كنت أبحث عن توصيف مناسب لها، فكرت كثيرًا، إلى أن أدركت ببساطة أن هالة شخص يريد أن يكون حرًا.
لكن الحكاية تبدأ قبل تفكيري ببعض الوقت.
أول مرة قابلت هالة عطاطفة،كنا في صيف 2019، في مدينة الأغواط، التي تبعد عن العاصمة بحوالي 400 كيلومتر في اتجاه جنوب غرب الجزائر، هي قادمة من وهران تحمل حقيبة ظهرٍ بنصف طولها، وشعرها منكوش بسبب الحر والطريق، وكنت أنا قادمة من تيزي وزو (شرق العاصمة)، لحضور دورة تكوينية.
حدثتني ساعتها أنها مرة ذهبت إلى السوق لتبحث عن دفتر كتابة، فلم تجد شيئا يروق لها، فقررت أن تصنع هي دفاترًا تعجبها، وعن اكتشافها كيف يشبه الورق شخصية صاحبه. ربما من هذا النقطة أو من غيرها وصل حديثنا إلى “المجتمع” الذي فقط يُملي قواعده على الأفراد، لكن دون الاهتمام بقدراتهم وتطلعاتهم وأحلامهم.
التقينا مرّة ثانية بعد ثلاثة أشهر، في نفس المدينة. حكت لي هذه المرة عن شعورها بأنها تمر بفترة تحول، ثمة فوضى كبيرة تجتاح رأسها، وأنها تقف أمام أسئلة تخص حياتها وخياراتها، وأيضا الأثر الذي يتركه الآخرون على سعادتها.
كانت تروي لي جزءاً من حكايتها كل ليلة، في غرفتنا المشتركة أثناء إقامتنا في الأغواط. كنت أتكلم أحياناً، لكني أنصت أكثر. وبدأتُ هنا، وبعفوية، أصورها..
عرفت عنها أكثر هذه المرة، حدثتني عن عملها كصيدلية وكيف كانت تشعر بحنق شديد كلما انقطعت الأدوية من السوق ووقف المرضى أمامها حائرين. حكت عن رفضها للرأسمالية التي تدفعنا إلى الإفراط في الاستهلاك و تدمر البيئة، وعن حبها الجم للطبيعة والجبال.
اللقاء الثالث كان في الجزائر العاصمة. ذهبنا للغداء في نهج محمد الخامس. أخبرتني أنها بدأت تسميّ آلامها، وتشعر أنها تولد من جديد.. قالت ببساطة: “هل تعلمين؟ لقد قُمت بثورة داخلية“، لكنها أخبرتني أيضا بأن الطبيب وجد ورمًا في دماغها.
بعدها، وحتى بدأ الحجر المنزلي لم نلتق سوى مرة واحدة قصيرة، ولما انعزلنا في البيوت كنت أفكر فيها كثيرًا، وأتسائل كيف ستعيش الآن وقد هجرت الصيدلة، لتصنع الدفاتر لمن يهوون الترحال مثلها، ماذا سيحصل معها بعد قرارها التفرغ للمغامرة والتخييم في الغابات.
عرفت بعد قليل أنها قرّرت الانسحاب من وسائل التواصل الاجتماعي، والبقاء في البيت واعتبار الأمر إقامة فنية، تتفرّغ فيها للاعتناء بصحتها والمشاريع الفنية المؤجلة كما قرّرت العمل على إعادة تدوير الورق لاستعماله ثانية، والاستمرار بإنتاج فيديوهات وبودكاست عن التراث والبيئة في الجزائر.
كنت أريد أن أواصل تصويرها، فطلبت زيارتها ما أن فُتحت الحركة بين المدن. انطلقت سبتمبر الماضي، قاطعةً نصف الساحل الجزائري تقريبًا من تيزي وزو (شرق العاصمة) إلى وهران (غرب البلاد) لأرى هالة.
“تفضلي، أرجوك، الدار دارك”
بقيت في مدخل الباب كي أستنشق رائحة التربة والورق التي تحضر على الفور وتميز بيت هالة رغم وجوده في قلب المدينة.
هناك تصفحت عشرات الدفاتر،كل واحد يحمل اسمًا خاصًا بحسب الظروف التي صنعته فيه، ووجدت بداخل كل دفتر أعشاباً عطرية محفوظة بين الصفحات، لهذا السبب كان لكل واحد رائحة مميزة.
أحسست ساعتها أن الدفاتر التي تصنعها هالة، ما هي سوى استمرارية لذاتها، وأن قصتها الشخصية مُسجّلة في كل جزء من صفحات تلك الدفاتر، كما هو الحال على ثيابها وجدران بيتها وأثاثه.
تواصل هالة اليوم -رغم ظروف الحجر المنزلي والوباء- التخييم كلما استطاعت، وتصنع الدفاتر التي تتنقل بين المدن والمعارض، على قلّتها، كي تروّج لها وتبيعها.