساء.
مخاطر الهورمونات البديلة
يستحيل العثور على حقائق متفق عليها بشأن فعاليّة هذه الهورمونات، وقد تصل إلى التناقض الحاد أحياناً كلّما توسّعنا في المصادر. بحسب الطبيبة اللبنانية المتخصّصة في طب مكافحة الشيخوخة شيرين باظان، ترافق هذه الحيرة الطب المضادّ للكبر بأكمله بوصفه مجالاً طبيّاً جديداً وإشكاليّاً. بعد تجربة طويلة من العمل العيادي والبحثي أسرّت أنها لم تستطع أن تحسم رأيها تماماً في موضوع هورمونات النمو مثلاً، التي تستخدم لتحسين وظائف العضلات وصقل الطاقة، يمكنها أيضاً تغذية الخلايا السرطانية إذا كان الشخص يملك استعداداً وراثياً للإصابة بالسرطان.
تفضّل باظان في عيادتها في بيروت، اعتماد رحلة طويلة الأمد مع الزائرين، منها النظام الغذائي، الذي يشمل العمل على التوازن بين الجسد والفكر والروح من دون الفصل بينهم.
أما نوعية الفئات التي ترتاد عيادتها من اللبنانيين الذين يهدّد النظام الصحي في البلاد كبرهم (بافتقاره لضمان الشيخوخة)، فمعظمها من الشابات في الثلاثينيات من أعمارهن وبعضهن من اللواتي لم ينجبن حتى الآن من أجل الحفاظ على المبيض. كذلك يقصدها الرجال في الأربعينيات من أعمارهم غالباً. أما الأكبر سنّاً فلا تزال أعدادهم قليلة، لأسباب كثيرة منها القناعات الثقافية والاجتماعيّة وتعاطي الكبار مع عمرهم كتبدّل طبيعي، باستثناء من يسافرون ويزورون عيادات أوروبية وأميركية، كما تخبرنا باظان.
قد تساعدنا بعض أرقام الشيخوخة، عربيًا، في فهم وضع هذه العلاجات ومسارها هنا. فوفق إحصاءات أجرتها “الإسكوا” عن الأنظمة الصحية في المنطقة، توصّلت إلى أن أنظمة الضمان الاجتماعي تغطّي أقل من 25% من السكّان، فيما يعتمد معظم المسنين على المدخرات، والدعم العائلي، والدعم غير الرسمي مثل الجمعيات والمؤسسات الخيرية. ورجّحت الإحصائية أن تكون النساء المسنات أكثر تضرّراً من تغطيات الضمان، خصوصاً بسبب أنظمة العمل، وعدم إثباتهن في وظائفهن.
تغطي أنظمة الضمان الاجتماعي أقل من 25% من السكّان، فيما يعتمد معظم المسنين على المدخرات، والدعم العائلي، والدعم غير الرسمي مثل الجمعيات والمؤسسات الخيرية
بالنظر إلى هذه النتائج، يصبح السؤال عن اتباع الناس في هذه البقعة من العالم لعلاجات مضادّة للشيخوخة عبثيّاً. في كلّ الحالات يتجاوز العلاج الظروف المعيشيّة ويطال الهواجس الفردية والمخاطر الصحية أيضاً.
يصف الطبيب النسائي الأردني أحمد عبد الحقّ العلاجات الهورمونية بالتعقيد أيضاً، بسبب تبعاتها الصحيّة. يخبرنا أن الأوسترجين البديل قد يتسبب بسرطان الرحم إذا أعطي وحده، لذلك يُعطى معه هورمون البروجسترون الأنثوي، لكنهما معًا قد يؤدّيان إلى الإصابة بسرطان الثدي.ورغم أن ثمّة خلاف أيضاً على العمر المثالي للبدء بتناول هذه الهورمونات، يؤكد عبد الحق خطورة أخذ الهرمون البديل قبل انقطاع الطمث، ويفضّل التعامل مع كلّ حالة بشكل فردي، حيث يتدخل التاريخ المرضي للعائلة وللمرأة ووزنها واستعداداتها الوراثية وصحتها الحالية في قرار أخذ الهرمون.
يتربّص سرطان البروستات أيضاً بالرجال الذين يلجؤون إلى علاجات هورمونات التيستوسترون البديلة من أجل الحفاظ على حياة جنسية مكتملة. غير أن هناك ما يفرّق بين الجسدين الأنثوي والذكوري، هو أن الأستروجين يقلّ بنسبة أكبر لدى النساء بالمقارنة مع تقلّص نسبة التستوسترون لدى الرجال المتقدمين في السن. مع هذا لن ينجو أي جسد من العواقب ومن التهديد بالموت المفاجئ وبالسرطان والأمراض القلبية، ولو أن مخاطر الإصابة بالسرطان تهدّد أي كائن لأسباب مختلفة وعبثيّة أحياناً.
تبديد الذاكرة سهوًَا وعمدًا
“قمت من السرير، ونظرت إلى المرآة، رأيت وجهي مترهّلاً”. قالت لي علياء، بائعة الورد، وهي تبرّر لي تردّدها في التقاط صورة لنا معاً قبل أن أنتقل من الحيّ؛ لا مفرّ من لحظة الانفصال تلك. “أنظر إلى وجهي/ هل كان هكذا منذ البارحة/ لا اعرف من تركه لي/ على المرآة/ ما الذي أبقاه حياً/ حتى ذلك الحين/ أم أنّه فقط آخر ينظر إلي”. يصل هذا الانفصال عند الشاعر اللبناني عباس بيضون إلى لحظة لا يعود فيها الوجه الشخصي مقشوعًا. يراه صاحبه لكنه ينفض يديه منه ويتركه معلّقاً على المرآة.
تبقى هذه الحالات محصورة بالوجه، أو بالتبدّل الخارجي، وما إن تتعمّق أكثر ستنكأ أياماً وسنوات وحياة بكاملها. هكذا ربّما تنشأ حكايات الكبار، من تفسّخ حادّ بين وجهين وجسدين وسيرتين، يخسرون الكثير من قدرة أعضائهم وخلاياهم، إلا أن ألسنتهم تستمرّ في الحركة ربما كمحاولة شفهيّة لبناء حياة متخيّلة لم يستطع المتكلّم عيشها. سيرثي الكهلة مجايليهم بحسرة، وهم يحدّقون بمصيرهم هم، سيرثون حينئذ أنفسهم بطريقة أو بأخرى. وحين يقلّ عدد الشهود من حياة كبار السن، سيتاح لهم عندها سرد الأحداث براحة. هنا، تفلت الذاكرة الفردية من سطوة الذاكرة الجماعيّة، فتتحقق الذات شفهياً ولو في وقت متأخر.
داومت قريبتي التسعينية أم ياسر (اسم مستعار) على القيام بهذا الخداع، لدى استعادتها للرجلين اللذين تزوّجتهما. تستطرد، وراحت على سبيل المبالغة تبتر سير الزوجين الميّتين و”تفلش” حياتها وسماتها وميزاتها أمامنا كما لو أنها بطلة أسطوريّة. كان الأمر أشبه بمحو سيرة وبناء أخرى. رغم كلّ الإهانات التي تلقّتها في زواجها الأوّل، لم تكن تعترف بذلك مباشرة. تفضّل، بدلاً من ذلك أن تخبرنا كيف واجهت العائلة كلّها من أجل نيل طلاقها. لاحظنا أن القصص صارت تفتقر إلى المصداقية يوماً بعد يوم، وأنّها هي نفسها باتت تنسى حكاية اليوم الفائت، فتعود وتخبرنا قصّة أخرى تختلف عن سابقتها.
على هذا الاختلاق والتلاعب بالأحداث نفسه شيّدت أم ياسر حياتها الجديدة، كمحاولة لطرد القصص التي كان يتناقلها الأقرباء، خصوصاً في استعادتهم للسنة التي أمضتها في سجن النساء، بتهمة الاحتيال. كانت تحاول أن ترسم صورتها قبل الغياب، ووجدت نفسها، مرّة أخرى، تلجأ إلى الاحتيال نفسه لتبديل مسار الأحداث أخرى. أي طبيب بالطبع سيصنّف حالتها على أنها خرفاً، غير أنني إذا أردت أن أتذكّرها اليوم، أستعيد ذكرى واحدة فقط. حين ماتت المغنية اللبنانية صباح قبل سنوات، جلست طوال النهار أمام الشاشة للتفرّج على الجنازة. رقصت مع الذين أوصتهم صباح بأن يرقصوا في دفنها، وصلّت لها كي ترقد بسلام.
شيخوخة الضحك ورهاب التحول إلى نكتة
ثمة مخارج مؤقّتة من الشيخوخة الجسديّة، والتي قد تعادل رمزيّاً الهورمونات المضادّة للتقدّم في السن وتأثيرها الخارجي والداخلي. إذا كان لا بدّ من اعتبارها خدعاً، فلتكن كذلك. طيران لحظوي من الجسد. فنّد الجاحظ وظائف الضحك إلى ثلاث؛ بالإضافة إلى الوظيفتين المنطقية والأخلاقية، هناك الوظيفة الشبقيّة بإراحتها للجسم وإصلاحها الميل إلى البكاء الذي ربّما يعمي البصر. تستنج بعض الدراسات أن كبار السن يظهرون ميلاً إلى الضحك أكثر من الشبّان، لكن الأمر يخرج عن السيطرة حين يخسرون القدرة عليه.
يضم بحث Humor and Aging نتائج عدد من الدراسات التي أجريت حول موضوع الفكاهة والشيخوخة حول العالم. توصّلت إحداها، المتعلّقة بعدد القهقهات في النهار بالنسبة إلى العمر والجندر، إلى أن عدد الضحكات ينخفض لدى المسنين في المساء بنسبة لافتة. وهذا ما يبرّر أيضاً، ما توصّلت إليه الدراسة التي أجريت على 80 شخصاً من كلّ الأعمار، إلى أن الخلود إلى النوم باكراً، لا تبرّره إلا رغبة الكبار بالهرب من الوحدة. واحدة من الدراسات أخضعت مسنين وشباناً إلى اختبار يتمثّل بإكمال بعض النكات، فبانت قدرة المسنين المتواضعة والمنخفضة على تعبئة الفراغات بالكلمات المناسبة، رُبطت النتائج بانخفاض القدرة على إنتاج الفكاهة والنكات لأسباب عديدة منها مشاكل الذاكرة والخمول السلوكي.
ثمة مخارج مؤقّتة من الشيخوخة الجسديّة، والتي قد تعادل رمزيّاً الهورمونات المضادّة للتقدّم في السن وتأثيرها الخارجي والداخلي. إذا كان لا بدّ من اعتبارها خدعاً، فلتكن كذلك. طيران لحظوي من الجسد
باستلقائه وبلادة حركته، يعيق الجسد المسن حركة المجتمع اليومية وأنظمته الاقتصاديّة ومؤسساته التي تطرده خارجاً بتحديدها سناً للتقاعد. فلنأخذ مثالاً أبسط وهو تعثّر الجسد ووقوعه، والذي سيثير غالباً ضحك المتفرّج ولو كانت نتيجته الأذى البالغ. في المقابل، فإن الشيخوخة هي سقوط بليد ومتمهّل يجري في الخفاء، نرى نتيجته النهائيّة حين يصير الجسد عاجزاً. أليس معظم أبطال النكات من الكهول عاجزين؟ وأحياناً، تنتج الفكاهة من النقر على هذا العجز والمبالغة فيه.
تأخذنا إحدى الدراسات الأخرى التي رصدت الـ “جيلوتوفوبيا” (رهاب التحوّل إلى مادّة مضحكة) لدى المسنين إلى هذا الرعب من الفكاهة السوداء. بالطبع هناك أسباب نفسية كثيرة تولّد هذا الرهاب لدى الأصغر سنّاً، لكن العوامل كلّها تبدو جاهزة ومحضّرة مسبقاً للكبار، حيث تلتقي نتائج بعض الدراسات على الخوف المشترك الذي ترتفع نسبته لدى المسنين الذين يشتركون أيضاَ بتفاديهم للأشخاص الفكاهيين، خوفاً من أن يكونون هم موضوع النكتة.
البذاءة.. انتصار لأجساد لم تعد جنسية
تطلّب الأمر وقتاً لكي أعثر على شبيهة خياليّة لأم ياسر، إلى أن تذكّرت شخصيّة نسطاس في قصّة أنيس فريحة. درسنا هذه القصّة في المرحلة الابتدائية في المدرسة، والأرجح أن الحكاية مرّت على كلّ طلاب المدارس اللبنانية في التسعينيات. يقدّم فريحة شخصيّة أرملة سبعينية كانت بطلة السباب والشتائم في الضيعة، لكنها بشعة ومخيفة حتى بعد موتها. بان وجهها في رسمة أرفقت مع القصّة في الكتاب، وأكثر ما يعلق في الرأس منه هو أنفها العملاق. اللافت أن شخصيّة نسطاس، غامرت في الابتعاد عن الحنان الجاهز للجدّات في الضيعة اللبنانية. نسطاس نفسها لا تعرف إن كانت جدّة أم لا، لأن أولادها هاجروا منذ زمن إلى البرازيل، ولم يعودوا. وفي استحضاره لتلك الشخصيّة الريفية في كتابه “اسمع يا رضا”، يربط فريحة عصبيّتها وتشنّجها بكل تلك الخسارات منها الزوج، وأعتقد أنه يربط تفلّت لسانها ضمنياً بغيابه.
اللافت أن شخصيّة نسطاس، غامرت في الابتعاد عن الحنان الجاهز للجدّات في الضيعة اللبنانية. نسطاس نفسها لا تعرف إن كانت جدّة أم لا، لأن أولادها هاجروا منذ زمن إلى البرازيل، ولم يعودوا. لا بد أن عصبيّتها وتشنّجها مرتبطة بكل تلك الخسارات
كانت أم ياسر بالنسبة إلى عائلتها مثل نسطاس بالنسبة إلينا كتلامذة. إذا أردنا أن نسخر من أحد نناديه نسطاس. أم ياسر كذلك لم تكن محبوبة من أقاربها، الرجال والنساء. وبالإضافة إلى لسانها كانت تقابلهم بإصبعها الوسطى، كانت تشتم وتقصّ علينا النكات البذيئة مستعينة فيها بكلّ أسماء الأعضاء الجنسية.
في تحليله للأمثال الشفهية المغربية، يجد عبد الكبير الخطيبي، أن المثل الشبقي أو البذيء “يمحو المحرّمات الدينية بسذاجة”، عبر التضادّات الجنسية التي تكتنزها الأمثلة. تلك النكات الجنسية البذيئة التي تتناقلها المسنّات في الأرياف تحديداً، هي أكثر من مجرّد تصريف ضجر للوقت، إنها تقتفي سبل الأمثال الشعبية بمحوها المحرّمات الدينية والاجتماعيّة على السواء. وهي تبدو كانتقام أخير من كلّ ما قبض على أجسادهن في السابق. في كلّ الحالات إنه انتقام متأخّر نسبياً، حيث يمكن تبرير تساهل الناس والمجتمع معهن لسبب لا سواه؛ أن أجسادهن لم تعدّ أجساداً جنسيّة.
إيماءة أخيرة
يفتتح ميلان كونديرا روايته “الخلود” بامرأة ستينية في حوض السباحة. يراقبها الراوي عن بعد، ويتلصّص على إيماءاتها، إلى أن يقع نظره على استدارة المرأة وهي تهمّ بتوديع معلّم السباحة. في اللحظة نفسها، تومئ له بيدها وهي تبتسم. يخبرنا كونديرا أن تلك الإيماءة، كانت لامرأة في العشرين، حيث تناست تماماً عمرها البيولوجي، وحقيقة أنها لم تعد جميلة. إنها لحظة سحرية فالتة من الجسد والعمر، لخّصها الراوي بتلك الإيماءة المتفرّدة التي يطرح كونديرا من خلالها فكرة أننا نعيش جميعاً في حيّز ما في أنفسنا خارج الزمن. عدتُ قبل أيام إلى رواية “الخلود”، إلى هذا المقطع تحديداً الذي جعلني أدرك عدم أمانتي حين قلت إنني أتذكّر أم ياسر برقصها أمام جنازة صباح في التلفاز. إنني لا أذكرها إلا بإصبعها الوسطى وهي تشهره في وجه أكثر من تسعين عاماً.