تعود معرفتي بـ ألدا البالغة من العمر 37 عاماً إلى العام 2021، التقيت بها في إحدى المناسبات الاجتماعية في مدينة بنغازي. كانت بشعر قصير أشعث وجسم رشيق يشبه قوام عارضات الأزياء، تجاذبنا أطراف الحديث بخليط من الفصحى واللهجة الليبية وبعض مفردات اللغة الإنجليزية.
المناسبة كانت مأتماً، وكانت ألدا طوال الوقت واقفة في المطبخ، تحديداً عند حوض الغسيل تغسل قصاع الستانلس ستيل والملاعق مما بقي منها من وليمة الأرز المعتادة في هكذا حالات. لاحظت كمية التعب البادية على وجهها بحكم معرفتي بطقوس المناسبات الليبية المنهكة.
كانت ألدا حينها تعمل لدى سيدة جاءت بها إلى هذه المناسبة. من المعتاد في مناسباتنا الاجتماعية أن تساهم كل سيدة بشكل أو بآخر بمساعدة أصحاب المناسبة، كأن تشترك مجموعة من السيدات في جمع مبلغ مالي أو إحضار نوع طعام معين، لكن للمفارقة، تم تقديم ألدا كمساهَمَة من تلك السيدة في المساعدة طيلة أيام المأتم، على سبيل “الإعارة”.
أخذتُ رقم هاتف ألدا للاتفاق معها على حضورها لمساعدتي في مناسبة اجتماعية كنت أجهز لها في ذلك الوقت، لكني لم أعاود الاتصال بها لهذا الغرض، بل عندما نويت أن أروي قصتها كواحدة من العاملات اللواتي قدمن إلى هنا بطريقة غير قانونية، فعلقن في مراكز الاحتجاز أو في منازل الخدمة.
محطة مؤقتة
وطأت أقدام ألدا ليبيا للمرة الأولى في العام 2015 قادمة من مقاطعة لاقون بدولة ساحل العاج (كوت ديفوار)، مسقط رأسها، بحثاً عن فرصة للعمل ريثما تتدبر مبلغاً مالياً يمكنها من الهجرة نحو الضفة الأوروبية. غادرت بيتها وفي جيبها فقط 800 فرنك غرب أفريقي (دولار واحد وعشرين سنت) لتعبر الصحراء رفقة مجموعة مكونة من عشرين شخصاً ما بين رجل وامرأة في رحلة مشي قطعوا فيها أزيد من ثلاثة ألاف كيلو متر وعبروا خلالها حدود دولتي مالي والنيجر قبل دخول الحدود الجنوبية الليبية وفق خطة رسمها وسيطٌ من بلدها.
في مدينة سبها حاضرة الجنوب الليبي نفض الجمع غبار النيجر وانطلق كل منهم ينشد حلمه الخاص. تواصلت ألدا مع أسرة ليبية ربطها بها مهرّب الرحلة، مكثت عندهم بضعة أيام ريثما تنطلق في رحلة أخرى لكسب الدينار الليبي. شهران كانا كفيلين بخفض سقف طموحاتها، تقول “في تلك الفترة تمكنتُ من الحصول على وظيفة عاملة نظافة في مصنع صغير لكني لم أتمكن من ادخار فلس واحد طيلة شهرين في هذا العمل، بالكاد كنت أتدبّر طعامي”.
يرحلون سريعاً
عاشت ألدا طفولة معقّدة مع أب كحوليّ وأم تتعرض للضرب والإذلال اليومي، وكحال معظم بنات قريتها لم تكمل تعليمها لكنها تعلّمت “الصبر على الألم”. بقي من ذكرياتها تعرضها للتحرش من قريب لها في إحدى الزيارات العائلية، تقول إن مواضع لمساته في جسدها مازالت تثير لديها شعوراً بالقرف والقشعريرة، لكنها فضلت آنذاك الصمت خوفاً من أسرتها.
وعندما تركت المدرسة واتجهت إلى سوق العمل للمساعدة في مصروفات البيت “كثر المتحرشون”. في إحدى الليالي وأثناء عودتها إلى البيت تعرضت للاغتصاب من قبل أحدهم، “اكتشفتُ الحمل لكن الشاب رفض الاعتراف بفعلته فقمت بإجهاض الجنين”.
والدها المدمن كان بطل مأساتها الأول إذ إعتاد أن يأخذ النصيب الأكبر من مرتبها الصغير ويضربها إذا حاولت شراء قلم روج أو بعضاً من مستلزماتها، “كنتُ امتلك قطعة ثياب واحدة اشتريتها من البالة، وفي أيام دورتي الشهرية أغسل ثيابي في الليل لأتمكن من ارتدائها نظيفة في الصباح. وحذائي رممته عديد المرات”.
إلا أنها كانت سعيدة بالعمل الذي مكنها من توفير حاجيات الأم والأخت فأختها تصغرها بسنوات وأجبرها الوالد على الزواج من أحد أصدقائه لتنضم إلى نادي النساء المضطهدات في العائلة. “بعد أن مات الرجل تزوجت أختي من شابّ شهم وكريم، أحبّته جداً.. مات غرقاً في البحر محاولاً الوصول إلى إيطاليا”، هكذا يرحل الطيبون من حياة ألدا دون رجعة.
فسحة للأناقة ووضع المكياج
الأسباب التي تدفع الناس إلى الهجرة متعددة ومعقّدة. من بينها البحث عن حياة آمنة خاصة في الدول التي تشهد فوضى ونزاعات مسلحة وصعوبة في توفير لقمة العيش. وتشير المنظمة الدولية للهجرة ـ ليبيا في تقرير لها في العام 2021 إلى أن الدوافع الاقتصادية لازالت تتصدر قائمة دوافع مغادرة بلدان الأصل بنسبة 88% وأن نسبة 8% من المهاجرين يتجهون للعمل المنزلي وتقديم الرعاية، والباقي موزعون على قطاعات البناء والفلاحة، وباعة متجولون، والصيد البحري.
يبدو السبب الذي دفع ألدا إلى الهجرة واضحاً وهي المعنّفة التي تعمل في فندق صغير وتتقاضي مرتباً لا يتعدى دولاراً ونصفاً يومياً، لكن إذا أردنا أن نتعرف أكثر على عالم المهاجرين القادمين من غرب إفريقيا يمكن أن نزور ساحة الشهداء، أشهر ساحات طرابلس، يوم الجمعة، حيث يجلس المهاجرون والمهاجرات بالمئات مع أولى ساعات الغروب مرتدين ملابس أنيقة وضحكاتهم تملأ المكان يتوزعون في مجموعات تتبارى في الرقص على أنغام أغاني بلدانهم.
هناك تخلع ألدا ثوب “الخادمة” وترتدي أجمل ملابسها هي ورفيقاتها الضجرات من أحواض الغسيل ومن الخدمة في منازل عديدة في العاصمة، “إنه يوم إجازتنا، أجتمع مع صديقاتي وأصدقائي، ألوّن شعري، أضع المكياج، ألبس الحلق والخواتم وأقوم بتركيب أظافر بطلاء أحمر.. أحب أظافري باللون الأحمر”، وتتابع: “أيضا نتبادل الحديث والأخبار عن معارفنا الذين وصلوا إلى أوروبا أو الذين فشلوا بالوصول، فهذا جزء ثابت من لقاءاتنا”.
أحياناً تستفز ألدا نظرات الاستغراب وعبارات التنمر وبعض الشتائم التي يكيلها مواطنون لم يجدوا موطئ قدم في المتنفس الأهم في العاصمة، لكنها ومن معها ينشغلون بالرقص والغناء في مثل هذه الحالات ولا يبدون اكتراثاً للكلام الجارح.
مسار يفشل وأخر يبدأ
لم تتسنى لألدا فرصة الهجرة نحو أوروبا انطلاقاً من طرابلس فقد غيّر حادث مفاجئ مسار خطتها التي رسمتها قبل مغادرتها كوت ديفوار. لقد تحولت من كونها “خادمة مقيمة” إلى “خادمة هدية”.
كلما طرحت عليها سؤالاً قابلته بتلعثم في الإجابة بعضه عفوي وبعضه الآخر احترازي، لكن إلحالي بالسؤال أجبرها على أن تعيد فتح دفاتر مغامراتها. في شهر تموز (يوليو) من العام 2019 حاولت الهرب إلى إيطاليا حسب الاتفاق مع الوسيط على متن قارب يحمل ما يفوق مئة شخص من جنسيات مختلفة انطلاقاً من شاطئ مدينة الخمس (120 كم شرقي طرابلس). بعد مرور بعض الوقت انقلب القارب في البحر وغرق بعض الركاب، ومن بقي على قيد الحياة تم إنقاذه ونقله إلى مركز الاحتجاز. لقد شاهدت ألدا بعينها أجساد الأطفال وهي تغرق في مياه المتوسط.
جرت المحاولة الفاشلة انطلاقاً من ميناء الخمس لأنه نقطة البداية للكثير من محاولات العبور، وأيضاً نقطة النزول الرئيسة لمن يعترضهم خفر السواحل الليبي من أمثال ألدا سيئة الحظ. تسرد بحزن رحلتها الفاشلة وتستطرد متحدثة عن تعرضها للضرب والإهانة على يد الحراس:
“كان يتم حشرنا في غرفة ضيقة، والأجساد متراصة، نستنشق الهواء بصعوبة، شعور الخوف يرافق الجميع رجالاً ونساءً. ذات ليلة، كنا حوالي 10 أشخاص، تمكنّا من الهرب، كان يجب علينا الإسراع في الجري قبل أن ينتبه لنا الحرس. وصلنا إلى الشارع وذهب كل منا في طريقه”.
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft
عربون صداقة بشحمه ولحمه
تبدو لي المقولة المنسوبة للمؤرخ الإغريقي هيرودوت “من ليبيا يأتي الجديد” أثناء رحلته إلى أفريقيا قبل نحو 2500 عام صالحة لوقتنا. الجديد هذه المرة هو تبادل المهاجرات الإفريقيات كهدايا بين الصديقات كوسيلة يظهرن فيها دعمهنّ لبعضهن البعض، أو كنوع من المجاملة بين الأسر الثريّة.
في أثناء خدمتها في مدينة طرابلس قررت العائلة التي تعمل لديها ألدا السفر خارج البلاد. قبل موعد السفر المحدد تم إرسال ألدا إلى مدينة بنغازي كهدية من سيدة البيت إلى إحدى صديقاتها دون أن تُسأل ألدا عن رأيها. قد يشبه الأمر تجارة الرقيق التي كانت سائدة منذ قرون طويلة لكن هنا لا توجد عملية بيع بل نقل ملكية إنسان إلى إنسان آخر عربوناً للصداقة.
عندما يريد أحدٌ ما تقديم هكذا هدية عليه أن يتأكد من أمانتها وحفظها أسرار البيت وتمتعها بمستوى عالٍ من النظافة وإجادتها إعداد الأكلات الليبية مثل الفلفل المحشي والكسكسي والشرمولة والمكرونة المبكبكة، وكلها اختبارات سبق أن اجتازتها ألدا بتفوق. هي تعلم أن ربة البيت تعمدت أكثر من مرة وضع مبالغ مالية في أركان المنزل لاختبار أمانتها كما كانت تواظب طوال الوقت على توجيهها وتعليمها أصول المطبخ الليبي.
لا تأخذ ألدا الأمر على محمل شخصي، لازالت تكن مشاعر طيبة لتلك السيدة ” لم تكن بخيلة معي كانت تعطيني الثياب والاساور وهذا العقد الذي في رقبتي هدية منها، كانت تسمح لي باستخدام الحمام الخاص بالعائلة عند الاستحمام، لا تسيء معاملتي وعندما أخطئ توجهني على انفراد بطريقة لطيفة، وللأسف سافرت إلى خارج البلاد للدراسة”.
كان مسار الرحلة من طرابلس إلى بنغازي ذي الألف كيلو متر سهلاً بعكس تشاؤم ألدا المهاجرة غير الشرعية “ذهبت في حافلة مع عائلة ليبية تربطها صلة قرابة بالسيدة الطرابلسية التي كنت أعمل عندها، وأثناء مرورنا على عدة محطات أمنية لم يستوقفني أحد، كانت الطريق طويلة جداً. بقينا يومين في الطريق، قيل لي أن الطريق الأساسية والمعروفة مقفلة بسبب النزاعات. عند الوصول إلى مدينة بنغازي اتصلت العائلة الوسيطة بالسيدة المرسلة لها الهدية”.
رحلة بين المنازل
في بنغازي خاضت ألدا تجربة العمل كعاملة منزلية بشكل مختلف عن ذلك الذي عهدته في طرابلس. لم تختلف الواجبات اليومية إذ يبدأ يومها بالاستيقاظ باكراً لتجهيز الأطفال للمدارس ورعاية المرضى العاجزين في البيت وتجهيز القهوة والفطور لمن بقي نائماً قبل أن تنغمس في أعمال الكنس والطبخ وغسيل الملابس.
لكن طقساً أخر أثقل كاهلها إذ اعتادت إحدى العائلات على تدويرها بين بيوت أبنائها وبناتها المتزوجين ما اضطرها للهرب على غفلة من أفرادها. “كانت قائمة مهامي طويلة وتحتم عليّ التنقل بين بيوت كثيرة مرة من أجل حملة تنظيف للبيت، وأخرى لحراسة الأطفال، وثالثة لتجهيز عزومة عائلية كبيرة. أتكفل بكل ما يخص حفلاتهم وبينما هم يحتفلون أشرف على رعاية الأطفال وعندما ينفض الجمع أمضي الليل في تنظيف المكان وفي الصباح يتوجب عليّ النهوض قبل الجميع لإعداد الفطور”.
تلك العائلة المتطلبة قادت ألدا للتعرف على عائشة، المهاجرة السنغالية التي تعمل مع زوجها داخل مزرعة بمنطقة بوهادي، إحدى ضواحي بنغازي. في منزل عائشة- أحيانا تسمي نفسها ليزا- المكون من غرفة صغيرة وصالة جلوس وجدت ألدا بعضاً من الحنان الذي افتقدته منذ مغادرة بلادها رفقة مهاجرات أخريات يبحثن عن الطمأنينة التي يفتقدنها جميعاً.
مثلت صالة الجلوس ملاذهنّ الآمن ففيه احتفلن بأعياد ميلادهن وتشاطرن قصص الحنين إلى بلادهن.. ألدا المشتاقة لابنتها ساندرا، ونيمي التي تركت ابنها خلفها في مالي، ومواطنتها أبينا التي هجرت والدتها. أما ليزا فتعيش داخل حزنها بسبب وفاة طفلها. جميعهن تركن مقاعد الدراسة وهجرن الأحباب ويحلمن بالوصول يوماً ما إلى أوروبا.
في النهاية فرضت الواقعية نفسها بمغادرة بيت عائشة والبحث عن عائلة تخدمها بحثاً عن المال وتحتمي بسقفها من عيون رجال جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية. وهكذا عادت لتصبح خادمة هدية تتبادلها الصديقات. تلتقي أناساً رحيمين ترقص في أفراحهم وتستمع مثل الأطفال لحكايات عجائزهم، وآخرين استغلوها مقابل خدمتها. ماضي مراهقتها البائس جعلها تبني علاقات جيدة مع الأبناء وتقوم أحياناً بدور الأم، تحفظ أسرارهم وتتصل بهم إذا تأخر موعد عودتهم إلى البيت، تراقب الفتيات المراهقات، وتحاول تضميد حنينها لساندرا التي قد لا تراها مرة أخرى.
وهي اليوم بعد سنوات من مغادرتها لمقاطعة لاقون ثم مغادرتها العاصمة طرابلس مازالت تعمل من أجل المال ومازالت تحلم بالهجرة إلى أوروبا، تتمنى ألا يعترض طريقها خفر السواحل الليبي، وتحمل داخل صدرها خريطة من المسارات: مسار معنون بحلم الهجرة إلى أوروبا.. مسار لجمع المال.. ومسار للم الشمل مع ابنتها
في تلك البيوت الليبية تعرفت ألدا على بعض العائلات الغنية التي عرّفتها لأول مرة على المايكرويف، وغسالة الصحون وعجانة الدقيق، وغرف النوم المريحة المبردة بمكيفات الهواء. بيوت بمساحات واسعة وحدائق خضراء وسيدات خضعن لعمليات تجميل وفتيات يعشن حياة جامعية، آباء يعملون كمحامين وموظفي بنوك وملّاكاً لمراكز تجارية ومطاعم، سيدات يدرن مراكز لقص الشعر والتزيين أو يترددن عليها، وبنات يطمحن أن يصبحن موديلات.
بيد أن أغلب العائلات التي عملت لديها تنتمي لطبقة وسطى مستهلِكة يقيمون في شقق ضيقة لكنهم مع ذلك يتسابقون نمطاً استهلاكياً طرأ في السنوات القليلة الماضية حيث وجود عاملة المنزل ليس إلا نوعاً من البرستيج الاجتماعي أكثر منه ضرورة، كتلك السيدة التي ظلت ألدا لأشهر تحسبها سيدة أعمال لكثرة بقائها خارج البيت ليتبين أنها كانت تخرج منذ الصباح فقط لتشرب القهوة مع صديقاتها وتقضي معهن ساعات طوال. “كانت سيدة متقلبة الطباع ومزاجية وفي إحدى المرات رمتني بفردة حذائها” تستذكر ألدا.
صحيح أن ألدا تفتقد طقوس يوم الجمعة الكبير الذي عرفته في طرابلس لكنها عوضته بالاجتماع مع صديقاتها في المراكز التجارية التي بدأت خلال السنتين الأخيرتين تنتشر في المدينة.
وهي اليوم بعد سنوات من مغادرتها لمقاطعة لاقون ثم مغادرتها العاصمة طرابلس مازالت تعمل من أجل المال ومازالت تحلم بالهجرة إلى أوروبا، تتمنى ألا يعترض طريقها خفر السواحل الليبي، وتحمل داخل صدرها خريطة من المسارات: مسار معنون بحلم الهجرة إلى أوروبا.. مسار لجمع المال.. ومسار للم الشمل مع ساندرا.
تتلعثم كعادتها قبل أن تخبرني بأنها نجحت في ادخار القليل من النقود، تسكت لبرهة لتخبرني عن مسار آخر قد يقودها إلى تونس للعمل هناك والبحث عن قارب يحط بها في جنة المتوسط المنشودة. باختصار هي عالقة في منتصف الطريق: لا تريد العودة إلى لاقون مرة أخرى ولا تريد البقاء في ليبيا.