قامت أنديرا ذات الجسد الضخم من مقعدها وظهر أن مريولها ملطخ بالدماء. خفنا، نحن البنات في الصف وأصيبت المعلمة بالحرج وبدأت الوتوتة والتوتر إلى أن جاءت أمي، كانت مديرة مدرستي آنذاك، وجمعت الصفوف وتحدثت عن الدورة الشهرية. قالت إن أنديرا، التي كانت غارقة في عارها بين الضحكات المكتومة والنظرات التي يقفز الفضول منها، انتقلت اليوم من كونها طفلة لتصير صبية وتبدأ مشواراً ستدركه الأخريات قريبًا. فجأة بدت بقعة الدم على مريول أنديرا نيشانًا لا نملكه نحن.
انتظرت طويلًا بعد هذه الحادثة لأنال النيشان، نفد صبري وصبر أمي وأنا أسألها متى؟ متى؟ كنت أتوق أن أصير صبية وأن أبدأ ما لا أعرفه. منذ تلك الحادثة وأنا أنتظر دليلي الشهري بشوق وفارغ صبر.
عزلة المراهقة وشكوك الشباب
كان الزمن يمر على جسدي كل شهر بمثابة دليل على ارتباطي بالكون. بحكم عمل والدي عشت في بلد غريب بمعارف قليلة وبلا صداقات في مراهقتي. كان الزمن يتوقف هناك، كان الزمن لا يمر أو ربما لا براهين على مروره. ومثل سجين كنت أحتاج أن أعرف أن الزمن يتحرك، وكان مرور القمر على جسدي خط أرسمه كل شهر على حائط الملل ليقربني يومًا آخر من الحياة التي أتخيلها.
كان القمر هو المتغير الوحيد في حياتي الرتيبة. لجأت إلى خيالي لأنجو، بدأت العمل كحكواتية وصانعة أفلام لجمهور من شخص واحد هو ذاتي المراهقة. كانت أفلامي لتكون أكثر مللًا من حياتي لو لم تكن هرموناتي تقوم بألعابها النارية في جسدي. لم أكن واسعة المعرفة بأي شيء فاضطررت للتركيز على التفاصيل في حكاياتي وأفلامي، أفلامي خصوصًا. حين يسود الظلام فجأة في قاعة العرض تحت لحافي، وتبدأ القصة بكمٍ شحيح بدرجة محزنة من الوجوه والأجساد التي يمكنها أن تلعب دورًا في فيلمي.
استخدمت ممثلي المسلسلات المعدودة على الأصابع حينها، استخدمت تفاصيل حياتية من الوجوه النادرة للمراهقين أو الرجال الذين أراهم في الشارع في طريقي المحروس إلى المدرسة. كان الممثلون والمراهقون في الشارع أبطال أفلامي وكنت البطلة الوحيدة فيها. كنت أبدأ ببطء شديد، أغرق في لقطة واحدة مقرّبة ثم أنعس وأغفو قبل أن أصل الذروة. لم أعرف ما الذي يحدث في الذروة. كنت أعلم أن هناك ما هو لذيذ وحارق وصاعق فيها وكان هذا يكفي خيالي الذي يصبّر جسدي على الغربة والوحدة والشحّ.
حكم الفضول والشك علاقتي بجسدي في شبابي، لم أفهم المهرجانات والمآتم التي كان يجرني إليها عمياء. الأقمار تمر من جسدي وتفتح شوالات من الأسئلة.. أهناك أنا بعد طرح الهرمونات والجينات من مجموعي الكلي؟ أم أن “أنا” هي هذه التوليفة من هرموناتي وجيناتي؟ كم ستحتاج البشرية ليتغير جيل الآباء الذي لا يعجبنا إلى الجيل الذي يمثل ما كنا نحلم به، إن كانت كل هذه التوليفات هي “تعديلات” على الجنس البشري لا “طفرات”.
الإرادة والمنطق والصدق، والشك بالحدود بينها كان الأسئلة التي تتوالد وتتكاثر في عقلي دون أن أصل إلى إجابة أو خلاصة. كانت الرغبة تخلقني وتلغيني كل شهر، كل شهر بلا رحمة، كنت عمياء وكان جسدي كلبي الحكيم أحيانًا، وكلب غريب شرس ينهش روحي أحيانًا أخرى.
الأقمار تمر من جسدي وتفتح شوالات من الأسئلة.. أهناك أنا بعد طرح الهرمونات والجينات من مجموعي الكلي؟ أم أن “أنا” هي هذه التوليفة من هرموناتي وجيناتي؟
جميعنا يراوح بين ماهو إياه وما يود أن يكونه. عشرينياتنا وربما ثلاثينياتنا مشغولة بهذا الصراع الأزلي بين الأنموذج والواقع. وبينما كان دماغي يسمح بألاعيب وروايات وفجوات تجنبني المواجهة مع لا أحب من نفسي، لم يتوقف جسدي عن وضعي على كل خطوط النار، بيني وبيني، بيني والآخرين، في حميمية التفاصيل كما في عموميتها.
كل ما يمثلني كشخص وكل ما كنت أظنه مهمًا لي وكل قيمي كان يوضع على المحك، ولاء جسدي كان جنديي البسيط المخلص في حرب ضروس. كان ولاءًا للآخر لا لنفسي ولذا صمد سنوات طويلة. لكن، كان هناك أيضًا تمرد جسدي المرتبط بقسوة بدورة القمر، هذا التمرد كان ولاءه لي لا لأحد سواي. كنت أتعرّف إليّ يومًا بيوم. في تلك الأيام من كل شهر كنت ألتقي نفسي كصديقة غالية ظهرت فجأة بعد غياب. صديقة توبخني على ما وصلت إليه من مسالمة ومسايرة وولاء لغيري. ترمي أسئلتها في وجهي عن معنى السعادة، عن معنى وقيمة الولاء الجسدي لآخر إن كان طوق نجاتك من رغباتك وفضولك وشكك.
كانت هذه المواجهات بلا مهادنة وكنت أتغيّر. لم أفهم كيف أتغيّر، بدأت بوضع علامات على الروزنامة في أيام محددة، أردت أن أفهم هذا الذي يضعني في مصاف الآلهة عدة أيام ثم يمرغني في وحل الإنهاك. أسئلتي هي ذاتها أسئلة الرجال والنساء منذ بدء الخليقة، لكني أزعم أن النساء يملكن هذا البساط السحري الذي يرفعهن ولو لهنيهة عن الأرض، يريهن حيواتهن من عين طائر ويفقأ فقاعات الأكاذيب والأوهام التي نرسمها حولنا ليمكننا الدفاع عن قراراتنا وأحلامنا وأخطائنا.
أسئلتي هي ذاتها أسئلة الرجال والنساء منذ بدء الخليقة، لكني أزعم أن النساء يملكن هذا البساط السحري الذي يرفعهن ولو لهنيهة عن الأرض، يريهن حيواتهن من عين طائر ويفقأ فقاعات الأكاذيب والأوهام التي نرسمها حولنا ليمكننا الدفاع عن قراراتنا وأحلامنا وأخطائنا
سنوات حملي وولادتي وإرضاعي لولديّ كنّ سلسلة مهرجانات في جسدي وروحي وعقلي، عوضتني عن رتابة مراهقتي والشكوك في شبابي. التغيرات العظيمة التي كانت تتم يومًا بيوم وجدّة كل شيء كانا مصدر سلم وسعادة لم يكن لشيء أن يعكرها، ولأني أعرف ذاكرتي الضعيفة كتبت كل ما أردت أن أتذكره إلى الأبد.
لم يربطني بتسلق الجبال سوى الأمل
أصعدُ جرف بريكستولن (Pulpit Rock) السحيق غرب النرويج لأحتفل بعيدي الخمسين في 2018، على حافة تعلو الأرض تحتها بأكثر من 600 متر. رأيت صورة لهذا الجرف قبل ما يزيد عن عشرين عامًا حينها، كنت ما أزال في عمّان، ووقعت في هواه من النظرة الأولى. قررت أنني سأزور المكان المعروف بين محبي تسلق الجبال رغم أنني كنت أعيش في قارة أخرى، ولم يربطني بتسلق الجبال سوى الأمل بأن أقوم بهذه الزيارة يومًا ما. صعدت الطريق الملتوية الوعرة فخورة بعضلاتي التي ساعدتني على قطع المسافة بلياقة وزمن فأجآني.
كنت قد هاجرت وأنا في الخامسة والأربعين من عمري إلى مدينة صغيرة في شمال العالم. عشت حتى ذلك العمر بالحد الأدنى من النشاط البدني، لم أكن من هواة الجيم والرياضات ولا حتى القليل منها. فجأة وجدت نفسي مطالبة بجهد بدني كان، بالنسبة لي، خارقًا. مع ولدين في بداية مراهقتهما، ودون وجود سيارة لم يكن ليحتملها وضعي المادي حينئذ، وبفضل التنقل بين الشقق التي قطناها وفك الأثاث وحمله، طوّر جسمي عضلات ليتمكن من إنجاز ما ألقي على كاهله، وما تتطلبه طبيعة حياتنا الجديدة.
بعد مدة، صار هذا المستوى من النشاط البدني جزءًا من روتين حياتنا اليومية، حيث أضطر لحمل مشترياتنا بين السوق والباص والبيت قاطعة كيلومترات عديدة محمّلة بحقائب وأكياس ثقيلة. كنت أيضًا أتنقل بين أماكن عملي في مدينتي الصغيرة والمدن الأخرى بمعدل مشي يومي يراوح الخمسة كيلومترات. لاحقًا اعتدت على الخروج كل مساء للمشي في الحقول القريبة مازاد مسافة مشيي اليومية. راقبت عضلاتي تنمو وتندّرت على الأمرـ لم أفكر من قبل بقيمة قوّة الجسد، لم تكن هذه ضمن ما أسعى إليه أو أعطيه أي قيمة.
كان الجسد مثقلًا بسياقات اجتماعية معينة، إضافة إلى متعلقاته من طبيعة الملابس والشعر، النظر إليه في إطاره الوظيفي كأداة للوجود، وبالطبع الإسقاطات الجنسية على الجسد في محيطه.
عشت انتقالًا فجائيًا بين سياقين، مكانين مختلفين فرضا عليّ زمانين مختلفين. كنت أعيشهما في نفس الوقت. في بداية هجرتي كنت أحمل معي جسدًا قديمًا عاش خمسًا وأربعين سنة بهوية، ثم اكتسب هوية أخرى، واضطر للتجدد بطريقة تناسب حاجات جديدة ومحيط آخر.
عشت انتقالًا فجائيًا بين سياقين، مكانين مختلفين فرضا عليّ زمانين مختلفين. كنت أعيشهما في نفس الوقت. في بداية هجرتي كنت أحمل معي جسدًا قديمًا عاش خمسًا وأربعين سنة بهوية، ثم اكتسب هوية أخرى، واضطر للتجدد بطريقة تناسب حاجات جديدة ومحيط آخر
فخورة بعضلاتي المستجدة، كنت لا أزال أحمل جسدي القديم بعاداته التي ظلّ كثير منها عصيًا على التغيّر. كان جسدي القديم ومزاجي القديم يجارياني أحيّانًا في سياقي الجديد، ويحردان أحيانّا.
بينما كنت أبدأ حياتي في الشمال، كانت الأحداث تأخذ أعنف أشكالها في بلاد عربية مختلفة. كانت الصعوبة أنني حاولت العيش في العالمين في آن، وكنت أجد منفذًا إلى عالمي الأول بالغوص حتى أعماق روحي، لكن ذلك لم يتركني بلا يأس، وكان غوصي ويأسي يظهران على السطح على صورة دموع كنت أفسر لأصدقائي المقربين أحيانًا أسبابها وأصمت أحيانًا كثيرة.
كان ذلك يحدث أحيانًا وسط احتفالات منتصف الصيف في مدينة صغيرة في أقصى شمال الدنيا، الناس سعداء ومشاكلهم تبدو سطحية واهتماماتهم تبدو ترفاً لا أستطيعه إن كنت صادقة مع نفسي. الصيف جميل والخًضرة مفترية وقلبي ثقيل ولا رغبة لي في التنفس. كيف يمكنني الاستمرار؟ كيف أمكنني؟
حين توقف القمر عن الفيض داخلي
الجسد يشيخ، جسدي أذكى مني. كان يحميني من تطرفي. دومًا كان يسوقني للاعتدال رغم مقاومة عقلي لذلك. حين كان القمر يفيض داخلي كل شهر ويأتيني الدم المسالم كنت أحس أنني أتوازن وأبدأ دورة جديدة من الحياة. لكن حين اختفى ذلك فجأة دون مقدمات سوى عدد سنوات عمري، لم أستوعبه. جسدي الذي كان يتجدد ويمنحني سعادة التجدد توقف عن ذلك فجأة دون أن يترك لي فرصة للتأقلم، لو كنت أستطيع التأقلم أصلًا مع هذا الغياب.
حاولت أن أفهم ما الذي سأمر به، فتشت عن معلومات وأدب وفنّ وأفلام وأي شيء يمكنه أن يمرّرني من هذا النفق بسلام، فوجئت بندرة كل شيء يتعلق بما تعيشه النساء في هذه المرحلة، مقارنة بعمر البشرية وملايين النساء اللواتي عشن آلاف السنين وجميعهن مررن بما أمر به الآن، لم يمكنني فهم الشحّ في كل شيء له صلة بالموضوع. نفس المفاجأة التي أصابتني أثناء حملي وولادتي وسنوات أمومتي الأولى حين لم أجد الكثير مما كان يمكنه إغناء روحي وإلهامي. تشوّش الذهن والانحدار الملحوظ في الطاقة وفقدان الرغبة في أي شيء والكثير الكثير الذي أمر به كل يوم ولا أعرف سببه؛ أهو التوتر في العمل أم غياب صلتي بدورة القمر أم كآبة تسلّلت بهدوء واحتلّتني.
فوجئت بندرة كل شيء يتعلق بما تعيشه النساء في هذه المرحلة، مقارنة بعمر البشرية وملايين النساء اللواتي عشن آلاف السنين وجميعهن مررن بما أمر به الآن، لم يمكنني فهم الشحّ في كل شيء له صلة بالموضوع
حين فرد صغيري جناحيه وطار إلى مدينته الجامعية، كنت قد هيأت نفسي لمرحلة مختلفة، خاصة وأنني مررت بالتجربة مع ابني البِكر الذي سبقه بسنتين الى بلد آخر. لكن كل مرة كان يدير ظهره كنت أحس تجويفاً في عُمق رحمي، كان فراغاً فيزيائياً لا عاطفياً محضاً. كل مرة يأتي صغيري ليقضي معي بضعة أيام ويغادر كان التجويف في عمقي يعود جلياً، كأنه خرج من رحمي للتوّ، في الخمسين من العمر أستعيد فراغ جسدي تماماً كما في صباه.
أخرج للمشي فوراً، أقطع مسافات هائلة طامعة في تحويش كم من أندروفين السعادة يمكنه تقليص الفجوة داخلي. أفكّر في المسافات التي قطعتها في حياتي، بين زمنين ومكانين وعالمين وحياتين وأقنع بسعادة تدوم لأي زمن، أفكّر في سعادات صغيرة مثل حجارة تعترض مجرى نهر جامح، أتقافز فوقها من حجر إلى آخر آملة أن أصل آخر النهار دون أن أغرق.