تدفقت أعداد كبيرة من المصريين والسوريين إلى ليبيا في السنوات الأخيرة، جلبت معها أطباقاً وتوابل كان لها مكان على رفوف المتاجر وفي منازل الليبيين. وقبل ذلك، في فترة التسعينيات، كان أثر العمالة المهاجرة واضحاً أيضاً في طبق الطعام. فإلى أي مدى يمكننا اليوم أن نقتفي أثر الهجرات في نظامنا الغذائي؟
غياب العمالة المصرية .. غياب الخبز
شهدت ليبيا فترة التسعينات هجرة غزيرة من مصر بسبب توقيع عقود مع العمالة المصرية بشكل كبير بعد توقيع قانون الحريات الأربع بين مصر وليبيا، والذي يسمح بالتنقل الحر عبر الحدود بين البلدين ويمنح المواطنين المصريين والليبيين حق العمل في كلا البلدين.
وبحسب تقديرات وزارة القوى العاملة في مصر كان عدد العمال المصريين في ليبيا مليوني عامل قبل اندلاع الثورة الليبية، وكان من بين الأعمال الكثيرة المعتمدة بشكل كبير على العمالة المصرية هي المخابز. فبحسب تصريحات لمسؤولين في نقابة الخبازين، وفي إدارة التفتيش وحماية المستهلك باللجنة الشعبية العامة للاقتصاد والتجارة في ليبيا، فإن حوالي 80% من المخابز الموجودة آنذاك كانت تُدار بواسطة عمالة وافدة مصرية.
وبما أن الرغيف أساسي في المائدة الليبية أدى رحيل العمالة المصرية إبان الأحداث الخطيرة التي شهدتها ليبيا منذ بداية الثورة إلى أزمة حقيقية نتج عنها إقفال العديد من المخابز.
جاء رحيل العمالة المصرية من ليبيا على مرحلتين، أولاهما عام 2011 وعاد على أثرها حسب وزيرة القوى العاملة والهجرة في مصر ناهد عشري ما يقارب 170 ألف عامل لبلدهم مصر، والأخرى عام 2014 بعد الاعتداءات المتكررة على الجالية المصرية في غرب البلاد وشرقها والتي عاد على أثرها لمصر حسب الوزيرة نفسها نحو 72 ألف و745 عامل.
أدى ذلك لأزمة خبز حقيقية وتداولت مواقع إخبارية عديدة صور طوابير المخابز بسبب قفل العديد من الأفران، واشتكى سليم يوشع مدير مكتب الاقتصاد بمدينة غدامس في غرب ليبيا في تصريح له عام 2014 لقناة ليبيا 24 من أن المدينة تشهد نقصاً حاداً في الخبز وذكر أن أبرز الأسباب هو نقص العمالة المصرية.
وفي تقرير آخر نشرته بوابة إفريقيا الإخبارية في يناير عام 2015 عن طوابير الخبز صرح أحد أصحاب المخابز التي تقع في وسط العاصمة الليبية طرابلس إنه لم يعد هناك من يعمل معه سوى شابين ليبيين من الطوارق وقد اشترطا رفع الأجور بعد مغادرة العمالة المصرية.
لا يمكن الاستغناء عن الخبز الليبي الشبيه بالخبز الفرنسي (الباغيت) في المائدة الليبية، يكاد يكون حاضرا فطورا وغداء وعشاء، كما لا يمكن تخيل فترات العام الدراسي من دونه، إذ يعتمد إفطار الطلاب والطالبات وحتى طواقم التدريس على السندوتشات المعدّة من خبز المخابز.
وبغيابه لجأ العديد من الليبيون لطرق مختلفة لتوفيره؛ ففي الشارع الذي كنت أسكن فيه في وسط مدينة درنة كان هناك مخبزين قد أغلقا بعد رحيل العمالة المصرية التي كانت تُشغل كليهما. حينذاك لجأ أحد الجيران لصناعة الخبز التقليدي في البيت باستخدام (التنور)، أما نحن فلجأنا في بيتنا لتأمين الخبز من المخابز التي أعادت فتح أبوابها بعد تعلم بعض الشبان الليبيين صناعة الخبز، وتخزين الفائض منه عبر تجميده وإعادة تسخينه عند الحاجة وكان هذا يعد أسلوبا جديدا لم نكن نعرفه قبل أزمة الخبز.
هذا النقص الحاد الذي خلفه رحيل العمالة المصرية قاد بعض الشبان الليبيين لتعلم مهن وحرف جديدة في محاولة جديدة لاستثمار الموارد البشرية من أبناء الوطن. ففي مدينة غدامس غرب ليبيا نشر موقع أخبار ليبيا 24 عام 2015 تقريرا عن شباب من مدينة غدامس كانوا قد بدأوا في تعلم صنع الخبز والعمل في مخابز المدينة محاولين تخفيف حدة الأزمة.
حضور جاليات أخرى ولجوؤها لليبيا، إما كمستقر أو كمعبر مؤقت في انتظار وصولهم للأراضي الأوروبية التي تعتبر ليبيا بوابة لها، قد يغير ويعيد تشكيل موائد الليبيين و أسواقهم التجارية بل ومشاريعهم الخاصة، فكيف يمكن لهذه الهجرات أن تُعدل في خصائص مطابخنا وروائحها بل وقائمة مشترياتنا وما يتواجد على أرفف الأسواق التجارية الغذائية؟
موائد ليبية بأطباق شامية
توافد إلى ليبيا آلاف السوريين بعد اندلاع الاحتجاجات التي تزامنت مع أحداث الثورة الليبية، وحسب الأعداد المسجلة لدى الأمم المتحدة فإن عدد اللاجئين السوريين في ليبيا ما بين عامي 2011 و 2015 تراوح ما بين 11 و 18 ألفا.
احتكاك السوريين المباشر بالليبيين متزامنا مع التزايد في استخدام مواقع التواصل الاجتماعي في ليبيا بعد بدء الثورة الليبية، أعادا تشكيل السفرة الليبية، فاليوم حين تسأل عائلة ليبية ماذا تناولتم على الغداء؟ قد تجيبك بلكنة ليبية: “صفيحة وكبة وفتوش“.
هكذا كان جواب أماني الزحاف، شابة من ليبيا لديها مشروع خاص لصناعة الحلويات، وهي عضوة فعالة في مجموعة على الفيسبوك خاصة بالطبخ (وصفات منى معتوق)، وكانت هذه المجموعة قد أنشئت منذ سنتين وتحتوي على ما يقارب المليوني عضو من مختلف الجنسيات المقيمة في ليبيا.
لاحظت من خلال تصفحي فيها العديد من السفر الليبية التي صارت تشبه سفر السوريين وكيف يحاول الليبيون أن يناغموا بين الأطباق الشامية وأطباقهم الليبية على مائدة واحدة.
حدثتني أماني عن الأطباق الشامية التي تأثرت بها هي وعائلتها في السنوات الثلاثة الأخيرة بقولها: “صحيح أن أمي كانت تعد لنا بعض هذه الأطباق كالفتوش والصفيحة التي تعلمتها من معارف سوريين لنا، ولكن منذ ثلاثة أعوام أضيفت لمائدتنا أطباق سورية عديدة مثل البابا غنوج والمكدوس والكبة بأنواعها بسبب شهرتها على مواقع التواصل الاجتماعي”. وتضيف أماني: “إن هذه الأطباق لم تكن مشهورة ولم يكن الجميع يعرفها ويطلبها إلا في الثلاث سنوات الأخيرة وأصبحت الكبة والمقبلات الشامية حاضرة في كل المناسبات الليبية بسبب حب الليبيين لتجريب الوصفات المنتشرة في مواقع التواصل الاجتماعي وبسبب كثرة وجود السوريين واحتكاك أهل المدينة بهم على أرض الواقع”.
أسواق للمنتجات الشامية
جعلت مواقع التواصل الاجتماعي من التعرف على أطباق من دول مختلفة أمراً ممكنا. وهيّأ المناخ الجديد في ليبيا والموائد الليبية لانضمام أطباق جديدة، وبالتالي كان لابد من أن تتأمن في السوق منتجات ذات صلة بالأطباق الجديدة المهاجرة؛ فالطبق الذي يهاجر اليوم عبر الإنترنت أو مع الشعوب ويستقر في البلاد يحمل معه خصائص طريقة تحضير قد تكون مكوناتها متوفرة في البلاد التي نشأ منها. فقد كان تحضير الطعام في شكله الأول يعتمد على ما هو موجود في البلاد المنسوب إليها وما هو متوفر بكثرة فيها، ولكن الأسواق في البلد المُهاجَر إليه قد لا تتناسب محتوياتها مع هذه الأطباق الجديدة وكثرة الطلب هي التي باتت تحدد الأسواق.
قبل هذه التغيرات وقبل دور الإنترنت الهام الذي بدأ يتصاعد تزامنا مع بداية الانتفاضات العربية، أي قبل إحدى عشر عاما، لم يكن سهلا على الجالية السورية والشامية بصفة عامة المقيمة في ليبيا الحصول على العديد من المنتجات الأساسية المستخدمة في تحضير العديد من أطباقها.
أمي من أصول فلسطينية تقيم هي وأهلها في ليبيا في مدينة درنة منذ السبعينات وهم على احتكاك بمعارف من الجالية السورية واللبنانية، وجميعهم لم يكن بإمكانهم الحصول على هذه المنتجات وكانوا يقومون بالتوصية على بعضها من بلدانهم الأصلية، وعند سفر أحد أفراد هذه الجاليات لموطنه الأصلي والعودة لليبيا كان يرجع محملا بطلبات وتوصيات أبناء جاليته وبقية الجاليات الشامية، وأبرز هذه المكونات كانت دبس الرمان والسماق والمتّة والزعتر، أما اليوم أصبحت هذه المتطلبات تتوفر بكثرة وصرت عندما أدخل للسوبر ماركت أجد بدل النوع الواحد أنواعا من دبس الرمان والزعتر.
يقول مهاب الهنيد، صاحب سوق السنبلة (واحد من أبرز أسواق المواد الغذائية بمدينة درنة): “نوفر في سوقنا منتجات شامية كثيرة مثل دبس الرمان ودبس العنب والفريك والمتّة والملوخية المجففة، والبهار الشامي مثل السماق، والمكدوس المعلب والحلاوة الشامية بالسمسم. بالطبع لم تكن هذه المواد والمنتجات متاحة ولم تكن تستخدمها في ليبيا إلا فئة قليلة من أهل الشام أنفسهم”.
وبحسب هذا التاجر كان أول دخول لبعض هذه المنتجات لأسواق ليبيا في عام 2009 عندما شهدت البلاد انفتاحا جزئياً في قطاع التجارة ودخلت شركات تركية وشركات أجنبية أخرى وبدأ المنتج المستورد بالانتشار. “لكننا بدأنا نوفر منتجات سورية متعددة وبكثرة بسبب كثرة الطلب بعد الحرب في سوريا ولجوء العديد لليبيا، وبعد انتشار هذه الأطباق عبر صفحات السوشيل ميديا الليبية”.
السيد أمين بن حليم، صاحب سوق العائلة بمدينة درنة (وهو أيضا من أكبر الأسواق التجارية الغذائية في المدينة) يقول إن “الكثير من المنتجات السورية التي تدخل في وصفات عديدة تم نشرها عبر الإنترنت في السنوات الثلاث الأخيرة مما أدى لتوفيرها في سوقنا بناء على كثرة الطلب عليها من الجالية الشامية في المدينة ومن الليبيين أنفسهم المتأثرين بوجود الجالية السورية بينهم”، ويضيف السيد بن حليم: “الإقبال عال من الليبيين خصوصا على الزعتر السوري ودبس الرمان والسماق”. ويعزو السيد بن حليم سبب دخول هذه المنتجات الأخيرة للنظام الغذائي لدى الليبيين للسوشيل ميديا.
أبواب جديدة
بهذا الشكل أصبحت أرفف الأسواق في ليبيا تزخر بمنتجات جديدة مختصة بتحضير أكل من جنسيات وثقافات أخرى، حتى أن صديقة سورية مقيمة في تونس أخبرتني بأنها تقوم بتوصية أصدقائها الليبيين حين يزورون ليبيا ويعودون لتونس على منتجات سورية تباع في ليبيا مثل دبس الرمان والكبة والفلافل والملوخية المفرزة (المجمدة).
لم يتوقف التأثر لهذا الحد بل تعداه للمناسبات الاجتماعية التي صارت توفّر بوفيه للمأكولات الشامية بجانب المأكولات التقليدية الليبية، الأمر الذي فتح أبوابا جديدة لأصحاب المشاريع المتعلقة بتوفير طلبيات المناسبات بأنواعها.
اكتشفت وأنا أتصفح الفيسبوك صفحة لمشروع بيع مأكولات ليبية وشامية تشرف عليه إيناس الهرام، وهي سيدة ليبية تقيم في مدينة درنة. وفي حوار أجريته مع هذه السيدة قالت لي: “بدأت مشروعي الخاص منذ زمن بعيد ولكني بدأت بإدخال المقبلات والسلطات والوجبات الشامية عام 2013 بعدما زاد الطلب عليها من الليبيين، ولدي صفحة على الفيسبوك لتسويق هذه المنتجات”.
وتابعت: “أبيع الكبة والشيخ محشي وجميع السلطات والمقبلات السورية التي تعلمت بعضها من مواقع في الإنترنت والبعض الآخر من إحدى قريباتنا السورية، وأحضر طلبيات بسيطة وطلبيات مناسبات كبيرة بالكامل كالأفراح وإن إقبال الليبيين كبير لدرجة إنها توزع داخل المدينة وخارجها”.
بالنسبة لهذه السيدة صرنا نتغير ويتغير أسلوبنا في الطبخ وإدارة اقتصاد بيوتنا بسبب الأطباق المهاجرة، وقد نمرر لأجيال قادمة خصائص وأساليب وروائح جديدة قدمت يوماً ما من بلاد أخرى ثم صارت جزءاً من مطبخنا الليبي.