الآن يبدو لي أن الخروج من غزة كان فخًا للإمعان في البقاء والتعلق. كانت القدرة على المرور عبر معبر رفح البري قبل 6 أشهر تجاه الأراضي المصرية كمعجزة نبوية. سفري للقاهرة رفقة زوجتي وطفلتنا كان مرتبطًا بالدرجة الأولى بالهرب من هدير طائرة الاستطلاع الإسرائيلية التي لا تفارق سماء المدينة، والانفجارات التي تخلق شعورًا بالحرب بين الفينة والأخرى. بالدرجة الثانية، كانت رحلتنا ترمي لانفصال آمن عن المدينة المحاصرة، بحثًا عن فرص التطوير والعمل خارج البقعة الأكثر كثافة وتنافساً في العالم على فرص غير موجودة من الأساس.
وصلنا القاهرة، واكتشفنا بعدًا جديدًا يتشكل باكتشاف الجذور المنقولة لنا عبر الهوية والتاريخ، باعتبار غزة، مدينتا الأم، كانت المحطة الأولى للقادمين من الشام تجاه مصر. ولكن الصدفة وحدها من شاءت أن ينقطع هذا الاكتشاف، وتبقينا عالقين مع ما يزيد عن مليوني إنسان تحت القصف في غزة منذ إعلان الحرب وانقطاع الانترنت والاتصالات.. ها أنا بعد 6 أشهر على الخروج، أواصل تقليب صفحات التواصل الاجتماعي، لأبحث عن صديق استشهد، أو قريب انقطعت أخباره تحت أنقاض بيته، وجدت الكثير منهم، ولا زلت أبحث عن الشهداء الجدد، والمنقطعة أخبارهم من الموتى المحتملين.
كان آخر ما عرفته عن أفراد أسرتي، أنهم حصلوا على فرصة للاستحمام بعد نحو أسبوع من نزوحهم لمدرسة تابعة لوكالة “أونروا” في جنوب القطاع، وأن فاعل خيرٍ أرسل لهم غذاءً وفراشٍ وأغطية بعد أيام من لجوئهم إلى المدرسة هربًا من القصف العشوائي على الأحياء السكنية. انقطع الاتصال بوالدتي قبل عشرة أيام، بعد مكالمة صوتية عبر “فيسبوك”، التطبيق الذي أصبح وسيلة اتصالي الوحيدة بها منذ أن غادرت، فيما أحاول الوصول بالتراسل عبر من أستطيع الوصول إليهم من الأصدقاء والأقران، لعله يصل لطرف خيط بإمكانه إطفاء نار القلق في قلبي.
الحرب هذه المرة، تجاوزت كل أشكال الحروب التي عاشتها غزة من قبل. سواء بأنماط القصف الإسرائيلي بغرض التدمير وتشريد الأهالي من أراضيهم ومنازلهم، أو بغرض القتل والتصفية، وهو تطرف حاد شهدته حالة الجنون الإسرائيلية في استهداف السكان؛ فقد فاق عدد القتلى والجرحى منذ بدء العدوان في السابع من أكتوبر/ تشرين أول الجاري، عدد من قضوا في كل حروب إسرائيل السابقة على غزة منذ العام 2008.
مع ذلك ورغم مضي أسبوعين على بدء إسرائيل عدوانها الكبير على غزة، ما يزال الحديث عن هدنة إنسانية مؤقتة، تكفي لحصر الخسائر في الأرواح والممتلكات، وإدخال الطعام والماء، غير مطروحًا للنقاش. أغلقت إسرائيل المعابر والحواجز المؤدية إلى المدينة المحاصرة، وقطعت الماء والكهرباء ومنعت إدخال الغذاء والمستلزمات الطبية والوقود منذ الأيام الأولى للعدوان؛ تمهيدًا لتدمير البنية التحتية والفوقية لأحياء ومخيمات المدينة الساحلية المكتظة باللاجئين.
خلال الأيام السبعة الأولى على بدء العدوان، أكسبت إسرائيل في مفارقة دالة على هول المجزرة، نحو مئة رضيعٍ فلسطيني مجهول الهوية، صفة “الناجي الوحيد من المجزرة”. وحتى كتابة هذه السطور، زاد عدد من قتلهم الاحتلال عن خمسة آلاف، أكثر من ثلثيهم من الأطفال والنساء. ما يزيد عن ألف مفقودٍ تحت أنقاض المنازل المدمرة، وأكثر من عشرة آلاف جريح، لا يوجد لديهم مكاناً داخل أرضيات المستشفيات التي تعمل من لا شيء، بعد نفاد مواد الإسعافات الأولية للجرحى والأدوية ومواد التخدير الضرورية لإجراء علميات الإنقاذ العاجلة، بالإضافة لتهديد الاحتلال بقصفها.
الحرب الحالية ليست ككل موجة قصف إسرائيلي مستعرة تشتعل حممها على أجساد الأطفال والنساء والمدنيين. في المرات السابقة، كانت تقصف إسرائيل أسطح المنازل بصواريخ تعقب إرشادية، تمهيدًا لقصفها بالقنابل الثقيلة بعد دقائق معدودة. كانت تلك الدقائق تسمح بفرار العديد قبل القصف المدمر. ولكن في هذه الحرب، تم استبدال الأسلوب، بقصف البيوت على رؤوس ساكنيها، أو بقصف الأحياء والشوارع الممتدة لعدة كيلومترات، أو قصف المستشفيات، أو طرق النزوح التي أعلنتها “آمنة”. بدت رقعة الدمار وكأنها اتخذت شكل الأحزمة النارية التي ظلت تقضم الضواحي والأحياء شيئاً فشيئ، حتى وصلت إلى المناطق التي تمثل مركز المدينة وعصبها الحيوي.
صبيحة اليوم الخامس على الحرب، أصدر الجيش الإسرائيلي أوامرًا عسكرية لأهالي مدينة غزة وشمالها، لإجبارهم على ترك منازلهم وأراضيهم والتوجه إلى منطقة جنوب القطاع القريبة من سيناء المصرية؛ وذلك في منشورات عسكرية ألقتها طائرات حربية فوق الأحياء السكنية التي دمرها الجيش بالقصف.
الأوامر العسكرية الموجهة للسكان لإخلاء منازلهم، بالتزامن مع القصف العنيف والمتواصل، زادا من حالة الإرباك في صفوف المواطنين. عشرات الآلاف من الرسائل النصيّة وصلت الناس عبر هواتفهم المحمولة، أو بالاتصالات المباشرة من ضباط جيش الاحتلال وعملائه، تقول للناس: انزحوا جنوبًا، ويلي تلك الأوامر قصف القوافل النازحة فيسقط عشرات الضحايا بين قتيل وجريح.
أخرج القصف الإسرائيلي الواسع النسبة الأكبر من أحياء المدينة في شرقها وغربها وجنوبها وشمالها عن الخدمة، حتى باتت غير صالحة للعيش، وفي مدينة خان يونس جنوب القطاع، شيّدت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين أول مخيم للنازحين من القصف والذين لم يعد لهم مأوىٍ يعودون إليه.
الآلاف في شوارع غزة حاملين بأيديهم ما استطاعوا، أفرادًا يسيرون على أقدامهم وأمهاتٍ يجررن أطفالهن حولهن، أو متكدسين داخل مركبات خاصة تكتظ بالأطفال والنساء وعدّة النزوح، أو جماعاتٍ بشاحنات نقل البضائع المفتوحة. وبعد امتلاء المدارس والمستشفيات بالنازحين، يبدأ الأهالي كل صباح بتوزيع المهام اليومية القاتلة: فلان سيذهب للبحث عن ماء، فلان سيذهب للبحث عن خبز، فلان سيذهب لتأمين بعض الخضار وعلب الفول والبطاطا، وفي كل ذهاب، مغامرة بعدم العودة!
مبانٍ سكنية، مدارس، مستشفيات، أسواق، مساجد، كنائس، شوارع، ساحات عامة، أراضٍ زراعية، وحتى مزارع الدجاج! كل ما فوق أرض المدينة وتحت سماؤها هو هدف إسرائيلي مستباح.
عبر منشور مؤقت على تطبيق “انستغرام”، وثّق صديقي أحمد ما رآه خلال تجربة نزوحه بسبب القصف الذي دمّر حيه في شمال غزة. “أسوأ إشي، لما يجي اتصال لحدا بالإخلاء الساعة 1 بالليل والنساء والأطفال يطلعو يصوتو بنص الشارع وكل الناس بتجري بحثاً عن أي مكان يحتموا فيه”، يتابع صديقي أحمد: “الوضع المعيشي والنفسي كتير سيء. صعب وفوق قدرة أي شخص خارج غزة على التصوّر حتى لو كان ابن البلد. اللي بنمر فيه مختلف تمامًا عن أي مرة مرينا فيها من قبل هيك.. الواحد في كل لحظة بتخيل إنه الدور جاي عليه وإنه هو الشخص المستهدف من كثر الضرب القريب”.
بين جولة القصف والأخرى لا وقت للشعور بالصدمة والكرب. يقول أحمد: “الناس حاليًا في صراع كبير بحثًا عن الحياة في شتى المجالات، سواء بحثًا عن المأكل أو المشرب أو الإيواء أو الكهرباء.. ترى في الشارع عشرات السيارات محملة بالناس وفوقها عشرات الأغطية والفرشات.. وجميعها متجه نحو المناطق الجنوبية (..) خبز ما في.. وبالعافية إذا لقيت.. وبدك تحجز حجز..بدك سولار أو بنزين، للأسف برضو ما فيه، وبصعوبة جدًا إذا لقيت وبالواسطة والمعرفة.. ولازم طبعًا تترجاه مرات ومرات وتبررلو وتعطيه أسباب إنسانية عشان يحزن ويعبي.. المواد الغذائية شحيحة والناس في الدكاكين فوق بعض”.
فشلت محاولات صديقي المتكررة في السابق للخروج بسبب القيود المفروضة على منح التأشيرات لحملة جوازات سفر السلطة الفلسطينية المقيمين في غزة، وبسبب منع السفر العام الذي تفرضه إسرائيل على سكان وشباب غزة بإغلاق المعابر منذ ضرب الحصار في عام 2007، وكذلك منعهم من الوصول إلى الضفة الغربية والقدس للعمل والتعليم.
المساحة المدمرة داخل الغطاء المديني، تشير إلى كارثية حجم الضرر الملحق بالمدينة وناسها، وكذلك كانت حركة نزوح الهاربين من القصف داخل الأحياء السكنية في المركز والضاحية الشمالية، إلى مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في جنوب القطاع، والتي أعلنت الأخيرة عن توقف خدماتها في مدينة غزة وشمالها نتيجة للظروف المأساوية التي تعيشها المدينة. بحسب التقديرات الأولية، فإن مليون فلسطيني نزحوا نتيجة للقصف الإسرائيلي وتدمير عشرات الآلاف من المباني والوحدات السكنية.
كان النازحون، افترشوا إلى جانب أجساد الجرحى وجثامين الأموات، أرضيات أقسام وساحات المستشفيات القليلة التي لا زالت تعمل في غزة بسبب اكتظاظ المدارس بالنازحين، فباغتهم القصف الإسرائيلي موقعًا مجزرة هي الأكبر خلال العدوان، أدت لسقوط نحو 500 شهيد من المدنيين دفعة واحدة، في مستشفى المعمداني في منطقة غزة القديمة.
تتواصل أمطار القنابل الإسرائيلية على المدينة الأعلى كثافة سكانية في العالم، حتى شكّل العدد الكبير في الضحايا والدمار الهائل الناتج عن القصف، فاجعة يتردد صداها في صدور الناس، أدخلتهم في صدمة أفقدتهم القدرة على الكلام. لأن إسرائيل شرّدت نصف سكان غزة ودمرت الأحياء التي كانوا يعيشون فيها. دون وجود أمل في معرفة اللحظة التي سيعودون فيها لحياتهم السابقة، لأن إسرائيل دمرت كل ما يمكنهم الحياة به وعليه.
الصورة الأصلية: Mohammad Saber
رسائل فوات الأوان
الحرب في غزة تبدو كعادتها، مستنقع ملائم تمامًا لازدهار الشائعات، والجوع، والعطش، كذلك بلوغ حدود الانكشاف مدىً لا يمكن تصور الوصول إليه. وبينما يحاول العالقون في أماكن سكنهم معرفة ما يجري في الضواحي المجاورة تحت زخات القصف العنيف، ينهمر سيل جارف من التكهنات بمصير أكثر من مليوني نسمة لا يجدون أماكن آمنة، يلتقطون فيها الأنفاس.
الرسائل المتأخرة التي تمكنت من تجاوز التشويش الإسرائيلي على شبكة الإنترنت، تصل متباعدةً، وفي معظمها كانت رداً على رسائل أخيرة أُرسلت للاطمئنان قبل يوم أو يومين.. أو ثلاثة أيام، حتى تكرر وصول رسائل من مواطنين يطمئنون فيها السائلين بعد أن يكونوا قد ماتوا بالفعل، أو مصيرهم مجهول تحت أطنان الأنقاض. كل من وصلت رسائلهم يعيشون أوضاعاً مختلفة عن بعضهم البعض، ولكن ما يوحدهم حقاً هي معاناة الحرب والنزوح. فبينما تفرق الأهالي بحثًا عن متسعٍ لهم في أحد مراكز إيواء المدنيين من المدارس والمستشفيات، أو يسألون عن أحباب لهم غير قادرون على الاتصال بهم، كان هناك ممن أصيبوا بشظايا القصف، أو من تمكن من الهرب من المجزرة في اللحظة الأخيرة.
أرسل لمُحمد عبر “واتساب”، فيقول لي صديقي القديم إنه عالق وعائلته في المنزل ولا يستطيعون المغادرة لشدة القصف ولشدة سواد الليل. صديقة أخرى، تقول لي إنها تمكنت من الهرب، تحت زخات القذائف على الحي الذي عاشت فيها عمرها، رفقة والديها بعد إصابتها إصابة طفيفة ناتجة عن مجزرة ارتكبتها إسرائيل في منزل الجيران. الآخرون إما نزحوا، أو فقدوا قدرتهم على الاتصال بالعالم، بينما هم ينتظرون مصير ما مجهول.
أُخليَ صديق آخر من البناية التي يعيش فيها منذ اليوم الأول بتدمير برج فلسطين الذي يحتوي على عدد يزيد عن مئة وحدة سكنية. ثم أُخليَ من البيت الذي لجأ إليه برفقة عائلته. كانت اللحظات الأكثر قسوة على سامر (اسم مستعار)، ليلة أصيب والده بجلطة دماغية مفاجأة، في الليلة الأعنف من الحرب. سامر له صديقان مقربان قتلهم القصف. وبعد كل ما حدث، يرى أن أكثر ما يخافه المرء، هو ألّا تعود الحياة إلى مربّعها الأول.
صحيح أن كثير من الأشياء غدت مشوّهة، على نحو لا مردّ لإصلاحه، لكنّ المصيبة الأكبر هي أن تبقى آثار الحرب الفاجعة كما هي. وأن تفاصيل الحرب التي نتجت سوف تبقى وتتجلّى في المرحلة القادمة، بعدما تحوّلت من النطاق الجمعي إلى المساحة الفرديّة، إلى نطاق الحياة الصغيرة، باعتبارها كيانًا شخصيًا يجب أن نعيشه على أحسن ما يكون، في أي مكان وأي زمان، وألا تكون الحرب ظرفًا طارئًا عليه أن يزول، حيث الصدمة الأولى لا زالت مكانها، وما تبعها من حزن غريب وخوف وتوتر.
البقاء، هكذا يقول سامر، يشبه إلى حد كبير البقاء داخل قبوٍ تنصب النيران في جوفه.
في الرسائل المتأخرة التي وصلت، يشير الناجين من المجزرة الإسرائيلية الكبيرة التي ترتكب على مدار أسبوعين، إلى إمكانية وصول تلك الرسائل متأخرة، ويذكرون المناطق التي وصلوا إليها نازحين. يوصون بمتابعة إرسال الأخبار المهمة أولاً بأول لانقطاعهم عن العالم، لا بل عن الأحياء المجاورة، ويقولون إن “أنباءً عن هدنة إنسانية يوم غد”. ليس من المعروف تماماً أي غدٍ كانوا يقصدون، ولكن المؤكد أن الأماني تختلط بالتوقعات، وأن الحرب، لا بد لها أن تتوقف.
عبر الشبكات الاجتماعية ذاتها، تزداد حالة الهرج والمرج في صندوق الرسائل بالأشقاء والأصدقاء والزملاء من كل دول العالم – وكذلك أبناء غزة المغتربون، الذين هجّرتهم صعوبة الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في المدينة. ندور حول أنفسنا في متاهات افتراضية. بالنسبة لي، رغم حالة القلق المسيطرة على كل لحظة، كانت تلك الشبكات النافذة التي تؤكد أننا لسنا محبوسين داخل أنفسنا، كتظاهرة شعبية افتراضية تمتد في كل الأقطار. لكن العجز سمةً أساسية في الوجه الآخر من كل هذا الدعم التضامني، يصيب مبدئيًا القدرة على الشعور.
وعلى ذات الشبكات، اختفت منشورات الأصدقاء من غزة تدريجيًا، بسبب التشويش الإسرائيلي على الاتصالات والانترنت، وكذلك السياسات العنصرية التي تمارسها الشبكات الأكثر انتشاراً في الأوساط ضد كل ما هو فلسطيني، أو ببساطة لأن هؤلاء قد ماتوا. مع توالي شدة القصف، بدأت الأخبار الميدانية تصل باقتضاب وغموض كبيرين. نعرف أن قصفاً وقع في المنطقة الفلانية، ولكن لا ندري من مات ومن عاش نتيجة تلك الانفجارات.. هزت الانفجارات قلوب الناس الذين نشروا وصاياهم وكلماتهم الأخيرة عبر صفحاتهم الشخصية قبل انقطاع الاتصالات والانترنت. يطلبون الدعاء والحديث عنهم لوقف الظلم الذي يعانون منه. نسيج غير متناهٍ من الأصدقاء والأقران والأهالي في غزة ينعون بعضهم البعض، ففي كل بيت مصاب وحزن وفي كل نفس فقد وكرب.
التشويش الإسرائيلي لم يقتصر على عمل شبكات الاتصالات والانترنت فحسب، بل استهدف كذلك موجات البث الإذاعي المحلية في غزة، والتي توقف عملها أو اقتصر على بث الأغاني الوطنية والأناشيد الحماسية. في جولات التصعيد السابقة، كان المذياع الذي يعمل بالبطاريات الجافة الصغيرة، مصدر الأخبار الوحيد بالنسبة للناس في ذروة انهيار الخدمات نتيجة العدوان.
الصورة الأصلية: Mohammad Saber
انفجار طنجرة الضغط
نتيجة 16 عامًا من الحصار، كان ربع مليون فلسطيني قد غادر من غزة كنتيجة لتدهور الظروف الإنسانية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية. مثلهم كذلك من العاطلين عن العمل، يقضون بالعادة أوقات فراغهم الطويلة في الجلوس للتنفيس عن بعضهم البعض بأي من الأنشطة اليومية البسيطة، بسبب المأزق الذي تصل إليه الأمور- دومًاـ بعد كل جولة قتال بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل، كالمشي في شوارع حي الرمال، مركز مدينة غزة التجاري، أو الجلوس للعب الورق على كورنيش البحر وعتبات الحارات ونواصي الميادين العامة، حتى أن السمة العامة لحياة السكان باتت في المستوى العادي، مملوءة بالمعاناة كجزء لا يتجزأ من حياة من بات يُطلق عليهم الآن “مهجري غزة”، بعد أن شرّدتهم إسرائيل من منازلهم.
كان الحصار كلعبة تمارسها إسرائيل في محاولة للسيطرة على عقول وأجساد مليوني فلسطيني في غزة. طيلة سنوات الاحتلال الطويلة، فعلت كل ما يلزم لزرع صورة بيت العفاريت في أذهان الغزاويين. صنعت إسرائيل أكبر سجن مفتوح في العالم في غزة، مارست داخله تجاربًا لا تعد ولا تحصى على جديد إنتاجاتها الصناعية من الأسلحة، لتسويقها فيما بعد في السوق العالمي للأسلحة باعتبارها “مُجرّبة وذات فعالية على الأرض”.
بكل الأحوال هم عالقون في عدد محصور من الشوارع لا يعرفون إلى أين يذهبون وكيف سيذهبون لصعوبة المواصلات، أو في مراكز إيواء نازحي الحرب في مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين جنوبي غزة، والتي كانت غير مجهزة بفراش للنوم أو شرشف قطني يقي أجساد الأطفال والنساء والمسنين برد الليل الخريفي، القادم من صحراء سيناء المجاورة.
لا زال من غير المعلوم على وجه التحديد ماذا يحل بالناس هناك وما هو مصيرهم كما يرسمه الرؤساء، وكذلك ليس من المعروف الهيئة التي تلقوا بها كل تلك الأهوال، ماذا يشعرون، ماذا يفكرون، هل يشعرون مثلنا بالقلق؟ الإجابة الشارحة نجدها في الجريمة التي باتت الشيء العلني والصريح الذي يحرك قادة العالم الداعمين لإسرائيل. الصور الواصلة من غزة تمنح نبذة عامة عن هول الجحيم الذي تحاول إسرائيل فيه تركيز أدائها لمحو الإذلال الذي تعرض له جيشها وتهتك بنيته.
على مدار سنوات الاحتلال الـ 75، مثّلت غزة، انفصالًا حادًا في المكان، ما إن غادرتها مرة، حتى تكشّف لك مدى الالتحام الذي تعيشه كفلسطيني يعيش “قضية القضايا” ولا يستطيع هجرانها، في ما يؤسس لمعجزة تفسر وحدها كيف ظل الفلسطيني صامدًا في وجه الحصار. من جهتها، اعتادت غزة على المساحات الصغيرة، كانت تكتظ باللاجئين الفلسطينيين، الذين وُلدت قضيتهم الكبرى قبل أن يُولد غالبيتهم، ووُلد معهم حب المقاومة بكل السُبل الممكنة والمستحيلة. لذلك، تقف غزة الآن كعزوة وسند لسكانها أكبر من أي وقت مضى، بسبب الإبادة التي تعرضت لها بنيتها الحيوية والحضرية والتشريد القسري لأهلها، التي تدفع الناس للنزوح والإخلاء من ناحية، لكن في الوقت نفسه تخلق تلك الإبادة دافعًا قويًا للبقاء في أرضهم.
