بعد شهور من الخطابات السياسية المتبادلة بين الجزائر والمغرب، وبعد قرار الجزائر قطع العلاقات الدبلوماسية وغلق المجال الجوي شهر أغسطس الماضي، ظل الجو مشحوناً وعاشت المنطقة ما يُشبه الهدوء قبل العاصفة.
ورغم كل هذه الخطوات المُتخّذة والمعارك الدبلوماسية، ورغم تراشق النخب السياسية في البلدين الاتهامات إلا أنها كانت تُعفي ما تسميه بـ “الشعب الشقيق” في البلد المقابل من هذه المعارك، حتى جاء 7liwa (حليوة) وأطلق سلسلة من الستوريز/القصص في أنستغرام يتحدث فيها -بعد مشاهدته لوثائقي عن الأندلس- عن تاريخ بلاده.
هنا دخل ديدن كلاش، أحد أكثر الرابرز متابعة في الساحة الجزائرية، وقال إن هناك من يريد إثارة فتنة بين البلدين بحديثه عن تاريخ المنطقة. ولا يخفى هنا عن جمهور الراب المغاربي أن ديدين وحليوة بينهما ثأر قديم. ردّ حليوة بقصص ورمى قميص منتخب الجزائر الذي يحتفظ به، على الأرض، ثم أطلق حليوة أغنيته “ديدين كرتون“. بعدها دخل يوبي/Youppi على الخط، وكان البيف/Beef.
من هنا بدأت كرة الثلج كما ترى الأغلبية، ولكن العارف بخبايا الراب في البلدين، يدرك حاجة كليهما إلى هذا النوع من الإستفزاز ليبثّ الحياة في اللعبة من جديد، خاصة بعد حالة الركود التي أصابت الساحة من حيث جودة النصوص والأداء واتجاه الجماهير نحو الراب التجاريّ الذي يعتمد بشكل أكبر على الكليبات، والحمولة البصرية للأغاني أكثر من أي شيء آخر.
لا يُنكر أحدٌ الدور الذي لعبه الجو السياسيّ المشحون بين البلدين في الرفع من حساسية هذا البيف، رغم محاولة معظم مغنيي الراب تفادي الدعم العلني لموقف أحد النظامبن الحاكمين. كون ثيمة التمرد على النظام السياسي وعدم دعمه، مبادئ ضرورية ليحافظ الرابر على مكانته، إلا أن ملامح الصراعات التاريخية ظهرت جلية في عناوين الأغاني حرب الرمال للرابر الجزائري زاكو و الملك بوخوس للمغربي نيو وفي مضامينها، ومنها، -“أنا ماشي سبانيولي مي نديرلك السبتة” Zed K – YOKE يشير الزادكا هنا إلى مدينة سبتة الواقعة تحت الاحتلال الإسباني. – “قبل ما تدوي عالتاريخ طلع لفرنسا تاخذ الإذن” Neo – Zed Quixote في إشارة إلى أرشيف الحقبة الإستعمارية للجزائر الذي تحتفظ به فرنسا.
رابرز آخرون اختارو نهجاً كتابياً واضحاً يتفادى الجوانب السياسية والتاريخية للصراع، مُركّزين في نصوصهم على ترصد عيوب الرابر المقصود ونقاط ضعفه كـ أرتيزان في Piggy الموجهة للـ دون بيغ وفلان في Recyclage، التي هاجم فيها حليوة، والتي حققت مشاهدات قياسية على اليوتيوب.
أما مغني الراب المغربي Pause Flow فوجه رداً قاسياً للرابرز المشاركين في البيف من البلدين، في أغنيته (I) أو eye معتبراً ما يحصل أمراً موجّهاً من أطراف تريد زرع الخلاف بين الشعبين، مستغلة سذاجة الرابرز حسب رأيه: “كلاشيو الإستعمار يا ولاد لقحاب لي حوانا هذو سنين”.
لكن الأغلبية، حسب التعليقات وردود الفعل، سارت على نهج أصحاب قناة “البطل” على اليوتيوب، الذين يقدمون محتوى الرياكشن أو ردود الفعل على أغاني الراب في بلدان المغرب. سار “الأبطال” خلف شعارين اثنين: “نحن موضوعيون.. اللي تحوا نقولو تحوا” (اللي تناك نقولو تناك)، و “خاطينا السياسة”، ويظهر هذا الأخير في كل مرّة يحكي فيها الرابرز الجزائريين عن مسألة تطبيع المملكة مع إسرائيل أو عن الفرق بين المملكة والجمهورية، وعن الملك المغربي محمد السادس، وكيف قبِل بعض الرابرز المغاربة أوسمة ملكية وقبّلوا يد ملكهم؛ في حين أن الرابرز -أو أغلبهم، كما يقولون- في الجزائر هم دائماً ضد النظام، حيث يبدأ “الأبطال” في ترديد “خاطينا السياسة… احنا ندويو غير على الموسيقى والرّاب”، ولا يفوتهم أن يقولوا هذا بطريقة ساخرة.
جمهور خلف الشاشات
لكن قبل الحديث عن “الأبطال“، دعونا نتكلم عن “الرياكشنز” أو ردود الفعل. ترتبط فيديوهات الرياكشن بأغاني الراب، حيث يقوم فيها شباب من محبي هذا الفن بالإستماع إلى أغنية حديثة الصدور للتعليق عليها وإبداء رأيهم فيها خاصة مع ما تتمتع به أغنية الراب من خصوصية تجعل منها وجبة دسمة للتحليل، محاولين في الوقت ذاته ترصّد أي رسالة خفية يستهدف فيها الرابر رابراً آخر معلناً بداية بيف جديد. البيف هو معركة هجاء يدخل فيها عدد من الرابرز، يمكن أن تكون بين أحياء مدينة واحدة أو بين مناطق مختلفة، والحال هنا بيف بين رابرز (أو “رْوّابة” كما يجمعُ المغاربة الكلمة) جزائريين ومغاربة.
انتشرت الكثير من قنوات الرياكشن مع انتشار أغاني الراب ذات الطابع التجاري، في محاولة من أصحابها لرفع نسب المشاهدة مستغلين ضخامة القاعدة الجماهيرية المتابعة لهذا الطابع في نفس الوقت. “البطل”، “الفلتة”، “الروجي”، و”ناكازاكي” أربعة شباب مغاربة من مدينة فاس استطاعوا إحداث طفرة في نوعية المحتوى المقدّم من طرف قنوات الرياكشن، بقناتهم التي تحمل اسم أولهم البطل.
يثيرون انتباهك بداية من أغنية Fairytale للجزائري Mc Artisan والتي ينادي فيها بتقنين الزطلة (الحشيش) في بلدان والمغرب والعالم.. “في جمايكا ولا ولا في كوتامة”، التي يستعملونها كإنترو لفيديوهاتهم مرورا بإلمامهم بخبايا الراب الجزائري ومغنّييه.
يميزون راب مدينة عنابة وخصوصيته مقارنة مع راب ضاحية الحراش، يحيطون بخبايا البيفات وتفاصيلها، ويكنّون نفس القدر من الإحترام لـ “الروابة الواعرين” سواء كانوا مغربيين أو جزائريين. يتفاعلون ويُعلّقون، يضحَكون ويُضحِكون. يجلس أربعتهم في مكان يبدو كقبوٍ أعادوا طلائه وتوضيبه، حالهم حال كل شباب بلدان المغرب الذين يلتقون للعب أو مشاهدة المباريات، أو فقط للتدخين وقتل الوقت. ولكن الأبطال جعلوا من قبوهم هذا منبر تعليق على كل بيفات وأغاني بلدان المغرب.
استطاع الأبطال، خلال أسبوع البيف، تجاوز التحدّي الذي واجههم عندما تقابل الراب الجزائري والمغربي بأخذ المسافة اللازمة من الخلفية المحتقنة للوضع الجزائري-المغربي، وبروح ساخرة جعلت مئات الآلاف الذين يتابعونهم يتشاركون الضحك مهما كان موقعهم من الحدود المغلقة. كما مكّنتهم تلقائيتهم المعتادة في تحليل كل الأغاني بكفاءة وفي نسق ماراتوني مثير للإعجاب، حيث كانوا يصلون الليل بالنهار لمتابعة الأغاني التي كان يطرحها الرابرز.
“احنا خاوة.. ماشي عداوة”
في ديسمبر 2020، وعندما ظهر الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون لأول مرة بعد سفره للعلاج بألمانيا، وفي كلمة مسجلة من المستشفى حيث كان يتعالج من تبعات فيروس كورونا، تحدّث عن الأزمة بين الجزائر والمغرب قائلا أنه كان يتوقع هذا المنحى من التطوّرات، ثم أكّد على ثبات الجزائر واستشهد بمقولة لولي الله الصالح عبد الرحمان الثعالبي (1384 – 1471 ميلادي):
إن الجزائر في أحوالها عجب * ولا يدوم بها للناس مكروه
ما حلّ عُسر بها أو ضاق مُتسع * إلا ويُسر من الله يتلوه
وفسّر الكثيرون هذا الاستشهاد، ليس فقط بالقيمة الرمزية والروحية لسيدي عبد الرحمان حارس مدينة الجزائر، ولكن أيضا لأن إرث عبد الرحمان الثعالبي في الفقه والشعر ليس موضع تنازع، مثل متصوفة وشعراء آخرين عاشوا وولدوا في المنطقة التي صارت اليوم حدودا بين الجزائر والمغرب.
وهنا قصة طريفة أخرى، حيث أن فنّ الشعبي الجزائري الذي أطلقه الحاج محمد العنقى (1907 -1978) في الجزائر العاصمة قبل منتصف القرن العشرين، نهل (مثل العديد من الطبوع الموسيقية الجزائرية قبله وبعده) من التراث الشعري المغربي، وطيلة عقود غنّى مطربو الشعبي هذه القصائد بطريقة جديدة حتى على المغاربة. لكن الديناميكية التي تطوّر فيها الشعبي -خاصة أن له تاريخاً لدى الجالية المغاربية في المهجر- هي ديناميكية مغاربية، تماما مثل الرّاي.. ولكن عندما تصمتُ المعازف، وحناجر جماهير الرجاء البيضاوي الصادحة بـ “احنا خاوة.. ماشي عداوة.. يا جزايري”، يأتي دور التنازع.
يقول Fada Vex (أو الشيخ مليك)، عضو فرقة TOX وأحد عرابي الراب الجزائري، موجها كلامه للـ دون بيغ، مغني الراب المغربي وأحد أنجح الرابرز في تاريخ الراب المغاربي، في البار قبل الأخير من أغنيته “الجدمة” والتي ختمها الفاذر بأسطر من الشعر الملحون:
كان لازملك تمد المثال انايا عودي شنيار
الماية تاعك كي الطيفور وانايا سيقاني طوال
الدرس الثالث هذا راب وأنا لا طاح الدينار
شا سوقي فيه لا سوق النساء تعرفه مليح و مطيار
نهدرلك لغة بن خلوف بلاك ملحون كينهاض
بلاك الروح تع جدودك تكبر فيك و تفطن
هذا السطر الذي يشير فيه الشيخ مليك إلى شعر سيدي لخضر بن خلوف (1479 – 1585 ميلادي)، أحد جهابذة شعر الملحون وروّاده الأوائل، يحيل إلى خمسة قرون من التراث الشفويّ المغاربي الذي تخللّه صراع دائم بين طرفيه، المغربي والجزائري، حول صاحب السبق والمبادرة فيه، وحول الطرف الأكثر اقتداراً على تبنيه في طبوع موسيقية مختلفة، فتطوّر الشعبيّ الجزائري والملحون المغربي، وصولاً إلى الراب، وهو في أحد وجوهه صراع فنيّ محتدم محوره “القصيد”.
لكن الجديد اليوم أن البيف الذي عاشه المغاربة والجزائريون يُعدّ الأكبر من نوعه، وهذا راجع لعدة عوامل أهمها وجود أسماء جديدة في الساحتين الجزائرية والمغربية (حتى وإن دخل على الخط رابرز من جيل المؤسّسين)، وكذا السهولة التقنية التي صار يُسجّل بها هؤلاء أغانيهم وإطلاقها، فبعض الردود كُتِبَت وسُجلّت في ساعتين أو أقل وأُطلِقت.
بلدان المغرب الياباني
ولأن الاختلافات والتشابهات، بين شباب المغرب والجزائر، ليست في الجذور المشتركة ولكن أيضاً في الحاضر الذي يعيشونه، مثلهم مثل بقية شباب المنطقة والعالم. فإن أحد ملامح هذا البيف، والذي يُبرِزُ ثقافة جيل كامل، هو استعمال مصطلحات وإحالات من الثقافة اليابانية وبالتحديد الأنمي و المانغا.
استطاع الجزائري Youppi والمغربي Diib خطف الأضواء في وسط هذا الزخم، واقتطعا لهما زاوية خاصة عرضا من خلالها قدراتهما الكتابية والأدائية على حدّ سواء بعشرة أغان في أقل من أسبوع في نزال مميز وضعا عناوينه في إطار تسلسلي مستوحى من شخصيات مسلسلات الأنيمي ناروتو شيبودن ووان بانش مان ووان بيس وهذا تفصيل جمالي ذكي يشير إلى أن شعر الملحون المغاربي يُجاور كاغويا وإيدو تنسي وسايتاما.
نقطة أخرى يُمكننا الإشارة إليها وهي اللهجة، فرغم أن الكثيرين من متحدثي العربية يظنون أن الجزائريين والمغاربة يتحدثون نفس اللغة، ومعهم التوانسة، إلا أن الأمر غير صحيح. دعنا نقول أن كل بلد يحتوي على تدرجات من لهجة معيّنة، تمّ تثبيتها بعد استقلال البلاد، غالباً ما يكون مركزها العاصمة. لكن المُثير هذه المرة، هو أن مغنيي الراب -جزائريين كانوا أم مغاربة- استلفوا دورا بدور العديد من الكلمات والعبارات من لغة الآخر لهجائه.
ربما كان الأمر أسهل للجزائريين، سكان “المغرب الأوسط” والذين يمتازون بلسان وسط بين التونسية والمغربية، حيث أن يوبي أو فلان أو حتى تراب كينغ في أغنيته الساخرة “الملك السابع” استعملوا جملاً طويلة بالمغربية بعدما تذرّع بعض المغاربة بأنهم لا يفهمون هجاء الجزائريين.
أمّا بعد
إذا تقابل اثنان من الرابرز الموهوبين في بيف متكامل فسيخرج كلاهما فائزاً على صعيد ما. الراب ليس مقابلة رياضية، والبيف جزء لا يتجزأ من هذا الفن، بل هو من مفاتيح الإقبال الجماهيريّ عليه، وهذا ما يدركه عشّاق هذه الثقافة جيّداً.
أكثر من 100 أغنية كانت حصيلة الراب الجزائري في هذا الأسبوع. محكّ حقيقيّ للرابرز استطاع الجمهور من خلاله ضبط معاييره من جديد. ظهرت من خلال هذا البيف ملامح مميزة لهوية الراب الجزائري كالإحترام الكبير الذي يحظى به ممثلو الجيل القديم ك TOX و MBS، كما اكتسب الراب قاعدة جماهيرية جديدة اكتشفت للتوّ أن لها رابرز تستطيع الإستمتاع بما يقدّمون.
على صعيد آخر، أظهر هذا البيف أيضاً بعض عيوب الراب بشكل جليّ، ولعلّ افتقار الرابرز لثقافة (وربما إمكانية الحصول على) “هوم ستوديو” يعدّ أبرزها. فهل سيكون اكتساح أغاني الراب للتوندونس الجزائري فرصة لخلق حركية إنتاج غير مسبوقة؟ هل ستدور عجلة الإنتاج في الراب الذي صار يزاحم أغاني الراي في اليوتيوب ولكنّه لا يملك مثلها ملاهٍ ليلية هي بمثابة هوامش تتحرك فيها أموال كثيرة تُولّدها السوق الموازية؟
كثيرون اكشتفوا أيضاً أن الراب صادم، حقيقي مثل الشوارع التي خرج منها، ولكنه -مثلها أيضاً- صادم وعنيف وبذيء. لكن النقطة التي اكتشفناها نحن، أبناء جيل اليوم، والتي قرأناها على وجوه “الأبطال” مثلاً، هي كمية الكليشيهات والأفكار المسبقة التي يعرفها أغلبية أبناء الشعبين عن بعضهم البعض.
فمثلاً، بالنسبة لجزائريين يحملون تلك الكليشيهات، ليس المغرب سوى “بلد للسياحة الجنسية عجز عن تحرير أجزاء من أرضه”، أما من الجهة الثانية للحدود فيتصور كثير من المغاربة أن الجزائريين لا يأكلون الموز بسبب ما أخبرهم به آباءهم عن جزائريين كانوا يشترون الموز بالجملة نهاية الثمانينات في أسواق المغرب، وأن الشعب الشقيق هو “شعب هجين صنعته فرنسا ولا يملك جذورا في التاريخ”.. غيرها من الأفكار والصور الهجائية التي ساهمت فيها نزاعات وحدود مغلقة، جعلت أجيالاً تكبر وهي مقطوعة عن بعضها.