ربيع 2020، ثائِر، ملوّن لا يحمل شكلاً محدّداً…
الظاهرة الأكثر وضوحاً تِلك الأيام كانت نظرتنا إلى الطبيعة كأفراد، وعلاقة ملايين الناس من عزلتهم مع مفهوم الحرية وحقيقتها. الحريّة التي تعمدنا سَلبها من الطبيعة المحيطة بنا ولم نعتد على فقدانها.
منذ بداية جائحة كورونا وإعلان حالة الحجر الصحي الإلزامي الذي أجبر الناس على البقاء في منازلهم، شَهِد العالم انخفاضاً شديداً في تلوث الهواء وتحديداً أول أكسيد الكربون وثاني أكسيد النيتروجين.
في ظل غياب الوجود البشري في المدن، عادت أصوات زقزقة العصافير لتسود على ضجيج السيارات، ووجدت الحيوانات البريّة في المناطق الحضرية نفسها. فَخلوّ الشوارع أدى إلى ظهور قطيع من الماعز الكشميري البري يتنزه في بلدة لاندودنو الساحلية في ويلز دون إزعاج، كما شوهدت خنازير برّية تسرح في شوارع برشلونة وأسد جبلي أميركي صغير يتجوّل في سانتياغو، ودلافين متجمّعة في البحر الأبيض المتوسّط. أما في تايلاند، فقد شهدت شوارع مدينة لوببوري حروب بين مجموعات من القرود، وعششت النوارس على الكثبان الرملية في لوار، بعيداً عن إزعاج المشاة و الزوارق، وأزهرت في المدينة المروج و استقدمت بدورها النحل والفراشات..
بانيوليه، فرنسا، نيسان 2020: نافذة عزلتي تطلُّ على حديقة كبيرة أغلقت أبوابها في وجه الزّوار وفقاً لقوانين الحجر الشامل، إلّا أن أسوارها تركت لروادها فتحات أمل للتسلل إلى داخلها. فأصبحت ملجأي اليومي وساعتي الحرّة. ساعة واحدة وكيلومتر كامل، فضاء زمني مكاني محدد، مبرر ومصرح ضمنه، بالتنفس أو ممارسة الرياضة أو التنزه مع حيوان أليف خارج أربع جدران.
كنت أقصد الحديقة كل يوم برفقة كلبة، كلبة ذات شخصية مثيرة وعلاقة خاصة جداً مع الأشياء والكائنات المحيطة، كنا نخرج في نفس الجولة الصباحية كلّ يوم وكنت بدوري أرصد التغييرات.. صادفنا أشكالاً وأنواعاً جديدة من النباتات في كلّ مرّة. كانت المسارات المرسومة لي تضيق يوماً بعد يوم…
حتى أشكال الظلال التي تعكسها أشعة الشمس بعد ارتطامها بأوراق وأغصان الأشجار على الأرض، كانت مختلفة في كل يوم… وأخذت النباتات في النمو بشكلٍ عشوائي، بعيداً كل البعد عن قواعد الجمال المفروضة من قبل الإنسان والمقص للحفاظ على الذوق العام.
كل شيءٍ في انتشار ونحن على حالنا، نزداد صِغراَ أمام حجم الطبيعة المحيطة بنا، نَتضاءل…
سألت الكلبة يوماً إن كانت تلاحظ هذا التّغير، فنظرت إليّ متعجبة كمن أرادت القول “من لا يتغير؟ “.
نيسان 2020: يستمر الحجر الشامل في عالم “البشر” وقوانين مستحدثة تُفرض بشكل تجريبي على يوميات كل إنسان من سكان كوكب الأرض، كلٌ حسب مكان إقامته، ابتداءاً من إيقاف حركة العمل والعمال، وتعطيل المدارس والجامعات، وصولاً إلى منع التجوّل في الأماكن العامة والشوارع، وإغلاق عام شمل المحال التجارية والمقاهي والبارات، وحتى الحدائق والمتنزهات. ارتفعت أسوار افتراضية وحواجز حول كل فرد، وكمامات ومسافات الآمان على كل فم تقاوم القبلات وحتى المصافحة؛ دعوة عامة وصريحة لعدم الاختلاط، للعزلة و الحبس الاحترازي.
الموت على الأبواب والغد قريب؛ لذا وجب إقصاء الكبار في السن حفاظاً على سلامتهم، وحظر كل احتفال عائلي، أي مراسم زواج، أو دفن وعزاء. “خليك بالبيت”.. “اليوم، فلا وقت للغد ” كما يقول محمود درويش..
العالم في مواجهة العدو المبهم، وجب الدفاع عن استقرار البلاد واستمرار الدولة، وفي سبيل الحفاظ على صحة المواطنين، أصبح الخروج من المنزل بدون مبرر مُنكر لا بل وجريمة بحق الآخر. مما جعل حِمل الفرد ثقيلاً، يدافع عن المجتمع وحيداً في العزلة!
أصبحنا كَأحجار الدومينو، تتساقط تباعاً، في حال إصابة أقرب شخص يقف أمامنا أو خلفنا على طابور الخبز، أو عند الطبيب أو البقالة، في محطة الميترو أو الباص، قَد تنتقل الإصابة من واحد إلى ثلاثة ومن الثلاثة إلى تسعة آخرين، ومن التِسعة إلى سبعة وعشرين إصابة… أي في غضون ساعات قد يصاب الألاف من الأفراد، ولم يعد الأمر متعلقاً بفرد بل تحوّل إلى مسؤولية جماعية.
فرنسا، ربيع 2020: تم إلزام كل قاطن في هذا البلد، على طلب إذن من الحكومة لمزاولة عمله خارج جدران منزله، ليبرر مخاطرته بصحته الخاصة وبالصحة العامة وإلا فلماذا لا يستطيع متابعة عمله داخل المنزل؟ لماذا عليه متابعة عمله أصلاً خلال حالة الطوارئ الصحية والحجر الشامل؟ هل في عمله أولوية للمجتمع والدولة أساساً؟
“تيليه ترافاي” بِالفرنسية، للتعبير عن وضع العمل الجديد خلال فترة الحجر الشامل، حيث يعمل كلٌ من مكانه ومن خلف شاشة الحاسوب الخاصة به، مستعيناً بشبكة الإنترنت للتواصل عن بُعد مع الرؤساء والمرؤوسين، مع الزبائن والمستفيدين.. يقومون باجتماعات مطولة هدفها الإنجاز واتخاذ القرارات والمزيد من القرارات والتعديلات على ما كان قد تقرر..
قدمت الحكومة الفرنسية يد العون لكل من خسر عمله أو توقف إنتاجه وتضرر بشكل مباشر من الجائحة، كأصحاب المقاهي والمطاعم والمحال التجارية المختصة بالمواد الغير أولوية…
وكما العادة، أكبر المتضررين كان المقيمين “غير الشرعيين”، طوبى لِمن لازال صامداُ منهم ومن سقط، فهم دون عون أو أفق أو أربع جدران يلتزمون العزل داخلها تحولوا إلى شبكة غير رسمية، غير شرعية “بالأسود” تربط البلاد المقطعة منازل متراكمة على امتداد الأرض..
وفي لبنان: تزاحم المواطنون على طوابير المشافي والمخابز والصيدليات ودخلت البلاد في حرب جديدة..
على أثر ظاهرة الحجر الشامل وما خلفته من إشكالات في التواصل الفيزيائي بين الأفراد، اتجه اهتمام المبدعين والمبدعات، الرياضيين والرياضيات، الراقصين والراقصات… المحللين والمحللات… وغيرهم إلى المالتيميديا لمتابعة أعمالهم وكَسر وحدتهم. ودخلنا في زمن التعليم فيه يتم عن بُعد والرياضة عن بٌعد، الرقص والأكل والضحك عن بُعد، الحوارات والحفلات والاجتماعات العائلية عن بُعد حتى أرق المشاعر من ألم وحزن وفرح نتشاركها عن بُعد..
6 نيسان 2020:
سجلت فرنسا أعلى معدل الوفيات جراء الإصابة بفيروس كورونا المستجد منذ انتشار الوباء في البلاد. فقد مات 833 شخصاً في يوم واحد. بهذا وصل العدد الإجمالي لحالات الوفاة بالفيروس الوبائي في فرنسا إلى 8911، وهو ثالث أعلى عدد للضحايا في العالم بعد إسبانيا وإيطاليا. كان يقول وزير الصحة الفرنسي أوليفير فيران محذراً، “لم نصل إلى ذروة انتشار الوباء بعد”.
أما في لبنان: أفضت الجهود المتواضعة لمتابعة الوباء إلى أرقام استدلالية رمزية؛ فبلغ عدد الحالات المثبتة في لبنان 541 حالة بزيادة 14 حالة عن يوم 5 نيسان 2020، وتم تسجيل حالة وفاة جديدة بالفيروس، ليصبح عدد الوفيات حتى هذا التاريخ 19 وفاة. ليدخل الشعب اللبناني في حجر ويخرج في آخر، مضى عام كامل وما تزال البلاد من حجر إلى آخر.
نيسان 2021: تسجل لبنان يومياً ما يفوق عن الـ 1600 إصابة جديدة بفيروس الكوفيد (19)، 83.35 ٪ تعافوا من إجمالي عدد الإصابات المسجلة منذ بداية الجائحة حتى تاريخ هذا اليوم. بينما 77.58 ٪ فقط تعافوا من إجمالي عدد الإصابات المسجلة في فرنسا.
فرض مجموعة من القيود على الأنشطة الاقتصادية وحركة النقل البري والبحري والجوي، إضافة إلى إغلاق المؤسسات الصناعية غير الضرورية، وبالتالي الحد من تنقل الأفراد مع توقف شبه تام لِلمواصلات وحركة السياحة بالعموم، أدى إلى انخفاض مستوى تلوث الهواء في العديد من المناطق.
كما أظهر غياب البشر عن المدن، تحسن في جودة الهواء بشكل ملحوظ. وعاد الهواء النقي إلى مدينة البندقية في إيطاليا مما جعل المياه أكثر وضوحاً وأصبح بالإمكان رؤية القاع. كما قلّت في ألمانيا انبعاثات الغازات الدفيئة المتسببة في تلوث البيئة..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفصل الخامس كاملاً
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رسم يحتمل أكثر من قراءة، فيه البدايات مبعثرة كما النهايات، تدور وتعيد نفسها بأشكال مختلفة، حيث يمكن للقارئ الانتقال من رسم لآِخر باتجاه اليمين أو باتجاه اليسار كما يمكنه اختيار نقطة البداية أو النهاية، حيث لا توجد خيارات منطقية، هي فقط نسبية تعتمد على حاسّة المتلقي ورغبته الشخصية.
يميناً أو يساراً، شمالاً أو جنوباً، لا تنطبق على “عيون الثورة” حدود جغرافية أو تسلسل زمني، يمكنه الانتشار بكل الاتجاهات، تارةً كثيف بكثافة الأحداث وتارةً ساكن. ينتقل بين الفوضى والعدمية، مروراً بحالات التهجين والتعليب والترتيب، التنظيم والرفض، الثورة.