بقدر ما أثار هجوم السابع من أكتوبر على الاحتلال الإسرائيلي والعدوان الإسرائيلي الذي تلاه على قطاع غزة، من ردود فعل سياسية، توالت المقالات والبيانات من كبار الفلاسفة في العالم الغربي لتسجيل مواقفهم تجاه الحدث.
لطالما نُظر إلى الفلسفة بوصفها حقلاً نقدياً بحكم انشغاله وجودياً بسؤال الجوهر والمطلق، وميله وفق ذلك إلى تجاوز الوقائع المباشرة بحثاً عن الجذور والأصول، وانشغاله قيمياً من ناحية أخرى بحماية الحقيقة في صراع القوة والسلطة. لذلك كان صادماً إلى حد ما أن تأتي ردود أفعال بعض الفلاسفة متسقة مع التيار العام السياسي في العالم الغربي بتبرير الجريمة الإسرائيلية وشجب حق الشعب الفلسطيني في المقاومة، خاصة وأن الفلاسفة الثلاثة الأبرز الذين تبنوا طرحاً من هذا النوع ينتمون إلى التيارين النقديين الأهم في الفلسفة المعاصرة، ما بعد البنيوية والنظرية النقدية.
كان أول ردود الفعل الشاجبة والمتضامنة مع إسرائيل هو المقال الذي كتبه الفيلسوف اليساري سلافوي جيجك بعد أسبوع واحد من عملية السابع من أكتوبر وأكد فيه بعد إدانة هجمات حماس دون «لكن» أو «إذا» مثله مثل أي مذيع على فوكس نيوز، أن الخيار هو بين الأصوليين من الجانبين وأولئك الذين ما زالوا يؤمنون بإمكانية التعايش السلمي». عاد جيجك برأي يمكن وصفه بالأشمل، في افتتاح معرض فرانكفورت للكتاب، إذ أكد على «إدانة حماس» و«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها دون قيد أو شرط»، لكنه أكد كذلك أهمية الاستماع للطرف الفلسطيني. قوطعت الكلمة عدة مرات من قبل مدير المعرض، وهوجم جيجيك في الصحافة الألمانية التي وصفت كلامه بـ «الفضيحة».
أما الرد التالي فقد استغرق شهراً وجاء من الفيلسوفة النسوية شيلا بن حبيب التي رفضت تضامن زملائها من أساتذة الفلسفة في الجامعات الأمريكية مع القضية الفلسطينية، وانطلقت في مقالها من رفض رؤية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من عدسة الاستعمار الاستيطاني «وحده»، على أساس أن الاستعمار الاستيطاني يمكن غض الطرف عنه لاعتبارات أخرى من وجهة نظر الفيلسوفة الأمريكية ذات الأصول التركية.
أما البيان الثالث فقد أصدره فيلسوف العقلانية الألماني يورجن هابرماس إلى جانب عدد من تلامذته، وركز البيان على تبرير التضامن مع إسرائيل واليهود، عبر تأكيد «شرعية الانتقام» الإسرائيلي أولاً، وأن الجريمة الإسرائيلية مهما بلغ حجمها فلا يجوز وصفها بأنها «إبادة عرقية» وكأن رفع هذا الوصف عن الجريمة يجعلها دون مستوى بشاعة الإبادة.
ينتمي الفلاسفة الثلاثة كما ذكرنا إلى التيارين النقديين الأساسيين في الفلسفة المعاصرة، وهما التياران اللذان تطورا في البلدين الأوروبيين الجارين: ألمانيا وفرنسا، قبل أن ينتقلا منهما في سياقات مختلفة إلى العالم الأنجلوساكسوني (إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية). سلافوي جيجك هو ابن ما بعد البنيوية البار، ولا يمثّل عمله الفلسفي الأول والوحيد «الموضوع المتعالي للأيديولوجيا» سوى امتداد للتقليد الفلسفي الذي أرساه الثنائي جاك لاكان ولويس ألتوسير بين جيل من فلاسفة اليسار الجديد كان جيجك هو أحدهم.
أما هابرماس فهو عميد الجيل التالي للنظرية النقدية الألمانية التي أسسها أساتذة معهد فرانكفورت للأبحاث الاجتماعية، والموقعون على بيان هابرماس كراينر فورست هم من تلامذته، وكذلك الحال بالنسبة لشيلا بن حبيب التي تمثل الجيل الثالث من النظرية النقدية، وهو الجيل الذي استقى أسسه الفلسفية النقدية من أعمال هابرماس.
مثلت تلك المعركة محطة اختبار مهمة لتلك التقاليد والأنساق الفلسفية النقدية وقدرتها على الاشتباك مع الصراعات الفعلية واتخاذ انحيازات سليمة على الأقل، فضلاً عن الانخراط في النضال ضد أشكال الجور والقوى والمصالح الراعية له. تختلف تلك المحطة عن أي إدعاءات سهلة لتلك التيارات، فإذا كان هابرماس مثلا قد شارك جاك دريدا موقفاً رافضاً للحرب على العراق، فقد كان ذلك مساوقاً لمواقف حكومات بلديهما، ألمانيا وفرنسا. وإذا كان جيجك يقدم نفسه ناقداً للرأسمالية العالمية، فإن المسألة هذه المرة تتعلق بالاشتباك مع تلك الرأسمالية العالمية في معاركها الأخطر المعبّأة برمزيات كثيفة كالحالة الفلسطينية، والأمر نفسه يقال عن شيلا بن حبيب المنحازة للنسوية الليبرالية في واقع يدعم هذا الشكل من النسوية في الحقيقة.
لذلك، وعلى الرغم من أن مواقف هؤلاء الفلاسفة كانت صادمة إلى حد ما، إلا أنها لم تكن غير متوقعة، فعلى هذا المحك، تظهر الإشكاليات النقدية المتعلقة بأشكال المقاومة التي يدعمها هؤلاء الفلاسفة لهذا النظام القائم، وهل هي مقاومة جذرية أم مجرد أشكال يستوعبها هذا النظام ويقبل بها من داخله، وتظهر حقيقة دعاوى الكونية، إذ هل يرفض هؤلاء الفلاسفة الرأسمالية العالمية (جيجك) أو «استعمار عالم الحياة» (هابرماس وبن حبيب) على صعيد كوني، أم أنهم في الحقيقة يرفضونه في نطاق العالم الغربي، بينما لا يختلفون في نظرتهم إلى الصراعات الفعلية في الجنوب عن أي مستشرق كان يرى دوره هو إرشاد وترشيد الاستعمار لا مقاومته.
من المهم بالتأكيد نقاش ما كتبه الفلاسفة الثلاثة عن القضية الفلسطينية والمنطلقات النظرية التي انتهت بهم إلى موقف يفتقد أي حساسية نقدية تجاه القضية، لكن ما نحتاجه ونحاوله هنا هو ألا نقف عند هذا الحد، وأن نطرح السؤال حول الأنساق الفلسفية للثلاثة، وما إذا كانت تنطوي على أعطاب من شأنها أن تقود أصحابها إلى مواقف يمينية من هذا النوع.
غض الطرف عن الاستعمار الاستيطاني
ينطلق الفلاسفة الثلاثة من غض الطرف عن واقعة الاستعمار الاستيطاني في إسرائيل، وتقول بن حبيب تحديداً إنها ترفض النظر إلى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي «بعدسة الاستعمار الاستيطاني وحدها»، وبوسع المرء أن يتساءل عن موقع “وحدها” في هذه العبارة، فهل يمكن غض الطرف عن الاستعمار الاستيطاني حال كان إلى جانبه أبعاد أخرى، وهل يمكن أن يقول ذلك فيلسوف يدعي أي انتماء تحرري أو حتى إنساني كوني؟
أما هابرماس وجيجك فلا يهتمان أصلاً بالإشارة إلى النقاش حول الموضوع، وبذلك تصبح المسألة كما يصورها ثلاثتهم مجرد صراع إثني بين شعبين جمعهما القدر التاريخي والجغرافي في الأراضي المقدسة، وتصبح الصراعات بينهما مجرد أشكال مرضية نابعة من غياب التسوية «العقلانية» وتغيب الإرادة الحازمة للعيش السلمي المشترك.
يلغي هذا التصور تاريخاً من الاستيطان الصهيوني في الأراضي الفلسطيني تحت رعاية استعمارية بريطانية لم تكن سراً، ومحاولة إحلال شعب من المستوطنين محل السكان الأصليين من العرب الفلسطينيين بما تنطوي عليه تلك المحاولة بالضرورة من نزعات إبادية وتطهيرية تكللت بإبادة وتهجير مئات الآلاف من السكان العرب من الأراضي الفلسطينية التي استولت عليها العصابات الصهيونية سنة 1948.
من هنا يتمسك الثلاثة بمقولة حق إسرائيل في الوجود وحق الشعب اليهودي في الدولة، وتؤكد بن حبيب تحديداً أن الصهيونية هي حركة قومية وليست عنصرية، لا تختلف في شيء بحسبها عن القومية العربية الفلسطينية، دون أن تمتلك الفيلسوفة أدنى تمييز بين قومية تقوم على إحلال شعب محل آخر على أساس استحقاق حضاري أو ديني لا يمكن النظر إليه رغماً عن الفيلسوفة إلا بوصفه ضرباً من العنصرية، وقومية قامت على تحرير شعب رازح تحت الاستعمار الاستيطاني ومحاولته العودة إلى أراضيه حتى يتمكن من تقرير مصيره.
تسقط بن حبيب تحديداً في موقف عنصري عندما تُمعن في مغالطاتها التاريخية بغرض تطويب الاستعمار الصهيوني، فتزعم مغالطة أن قادة إسرائيل ومن بينهم بن جوريون توسلوا إعادة الأراضي المحتلة سنة 1967 خوفاً من أن دمج سكانها العرب في إسرائيل سيؤثر على طبيعة إسرائيل «اليهودية» و«الديمقراطية».
لا تشعر بن حبيب بأي غضاضة وهي الأستاذ الجامعية في تدليس التاريخ متناسية أن أول قانون أصدرته إسرائيل بعد احتلال 1967 كان ضم القدس الشرقية، وهو القرار الذي رفضه مجلس الأمن الدولي مراراً، ومن العجيب أن يكون مجلس الأمن الخاضع لمصالح القوى العالمية الكبرى أكثر نقدية من بن حبيب. ثم لا تلقي بن حبيب أي تعليق عن اعتبار العرب تهديداً لديمقراطية إسرائيل، وهو موقف عنصري خالص، ولا تعلق كذلك على «يهودية» الدولة الإسرائيلية وما تحمله من تبعات عنصرية.
يفتقد هابرماس بدوره أي حس نقدي تجاه فكرة إسرائيل نفسها، ولا ينتبه إلى الجذور النازية لفكرة إسرائيل كحل للمسألة اليهودية يقوم على نفي اليهود من أوروبا وحشرهم في دولة بعيدة عنها جغرافياً وتلعب دوراً نشيطاً في طموحها الاستعماري. ينطوي موقف هابرماس كذلك على خطر تبني نازية مقلوبة، فعوضاً عن شيطنة اليهود، يجري تطويبهم، بحيث لا يحتمل هابرماس وتلاميذه نسبة جريمة الإبادة إلى الشعب الإسرائيلي اليهودي، وفي الحالتين يظهر اليهودي كأنه جوهر خارج التاريخ وليس إنساناً من لحم ودم، ويتضاعف خطر النازية المقلوبة مع استبعاد العرب الفلسطينيين من مبدأ الكرامة الإنسانية الذي يؤسس عليه الفيسلوف وتلامذته تضامنهم مع إسرائيل، بحيث يحل الفلسطينيين في هذه النازية المقلوبة محل اليهود.
ينتهي جيجك وبن حبيب بعد غض الطرف عن الاستعمار الاستيطاني إلى حجب مفهوم «المقاومة» بالكلية، وافتراض الصراع نوعاً من صراع ديني أو قومي بلا جذور استعمارية، يؤججه المتطرفون من الجهتين، ويبحث عن معتدلين لحله من الجهتين، ولكن حتى عند هذه النقطة فإن العنصرية اليمينية الكامنة لدى الفيلسوفين لا تستيطع مواراة ذيولها، فكلاهما يؤكد إدانة حماس وخطورة انتصارها، لكنهما لا يوجهان الإدانة نفسها ولا يحذرانا من خطورة إنتصار المتطرفين اليهود، والسؤال المطروح هنا على كليهما هو: هل علينا أن نخشى من انتصار متطرفي العرب أكثر مما نخشى انتصار متطرفي اليهود لأن حياة اليهود أهم؟ أو لأن العرب بطبيعتهم أكثر تطرفا وخطورة؟ ألا يجب أن نضع في اعتبارنا أن انتصار متطرفي إسرائيل يقود إلى إبادة وتهجير مئات الآلاف بينما لن يقود انتصار متطرفي العرب على الأرجح إلى أي جرائم من هذا المستوى؟ يجب أن يجيبنا الفيلسوفان.
هابرماس: التواصل الممتثِل
تمثل فلسفة يورجن هابرماس كما هو معروف امتداداً للنظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت التي بدأت مع ثلاثة أساتذة للفلسفة الاجتماعية بالأساس وهم ماكس هوركهايمر الذي طرح شعار النظرية النقدية في خطابه المؤسس للمدرسة «النظرية النقدية والنظرية التقليدية»، ومعه رفيق دربه توماس أدورنو الذي أخرج معه أهم أعمال المدرسة الفلسفية وهو كتاب «جدل التنوير»، وأخيراً هربرت ماركوز أبرز أسماء المدرسة وهو من لعب دوراً كبيراً في انتقالها خارج ألمانيا وانتشارها في الجامعات الأمريكية على وجه الخصوص.
انطلقت مدرسة فرانكفورت على خلفية انحياز الجماهير الألمانية للقوى السلطوية مرتين، مرة في نوفمبر 1919 والثانية في الانتخابات التي قادت إلى صعود الحزب النازي عام 1933، وكان السؤال إذن ليس عن الأسباب المادية لصعود القوى السلطوية وإنما عن الأسباب الثقافية لانحياز الجماهير إليها.
كان المطلوب لذلك نظرية نقدية لا تقوم بوصف الأوضاع القائمة كما تحاول النظرية الوضعية الرائجة آنذاك في العلوم الاجتماعية، وإنما تقوم بنقد الوضع القائم على أساس جدلي (ومن هنا كانت العودة إلى هيجل في أعمال ماركوز المبكرة).
أجابت النظرية النقدية على سؤالها المؤسس باستشراء العقلانية الأداتية instrumental rationality بين الجماهير التي تسائل الأدوات والوسائل دون أن تسائل الغايات، ما عطّل الوظيفة النقدية للعقلانية البشرية أو قدرة العقل البشري على السلب بالتعبير الهيجلي وجعلت العقل الإنساني عقلاً لا يمكنه تجاوز الواقع القائم أمامه خالقة الإنسان ذو البعد الواحد.
نبعت العقلانية الأداتية بحسب النظرية النقدية من نزوع التنوير إلى تحطيم الأنساق الميتافيزيقية وإحلال العلوم الوضعية التي تمتاز بعماها القيمي محلها. ولعبت التكنولوجيا الحديثة دورها في ترسيخ تلك العقلانية الأداتية التي مكنت الحضارة البشرية من امتلاك قدرات هائلة على السيطرة والتحكم دون أن يتطور إلى جانبها نزوع نقدي يوقف تلك القدرات عند حدها.
حمل هابرماس هم السؤال النقدي نفسه عن أسباب خضوع الجماهير للسلطوية وافتقاد الإنسان الحديث للعقلانية النقدية واستسلامه للأداتية، لكن هابرماس رأى أن علاج تلك المشكلة لا يمكن أن يكون من خلال رفض التنوير أو الحداثة، وإنما من خلال البحث عن عقلانية معيارية normative rationality تخلق القيم وتسائل الغايات في ضوئها، وقد ارتأى هابرماس أن تلك العقلانية المعيارية لا يمكن أن تتأسس عبر ثنائية الذات والموضوع (الذات التي تعرف الموضوع أو تسيطر عليه وبالتالي تنشغل بالأداة أو الوسيلة لا بالغاية، ويطلق هابرماس على ذلك فلسفة الوعي philosophy of consciousness)، وإنما لا بد لتأسيسها من فعل تواصلي communicative action بين الذوات يقوم على دعاوى الصلاحية validity claims (ادعاء أن فكرتي أو حجتي صالحة على أساس معايير مشتركة يخلقها التواصل وتمثل الأرضية المشتركة الضروري لتحقيقه).
ما يعطل الفعل التواصلي الذي يقوم بإعادة الإنتاج الرمزي للمجتمع (إعادة إنتاج التماسك الاجتماعي ضمن إطار ثقافي رمزي، أو المنظومة التي يسميها هابرماس عالم الحياة lifeworld) هو استعمار عالم الحياة colonization of lifeworld من قبل آليات النظام (السلطة والثروة وأداتهما، الإعلام الموجه steering media).
إلى هنا، يظل هابرماس محافظاً على النزعة النقدية لفلسفته الاجتماعية، لكن الإشكالية تقع عندما ينتقل هابرماس إلى الفلسفة السياسية ليخبرنا عن كيف يمكن أن نواجه استعمار عالم الحياة، فعند تلك النقطة يسلّم هابرماس بشكل كامل تقريباً بالمنظومة الديمقراطية الليبرالية (وفق مبدأ الأصالة المشتركة co-originality للسيادة الشعبية وحكم القانون) القائمة باعتبارها منظومة تتضمن مجالاً عاماً غير رسمي يمكن في إطاره ممارسة الفعل التواصلي وإعادة إنتاج عالم الحياة في ظل الحماية الوارفة التي يضفيها القانون (الحقوق الليبرالية) على الفرد ليحظى بالوضع المثالي للتواصل في المجال العام ليعود التواصل ليعبر عن نفسه عبر الديمقراطية البرلمانية (نظرية الديمقراطية ذات المسارين two-track democracy: البرلمان والمجال العام).
لا يبدي هابرماس في الواقع أي مقاومة لقدرة منظومة الثروة (الرأسمالية) على السيطرة الاقتصادية والإعلامية على الذوات وتواصلها، وصولاً إلى السيطرة على العملية الديمقراطية نفسها بشكل يلغي فعالية الديمقراطية. تتناقض نظرية هابرماس السياسية عند هذه النقطة تماماً مع أطروحته في مطلع السبعينات عن أزمة الشرعية وغيرها من أشكال الأزمات في الرأسمالية المدارة من قبل الدولة.
يتحول هابرماس في فلسفته السياسية من كونه امتداداً للنظرية النقدية إلى كونه امتداداً لليبرالية الألمانية من لدن ماكس فيبر وهانز كلسن وهيرمان هيلر الذي يفتقد هابرماس حتى لحساسيته النقدية تجاه السلطوية الليبرالية التي تستخدم الأدوات القانونية لحجب التأثير الديمقراطي، وهي الليبرالية التي تفتقد أي حساسية تجاه المسألة الاقتصادية والاجتماعية للطبقات الشعبية التي كانت سبباً في صعود النازية، ولم تمتلك تلك الليبرالية في مواجهة النازية إلا مرافعات عن الدستور وحكم القانون.
أما على مستوى السياسة الدولية، فقد واصل هابرماس حلم هانز كلسن بتأسيس مرجعية قانونية دولية تتعالى على السيادات الشعبية في الدول القومية، ولم يظهر هابرماس بهذا الصدد أيضاً حساسية نظرية تجاه أشكال الاستغلال الاقتصادي والإخضاع الاستعماري على صعيد عالمي.
في ضوء هذا الضعف في فلسفته السياسية، أصبحت فلسفة هابرماس الاجتماعية برمتها معرضة للتحول من فلسفة نقدية إلى فلسفة امتثالية تفترض أن التواصل البرجوازي في الديمقراطية الليبرالية سيكون حراً بما يكفي وقادراً وحده على تحقيق العدالة دون مقاومة لأشكال الاستغلال والهيمنة المالية والإعلامية.
جيجك: رغبة بلا بوصلة
جيجك هو أحد فلاسفة اليسار الجديد الذي تشكل على أساس التقليد البنيوي في النقد الفلسفي، وهو التقليد الذي يقوم على نفي مركزية الذات/الوعي/العقل ليس لصالح تواصل بين ذاتي على غرار الهابرماسية وإنما لصالح اكتشاف البُنى التي تنتج الذات ووهم الوعي، سواء كانت البنية النفسية (جاك لاكان) أو البنية التاريخية (ألتوسير) أو البنية المعرفية (ميشيل فوكو).
اختلفت مع ذلك أغراض المفكرين الثلاثة من رؤاهم البنيوية، ففوكو كان يسعى إلى اكتشاف البنى المعرفية السلطوية التي تسيطر على الذات وتمنعها من العيش بأصالة، أما ألتوسير ولاكان فيمثلان نموذجاً مختلفاً كما يقول جيجك في مقدمة عمله الفلسفي «الموضوع المتعالي للأيديولوجيا».
كان ألتوسير يهدف إلى نقض الاتجاه إلى اعتبار الاشتراكية الماركسية حلماً إنسانياً رؤيوياً وإعادة تأسيس الفلسفة الماركسية بعيداً عن إفقارها السوفيتي، فقد اعتبر ألتوسير التاريخ عملية بلا ذات، يجري تحديدها تحديداً فائقاً overdetermination من قبل البُنى الاجتماعية مع بقاء التحديد في التحليل الأخير بيد البنية الاقتصادية، وتنشأ الذات كأثر أيديولوجي للعملية التاريخية، وليس كصانعة لها.
أما لاكان، فرغم اتفاقه مع ألتوسير بنظر جيجك في نفي الذات عن المركز، إلا أنه يرفض هذا الاستلاب الكامل للذات، وإنما يعتبرها جزءاً ضرورياً في اشتغال البنية نفسها لا مجرد أثر لها، فهي الفضاء الذي يجري فيه خلق بنية رمزية (بتبسيط قد يكون مخلّاً: الثقافة) من جهة، وهي المجال أيضاً الذي تنشأ فيه الرغبة التي تتمرد على هذه البنية الرمزية، والرغبة هنا أيضاً بكثير من التبسيط هي سعي الذات إلى تشكيل نفسها في صورة تشكّلها في علاقة مع الآخر (يستخدم لاكان جدل السيد والعبد عند هيجل، حيث الوعي الذاتي يصارع الآخر من أجل نيل اعتراف هذا الآخر بسيادته عليه).
يعيد جيجك قراءة هيجل بحيث تغدو الفكرة المطلقة عند هيجل بمثابة البنية أو «الرمزي» (symbolic) في مفاهيم لاكان، أما التطور الأهم عند جيجك فهو إعادة قراءة فلسفة الطبيعة عند هيجل فالطبيعة بما هي تحرير الفكرة المطلقة من الذات (الروح spirit في فلسفة هيجل)، وتوازي عند لاكان «الواقعي» (real)، أي تلك الرغبة الكامنة في البنية النفسية التي لا تخضع للبنية أو لعملية الترميز أو للروح، وهذا الطبيعي/الواقعي هو ما يمثل نواة دائمة للتمرد حتى على الأيديولوجيا التي ليست سوى محاولة للهروب من هذه النواة العصية على الترميز الأيديولوجي.
هكذا يتمكن جيجك بالفعل من تجنب البنيوية الصارمة التي تلغي الذات (تحولها لمجرد أثر/أداة للبنية) دون أن يسقط فيما بعد البنيوية التي تلغي أي مرتكز يمكن من خلاله التمرد.
ما هي مشكلة النسق الفلسفي لجيجك إذن؟ إن مشكلة جيجك بالأساس هي أن هذه الرغبة (الواقعي أو النواة الرضّية traumatic kernel) بطبيعتها، ووفقا لفلسفة جيجك، لا يمكنها أن تؤسس ترميزاً مضاداً، فهي تتمرد على الترميز القائم (الأيديولوجيا السائدة) دون أن يكون بإمكانها إعادة صياغة هذا الترميز وإلا فقدت هي نفسها طبيعتها كواقعي يفلت من الترميز.
يمكن اعتبار هذا جذراً فلسفياً لحالة جيجك الثقافية، فجيجك يلعب دور المثقف غريب الأطوار لاذع النقد والمتمرد على كل شيء، لكن هذا التمرد يبدو أحياناً بلا بوصلة، ومولعاً بالاختلاف بغض النظر عما يقود إليه هذا الاختلاف. وفي الأخير، يتحول جيجك إلى نموذج للذات التي يحلم بها فوكو، الذات التي تملك نفسها وتخلق قيمها الخاصة، وتحول حياتها الشخصية إلى تجربة فنية، أي أن جيجك يتحول عملياً إلى فنان بوهيمي ليست لديه أية مشكلة مع المنظومة القائمة سوى مدى وحجم التقدير الذي سيحصل عليه منها.
استعادة النقد الفلسفي
تمثل القضية الفلسطينية بوضوحها الاستثنائي كقضية شعب من السكان الأصليين يتعرض للإحلال والإبادة من قبل شعب آخر آخر من المستوطنين الذين يحظون برعاية نظام دولي لديه جذوره وبنيته الخاصة، نقطة ارتكاز (أو quilting point بتعبيرات لاكان التي يفضلها جيجك) لبناء نقد فلسفي يرفض الانسياق مع هذا النظام أو الخضوع لابتزازه، ويطرح في الوقت نفسه آفاق مقاومته وتجاوزه دون السقوط في نزعات عدمية ترتد إلى منظومات أكثر تطرفاً من المنظومة القائمة.
ولا تظهر مواقف هابرماس وجيجك وبن حبيب إلا الحاجة إلى تجاوز كثير من التقاليد القائمة في النقد الفلسفي، وبناء تقاليد جديدة أكثر قدرة على الاشتباك مع المظلوميات الحقيقية لعالم اليوم، ولا تهرب منها إلى أشكال من الممارسة النقدية الصورية لا تزعج المنظومة القائمة في قليل أو كثير.