شهريًا تفقد النساء أجنة دون أن يعلموا بوجودها. تتحلل الكروموسومات المشوهة وتلقي بنفسها خارج العالم في فعل أشبه بالانتحار. تعبر عن موتها بدماء وألم؛ دماء شهرية معتادة وألم من ضمن تنويعات الآلام التي تختبرها النساء، فمن تملك حساسية لتميز؟ من ملكت ستمر خلال حياتها بتجارب بديعة لتكتسب جلد أسمك. تُلوى الشفاه وهي تنطق شيدي حيلك، وفي الأعين مزيج الضجر والتأفف.
من تجاربي عرفت التعبير عن الألم قطًا مشاغبًا، حين يظهر، وينتفض المستمع كمن يعاني رهاب القطط، وعلى الرغم من أن القط لا يملك وسيلة للإيذاء، ولا يوجد ما يسمى برهاب القطط، يحدث الانتفاض مع كل تعبير. لكن حقًا ما تصور من نشتكي لهم عن المواساة؟ هل يظنون أننا نريد توقف الأرض عن الدوران؟ كل المطلوب “سلامتك” فقط وربما مشروب ساخن، لا شيء خطير.
كاد دوري مع هذا الألم ليمر صامتًا هذه المرة، لولا أنني أجريت اختبار حمل، ليس لـ “أنها تأخرت” ولا لأن بشرتي تدهورت خلال أزهى عصور الاعتناء بها، لكن لأن ألم حدث. في الرابعة فجرًا، أنهيت كتابة قصة استغرقتني تمامًا، نسيت خلال كتابتها أين أكون وكيف أجلس، أغلقت اللابتوب ووقفت فانطلق وجع بطول جانبي الأيسر ممتدًا لظهري. انقطع نفسي وكدت أفقد الوعي، جلست وضغطت جانبي بقوة، الأدوية في المطبخ و كل من في البيت نيام. مكثت أنظم أنفاسي، حتى صارت الحركة محتملة، ابتلعت قرصين من المسكن، وشربت الكثير من المياه. حين ملكت عقلًا، فكرت في الاحتمالات المسببة؛ الزائدة الدودية؟ ليست في هذه الناحية. آلام كلى؟ لم تكن لتهدأ بهذا المسكن، شد عضل ربما من طول جلسة الكتابة؟ خطرت لي العديد من الأسباب عدا ما له علاقة بالرحم، حيث أنسى أحيانًا أنني امرأة.
بعد نهار طويل ملىء بالالتزامات والمسكنات، أخبرت زوجي بما حدث، رد ضاحكًا: قولون، ومنحني قرص مضاد للغازات، مؤكدًا أنه للمضغ وليس للبلع، ومضغته مبتسمة. ثم طرأت فكرة عبثية أن أجري اختبارًا للحمل.
من باب العلم بالشيء
كان أغلى اختبار حمل أحصل عليه. في مصر تتوفر في الصيدليات أنواع مختلفة من الاختبار، تتفاوت في سعرها ودقة نتائجها، والاختيار بينها تحدده رغبات عدة، منها ما هو من باب العلم بالشيء، ومنها ما هو لهفة أو فزع، تتساوى اللهفة مع الفزع في ترجيح الأدق وبالتبعية الأغلى. في الكويت حيث أقيم الآن، كل ما هو داخل الصيدلية غالي بالقياس إلى الأجور وأسعار الدواء العالمية، وجدتني مجبرة على شراء المتاح وهو النوع الدقيق الغالي كأنني ملهوفة أو فزعة مع أنني في حقيقة الأمر أتحرك “من باب العلم بالشيء” فقط.
عرفت أنني حامل. ظهرًا نزلت قطرات دماء، فكرت في زيارة طبيب، ولكن لأن أغلب الإجراءات الطبية للوافدين الذين لا يملكون تأمين صحي مكلفة، أجلّت الذهاب لبداية الشهر. صباح اليوم التالي، أيقظني ألم لدرجة البكاء. شغلت ابني في حجرته بألعابه، واحتضنت وسادة، ضغطت بها بطني، وكتمت صرخات لا جدوى منها، أكلم نفسي أنها ستمر، سأقف، سأغلي نعناع، وأخذ المزيد من المسكنات، سأتنفس، وصرت أبكي دون أن أشعر، جاء النزيف الذي لولا اختبار الحمل لكان فقط دورة شهرية غزيرة. وبغض النظر عن المسميات، كانت أحشائي تتمزق.
هاتفني زوجي مقترحًا حضوري إلى المستشفى حيث يعمل، قال: سونار سريع وأعود للبيت، أخبرته أن غالبا الحمل سقط، لم يبد ردة فعل، لكنه قال لن نخسر شيء.
في الاستراحة بين نوبات الألم يحل فراغ، هذا اللاشعور هو تعريف السلام، مكنني من ارتداء ملابسي، وإعداد ابني للخروج، كان مبتهجًا لرؤية مكان عمل أبيه، فسحة لم تكن على الخاطر. جهز حقيبة تليق بالمناسبة؛ حشر أوراقًا بيضاء وألوانًا، والكثير من الحلوى.
درجة الحرارة في الخارج تخطت الأربعين، التنقل نهارا في الصيف بدون سيارة خاصة احتضان طوعي للشمس. أوضحت خرائط جوجل أنني سأضطر للتبديل بين عدة أتوبيسات نقل عام والأخير محطته بعيدة عن المستشفى، فلا مهرب من سيارة الأجرة. توجد هنا تسعيرة ضمنية، لكل 10 كيلو متر يأخذ السائق دينارًا ونصف، ما يعني أن الرحلة تكلف قيمة الوقود الذي تستهلكه السيارة في شهر. ثم فاجأني زوجي بقدومه، لن يتركني أذهب بمفردي، واعتبرتها مواساته.
في الطوارىء كل النساء ما بين بكاء وصراخ، لحظة الاجهاض كصورة؛ هي ظهر محني من الألم ودموع. كنت كذلك فوق أريكتي بالمنزل، وما بقي دماء وألم لا أعبر عنه بالصراخ. ترمقني الممرضات بتأفف، لست على هيئة الطوارئ فلابد أنني عمل إضافي يدعو للاستياء. سحبوا عينة دم وأكدت الأرقام الحمل، لكنها عمياء عن النزيف.
حان دوري، وضعت الطبيبة رأس السونار على بطني، ارتسم داخلي مشوشًا على الشاشة. دارت برأس السونار فوق الجلد يمينًا ويسارًا، كل التشويش يشير إلى التهابات حادة، لكن أين كيس الحمل؟ طلبت الطبيبة مساعدة زميل، احتار هو الآخر، بينما يصرف انتباهي بالسؤال عن الحياة في “الغربة”، كل الأمور في لحظة كتلك مشوشة. “مش شايف الكيس” قالها موصيًا بعرضي على الاستشاري، لتفسير نتيجة تحليل الحمل المشيرة إلى وجود كيس حمل في الشهر الثالث، وبالتالي تتناقض مع الصورة المشوشة الظاهرة أمامه على الشاشة.
لم يعثر عليه الاستشاري أيضًا، لولا نتائج التحاليل لأتهموني بتضييع وقتهم، رجح أنه صغير جدا، وعلينا الانتظار ليفصح عن نفسه. ماذا عن النزيف والألم؟ أخبرني الطبيب أنني لا يمكن أن أخذ مثبتات حمل لأنه قد يكون خارج الرحم، ولا يمكن أن أخذ محفزات للسقوط لأنه قد يكون داخل الرحم. لا يمكن أن آخذ شيئًا.
الحل إذن.. العودة للمنزل واختبار الألم دون مسكنات؛ إن احتملتي كان بها وإن لم تحتملي تعالي نشق بطنك أو نحقنك بالميثوتريكسيت (دواء يستخدم لعلاج السرطان وله دور في انهاء الحمل خارج الرحم)، ماذا إن احتملت وتمزق كيس الحمل؟ سيحدث نزيف داخلي وما يترتب عليه من مضاعفات، بداية من انفجار قناة فالوب، وانتهاءا بهبوط حاد في الدورة الدموية يهدد الحياة..عظيم.
لسان ملتبس
اقترح زوجي أن ننهيه بالميثوتريكسيت تجنبا للمخاطر. انفعل الاستشاري، ورفض الاقتراح دون عرض أسباب طبية، تحدث بألسن لا تمت لمهنته بصلة، فشاركنا تصوره عن معنى الحلال والحرام وقتل الأرواح دون أن نطلب، وعندما لم نجادل، أنقلب لأم تجيد لعبة الذنب، أنّب زوجي على اختياره لأنه يستخف بأعراض الدواء الجانبية، سألني: أنتي مش غالية عليه ولا إيه؟، لم أرد، كنت مشغولة بالتجمع الدموي المشاكس الذي ينمو في أحشائي، والذي وصف مخاطره بمهارة، فأربكني لسانه الطبي أكثر من لسان الشيخ والأم المستعار.
الطبيب رسول ما بين المرء وجسده، ومنذ نشأة الطب الحديث، واللسان الطبي ملتبس، الأمر لا يتعلق بالخبرة الطبية أو بمهارة التشخيص، كلها معرضة للهزيمة أمام تواصل فاشل. وصف لويس مرسييه ذلك الالتباس في كتابه “لوحة باريس” عن نشأة الطب الحديث، منذ القرن الثامن عشر، عندما فرق بين الطبيب التجريبي القديم العامل بنظرية الأخلاط، والملاحظ لكل حالة، والطبيب الحديث القادم بنظرية تسري على الجميع دون تفرقة، قائلًا: “الطبيب بوجه شاحب، وصوت مزماري النغم، وعين حائرة تجس نبضكم بفتور، ينطق بتلك الجمل اللبقة التي تشعركم مع ذلك بالفراغ والخواء. يبدو كأنه يريد المماطلة مع المرض. أما التجريبي، فيتمتع على العكس من ذلك بجرأة في الكلام، ويملك نظرة واثقة. الطبيب بارد، أما الآخر التجريبي، فهو دافىء وعاطفي ومتقد بالحماس، فيقول لك: خذ، ولتنعم بالشفاء.”
وفي حالتي مزج الاستشاري بين دور الطبيب الحديث والمعالج التجريبي القديم، بين المماطلة والعاطفة، بدا مقامرًا، يلقى بالعملة في الهواء، ملك ولا كتابة؟ بينما العملة جسدي، تمزق أم لا؟
عدت إليه بعد أسبوع، رأى الكيس المشاكس خارج الرحم. في الكثير من الحالات يتعامل الجسد معه كأنه كدمة، يتحلل ذاتيًا حتى يختفي، لكن في حالتي أظهر تحليل الدم أن هورمونات الحمل في ازدياد، الأمر الذي يعني أن هناك إمداد دموي للكيس وبالتالي نمو حجمه، ولا بوادر واضحة عن بدء عملية الترميم الذاتي المنشودة. مما جعل الاستشاري يعيد على مسامعي الاختيارات من صفحة الحمل خارج الرحم في المرجع: شق بطن استكشافي لإزالته يدويًا، أو الميثوتريكسيت لمنع نموه دوائيا، وكلاهما يعني الحجز في المستشفى. فمن يجالس ابني؟ وأخيرًا العودة للبيت بلا مسكنات حتى لا نشوش على حدة الألم الأسطوري الذي يحكون عنه، ذلك الألم الذي سيرشدني إن حدث التمزق، فإن أوقف جسدي نموه ذاتيًا كان بها، وإن لم يحدث، حينها يصبح شق البطن إجبار وليس اختيار.
سألته عن التفاوت الواسع بين أدوية السرطان والاعتماد على تحملي للألم، وقال أن هذا هو البروتوكول المتبع، أنظري حولك كلهن يبكين ويصرخن، ثم نظر إلى زوجي: ده مش شكل واحدة في إجهاض خالص.
هل لأنني كحلت عيني؟، كنا ثاني أيام العيد وصرفني إلى المنزل.
طبيًا هذا هو البروتوكول المتبع ولم يخطىء، لكن الموقف كان مخيفًا؛ أن أجد نفسي في منطقة لا يمكن التنبؤ بما فيها، وأن يؤكد من حولي أنني وحدي هناك، أنا من تقيّم الألم، إن كان منزليّا أليفّا أم على وشك الفتك بي.
دواء سيء السمعة
استعان زوجي برأي صديق له، اخصائي نساء وتوليد في مصر، واقترح ميزوبروستول أو المشهور تجاريًا بالسايتوتك، إنه الدواء متعدد الاستعمالات؛ واحدة منها الإجهاض في فترة الحمل الأولى، مما جعله صاحب سمعة سيئة، عرفتها مصادفة وأنا أفتش عنه مرة في صيدليات شوارع الإسكندرية ليلًا، بينما أنا أضرب كفا بكف بدل من ضرب وجوه صيادلة حي الإبراهيمية والأحياء المجاورة.
قبل عامين، حين وددت أن أتخلص من مانع الحمل القابع في رحمي، لم أكن أعرف عمق الجهل والغطرسة التي قد تعامل بها امرأة تذهب إلى عيادات النساء والتوليد وحيدة. كساذجة حجزت موعد لدى طبيبة قريبة من بيتي، وأول ما سألتني كان سؤالًا استنكاريًا: “وأنا أش عرفني إذا كنتي حامل وعاوزة تسقطي؟” سؤال لا محل له في عيادة نساء، يمكنها أن تقترح تحليل حمل قبل الكشف، أو تستخدم الجهاز السحري المسمى سونار والذي ينير عيادتها، والذي للصدفة أيضًا حتمي لنزع اللوب، ذكرتها به من باب ذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين، ولم يعجبها تسامحي مع ريبتها غير المبررة. ألقت على مسامعي تعليقات وقحة بينما تتأكد من عدم حملي، ولم تتمكن من نزع اللوب، قالت لابد من تخدير كلي، كتبت عدة تحاليل وعنوان مستشفى تعمل بها، مزقت كافة الأوراق وأنا أخطو خارج عيادتها، عادة اكتسبتها من طول تعاملي مع الوقحين، أطباء وغيرهم. لكوني طبيبة أعرف أنها لم تخطىء طبيًا، ولكوني طبيبة أيضًا أعرف أن الغطرسة فخ يرتد على صاحبه حتمًا، ولا أريد أن أتورط في ذلك عند حدوثه.
حجزت لدى طبيب آخر، وتعامل معي بعملية مريحة، كتب لي سايتوتك ليعدّ رحمي المتشبث باللولب، كل ما عرفته عن هذا الدواء قبل الذهاب لشرائه أنه يسبب انقباضات في بطانة الرحم ليس أكثر ولا أقل، كيمياء عضوية بلا ارتباط بأرض الواقع، هذا ما قدمته لي دراستي للطب، معلومات بلا سياق اجتماعي، اعترف أنني عديمة المفهومية، ولم أعرف لماذا لم توجهني الطبيبة الأولى منذ البداية لأماكن شرائه المعتادة؟
يقرأ الصيدلي أو الصيدلانية “سايتوتك” مدونًا في الروشتة، وتلتوي الشفاه، ويعلنون أنه ليس لديهم، لم أميز الاتهام في النظرات، حتى انضمت أمي للحفلة. كلمتني عندما تأخرت، وقالت أنها ستنزل لترافقني السير، كلانا يحب السير ليلًا. دخلنا صيدلية كبيرة، وقال الطبيب الشاب أنه حتى لو لديه لن يبيعه لي، وانفجرت أمي في وجهه، تعدد شهاداتي العلمية ومحاسن أخلاقي، وتؤكد أنني زميلة مهنة، أستهجنت أن يقصيني من فصيلتهم صاحبة السلطة على الأجساد، وأفزعها تبدل موقعي. لم تفهم أن التبرير ليس بثًا حيًا لسيرتي المهنية، بل هو أقرب لـ “يكاد المريب يقول خذوني”، على كل حال لم تكن ليلة مثالية لمشاركة أمي شوارع الإسكندرية، لكنني صرت أضحك وأضرب كفًا بكف.
وجهني طبيبي إلى صيدلية المستشفى الذي سيجري لي العملية بها، أكد أنه -ومن باب الاحتياط- سيبلغ الصيدلي بنفسه، كل تلك التدابير! لذيذ أن تكون امرأة، تهمة مرحة، تتلاعب بالظنون.
يمكن قراءة ما حكيته كمأزق شخصي عابر، في النهاية تمكنت من الحصول على الدواء والقيام بالإجراء الطبي المناسب لحالتي وفقا لاختياري، لكن هذا ليس حال النساء في مصر وفي بقع كثيرة في هذا العالم، أحيانًا يصبح هذا المأزق الشخصي ذو دلالة سياسة واجتماعية واضحة، وأنا أفتش عن “السايتوتك” واستوعب الريبة من حوله لم أتوقف عن التفكير في الحلقة الأضعف، تحديدا الحالات التي تتعرض لاغتصاب، والتي قد ينقذها مثل هذا الدواء من تبعاته. فإذا تمكنتْ من الحصول على روشتة من طبيب، سيرفض الصيدلي صرفه، وإذا حصلن عليه، لا تتوفر لهن رعاية مناسبة لما بعد الإجهاض، وكل هذا بلا قانون لحمايتهن، بالعكس سيعاقبهن في بعض الدول العربية على النية بثبوت السعي للإجهاض وإن لم تتمكن، فكيف يتصرفن؟.
بشكل ما تفارقنا ذواتنا كنساء في لحظات مثل هذه، في حالتي لم أكن خارج الكود المجتمعي ما يرضاه وما ينفر منه، لكن ذلك لم يغير من اللسان الطبي المستخدم معي. توقفوا عن التعامل مع رحمي الخالي أصلًا من الأجنة، عن التعامل مع حالتي العضوية المجردة، وحتى عن سياقها الاجتماعي المقبول، تجاهلوا المخاطر وأصدروا الأحكام، الأهم من ذلك أنهم تصرفوا وفقا لأحكامهم هذه.
في الحقيقة لم أحلم يومًا بعالم خال من الحكم على الآخر أو حتى من كراهيته، أنا أيضًا أصدر الأحكام وأكره كثيرًا وللأسف دون وعي مني أحيانًا، لكنني اعتبر انجازي الأهم هو أنني أعزلها عن تعاملاتي، وأحبسها تمرح في عقلي. ولأننا أبدا لن نتوقف عن الحكم على الآخر تبرز الحاجة لمدخل مختلف للتعامل معه، فهذه الآلية التي يعتمدها الأطباء والصيادلة في التعامل ليست آلية فرز ليتجنبوا ما يرفضون القيام به أو يخالف معتقداتهم دينية كانت أو أخلاقية، هي في حقيقتها آلية عمياء تمارس عقاب جماعي، فالمفارقة التي وقع بها الصيدلي عندما رفض أن يبيعني السايتوتك، أنه رفض أن يقدم لي دواء سيساعدني على الحمل في المستقبل. بالنسبة له وحده رفض بيع دواء يساعد على الاجهاض وبالتالي قتل نفس، بينما وظيفته في الأساس محصورة في التعامل مع الدواء لا المرض ولا المريض. لكنه تخطى حدود وظيفته واعتمد على معرفته المحدودة. أليس من الأفضل للجميع أن نعتمد على المعلومات، ونلتزم بمقتضيات مهنتنا. لن يمنعنا ذلك من إصدار الأحكام، لكن لنحتفظ بها لأنفسنا، لأنها حتى كانت لو صحيحة ألا يكفينا أن نطبقها على حياتنا ثم نصفق لأنفسنا فخرًا قبل النوم؟
أحيانًا يختلف الأمر
بالمناسبة لا يعمل هكذا طوال الوقت، أحيانًا تفرض الحالة سياقها في التعامل الواقعي الفعّال بعيدًا عن الأحكام الأخلاقية. في قرية ارتدت أغلب نساؤها النقاب تزامنًا مع الهجرات الأولى للخليج، قد تظن أنهم الأكثر تشددًا فيما يخص هذه المسألة، لكن الحال على حد علمي لم يكن كذلك دومًا. من ذكرى واضحة استعيد حوار تناولته نساء عائلتي لأيام حول الإجهاض، لم يكن صراعًا بين الموافقة والرفض، بقدر ما كان رغبة في التأكد من أن شعورهن بالموافقة عليه ليس نشازا أو تغريد خارج السرب.
حملت صديقة للعائلة في سن تخطى الأربعين، فكان الطفل المتوقع “غلطة” كما يسمى بالدارجة المصرية في هذه الحالات، أخبرها الطبيب باحتمالية وجود تشوه في الجنين، ومضاعفات تهدد حياتها أثناء الحمل والولادة كونها مريضة سكر، بخلاف أنها في الأصل تمتلك أسرة كبيرة مثيرة للمتاعب. في قرية إذا عطس أحدهم قبلي البلد شمّته الساكن بحري، عرفوا بزيارتها لشيخ واستخراج فتوى تبيح إنهاء الحمل طالما لم يمر عليه 120 يومًا، أي لم تُبث فيه الروح بعد.
الاستثناء في هذه القرية التي تشق طريقها نحو التشدد الديني باجتهاد، أن الحادثة مرقت دون انقسام، بدا هناك إجماع نسائي على قرار الأم، رجحوا عدم التورط في مستقبل مظلم ليس للأم وحسب بل للجنين المنتظر أيضًا. ربما لأنهم الأدرى دون غيرهم بأوضاع ذوي الاحتياجات الخاصة في قريتهم العنيفة، فهي لا ترحم مكتملي النمو أما عن المحتاجين لتعامل خاص، فيملئون شوارعها، براهين حية على قسوتهم المفزعة.
***
في حالة الحمل خارج الرحم لم يكن للسايتوتيك دور كبير، لذا تركت المشاكس يمرح في بطني، لم يتمزق في نهاية المطاف وابتلعه جسدي، وخلال عملية الترميم الذاتي تلك بقيت أتألم –بدون مسكنات– وأنزف لمدة شهر تقريبا وهكذا هو الأمر، بالحظ وبالصدف نخوض رحلة الحياة والموت.