كانت تفصل السودانيين عن الانتخابات التي قررت في 2023 أقل من عامين، في هذه اللحظة يفكر البعض منا أن ما يحدث منذ 25 أكتوبر محض كابوس ولا بد أن ينتهي، لكن صبيحة ذلك اليوم التي بدأت بمارشات عسكرية وانقطاع مفاجئ لبث التلفزيون ثم قراءة البيان الأول لقائد الانقلاب عبد الفتاح البرهان الذي وصفه “بالإجراء التصحيحي” لمسار ثورة ديسمبر، لا تبشر بأن نهاية الكابوس قريبة، بل إن الأمر يبدو كما لو أن الخطوات التي أخذناها إلى الأمام تقهقرت مئات الخطوات، هل انهار كل شيء؟
الأحد، 21 نوفمبر.. حمدوك في القصر الرئاسي
بينما كانت قوات الشرطة تطلق البمبان على المحتحين في موقف جاكسون، وصل حمدوك إلى القصر الرئاسي لتوقيع اتفاق عودته، سرعان ما ارتجل المتظاهرون هتافًًا مناوئًًا “حمدوك يا ني الشارع حي” بعد أن كانوا يرددون “شكرًا حمدوك”. بعضهم وصف الاتفاق بالخيانة، بعضهم اعتبر أن هناك خطة غير معلنة وراء توقيع حمدوك وأن الأمر فوق مستوى فهمنا ووراء الأكمة ما وراءها، ارتفع منسوب السخرية عند البعض؛ علقت الناشطة تيسير عوضة على فيسبوك “في النهاية حمدوك طلع مُحلِّل زي الواد سيد الشغال؟”.
17 نوفمبر.. دماء ولاءات ثلاث
أطلقوا الرصاص على من سموهم” الجيل الراكب راس”، وبدا كما لو أن هؤلاء مستعدون للموت دون أن يمنع ذلك أن الواحد منهم يحاول أن يحمي الآخر، ثمة من يصوّر شابًا يعيد القنابل المسيلة للدموع لأصحابها، القنبلة تسقط وهو يمسكها ويرميها من جديد، بينما رفاقه يحاولون إسعاف مصاب أو حتى شخص ميت، كانوا يعلمون أنه سقط، توقف نبضه وهم يعرفون أنهم يحملون شهيدًا لكن ذلك الخيط الرفيع من الأمل بأن رمقًا من الحياة قد يدب فيه كان يجعلهم يستعجلون في حمله إلى الإسعاف. كيف طردوا الخوف وهم يهتفون “رص العساكر رص الليلة تسقط بس”؟ ألم يعد لديهم ما يخسروه؟ رفعوا لاءاتهم الثلاثة: لا تفاوض، لا شراكة، لامساوامة.
لعل اختيار قادة الاحتجاجات لتاريخ 17 نوفمبر لم يكن من باب المصادفة، ففي مثل هذا اليوم من عام 1958 نفذ الفريق ابراهيم عبود القائد العام للجيش انقلابًا غير دموي واستلم السلطة بناء على طلب من رئيس الوزراء عبد الله خليل، آنذاك كانت الخلافات بين الأحزاب السودانية قد وصلت إلى طريق مسدود، سقط عبود بثورة شعبية في أكتوبر 1964، لكن التاريخ يعيد نفسه على شكل تراجيديا.
كانت السلطة قد دفعت التعزيزات الأمنية الضخمة عشية الثلاثاء لشوارع الخرطوم قبل أن يعلن التلفزيون السوداني عن إغلاق أربعة جسور من جملة عشرة تربط بين مدن العاصمة المثلثة، حجبت الاتصالات والانترنت.
رغم ذلك كان المتظاهرون على موعدهم اليومي، الواحدة ظهرًا بتوقيت الثورة كما يحلو لهم، وتدفقت الحشود في شارع الشهيد عبد العظيم بحي الموردة الأمدرماني (الأربعين سابقًا)، أشهر أحياء الثورة، الى جانب شارع المطار بالخرطوم والمؤسسة ببحري، وهناك بدأت المواجهات العنيفة بين المحتحين والاجهزة الأمنية وسط الهتاف: “يسقط يسقط حكم العسكر .. حكم العسكر ما بتشكر”، “ما تدي قفاك للعسكر … العسكر ما حيصونك .. بس تدي قفاك للشارع .. الشارع ما ح يخونك”، “السلطة سلطة شعب والجيش إلى الثكنات”.
السودانيون في البيوت تسمروا أمام شاشة “الجزيرة مباشر”، المحطة تتصدر في تغطيتها لأحداث السودان حاليًا، وصلت الأخبار من “المؤسسة بحري“، لم يرحم الانقلابيون أحدًا، استهدفت أسلحتهم المحتجين والمسعفين معًا، لم يسمحوا بوصول المصابين إلى المستشفيات، داهموا البيوت بحثًًا عن المتظاهرين، ضربوا المشاة في مواكب تشييع الشهداء الذين وصل عددهم إلى 16 شهيدًا، أطلقوا الرصاص والغاز المسيل للدموع داخل المنازل، وتعمدوا تكسير مصابيح الإضاءة، ضربوا الناس بالهراوات دون مراعاة لسنهم ووصل عدد المصابين والجرحى إلى ثمانين، بحسب “لجنة أطباء السودان المركزية”.
خلال المظاهرة وبينما يقوم زميلنا الصحافي علي فارساب من صحيفة “التيار” بتغطية الأحداث، اجتمع عدد من عناصر الشرطة، بحسب شهود عيان، حوله وأبرحوه ضربًا ثم اعتقلوه. ورغم محاولات المحامين الإفراج عنه بالضمان الا أنه لايزال محتجزًا بقسم المقرن بالخرطوم ولم يعرض على الأطباء، ومن المتوقع إيداعه سجن ضاحية سوبا الواقعة على الضفة الشرقية للنيل الأزرق.
13 نوفمبر.. ضرب، اعتقال، عطالة.. عن أحوال الزملاء
لم يعد بإمكاني الكتابة طيلة الفترة السابقة ومراسلة المواقع التي أتعامل معها، مع انقطاع الإنترنت والخطر الداهم في الطرقات كان من الصعب الوصول إلى مكان أرسل منه أي مادة صحافية، كنت أتصل فقط للاطمئنان على زملائي، سمعنا عن اعتقالات همجية بلا مذكرة قانونية لعدد من الصحفيين منهم، ماهر أبو الجوخ، وفائز السليك، وفيصل محمد صالح، وصل خبر لم نتأكد منه عن اعتقال الصحافي الحاج وراق.
ظلت أخبار اعتقال الصحفيين تصل تباعًا..
في يوم 13 نوفمبر أصيب حمد سليمان الخضر برصاصة أثناء تغطيته للمظاهرات قرب مستشفى التيجاني الماحي بأم درمان. وحقق الأمن مع أسامة سيد أحمد مراسل قناة الجزيرة بولاية القضارف ومنع من الوصول لموقع الحدث، وتعرض الصحفي حذيفة عادل الجاك لاعتداء لفظي وجسدي من قبل أفراد من الأمن، واعتقل في ولاية جنوب دارفور غربي السودان عبدالمنعم محمد مادبو مراسل دارفور24،
تذكرت الصحافي اباذر ابراهيم مسعود في نيالا جنوب دارفور المعتقل منذ 25 أكتوبر، حتى لحظة كتابة هذه السطور لا توجد معلومات عن أوضاعه الصحية أو مكان اعتقاله.
اتصلت بزميلي أحمد حمدام مراسل وكالة “إرم نيوز”، كانت قنبلة مسيلة للدموع أصابته في رأسه يوم 21 أكتوبر أمام البرلمان السوداني، مما استلزم تدخلًا جراحيًا، وفترة نقاهة بالمنزل استمرت نحو اسبوعين، توقف خلالها عن العمل ومع انقطاع الإنترنت لم يتمكن من إرسال التغطيات للوكالة، وفي الوقت نفسه قامت قوات الانقلابيين باقتحام مقر صحيفة “الديمقراطي” التي كان هو أحد محرريها، قبل أن يقرر مجلس إدارة الجريدة تصفيتها وتسوية حقوق العاملين بها. حدثني حمدان بأن الوضع الضبابي وانقطاع الإنترنت يدفعانه إلى التفكير في العودة إلى مسقط رأسه شمال كردفان والوقوف على حصاد زراعته لتأمين مصاريف عائلته.
اما مراسل “العين” الصحفي مرتضي أحمد، فقد قرر تحويل سيارته الخاصة الى مركبة أجرة بعد انحسار دخله بسبب تعطيل خدمة الإنترنت في السودان، لمجابهة نفقاته اليومية، بعد مرور خمسة أيام من الإنقلاب. وكشف أن هناك مراسلين استخدموا الرسائل النصية لارسال موادهم الخبرية رغم تكلفتها.
الجو العام.. بخصوص كل يوم
أين اختفت “نيجرز” و”تسعة طويلة” التي روعتنا الأشهر الماضية؟ مع كل هذه السيولة الأمنية لكن أخبار حوداث النهب والسطو اختفت تقريبًا، الناس بدأوا يصدقون ما تردد طيلة الفترة الماضية من أن تلك العصابات صنيعة الأجهزة الأمنية وأنها تستخدمها لتحقيق أجندة سياسية وأمنية معينة.
خرجت إلى مكان عملي واستغربت! فبالرغم من استئناف الحركة بالكباري الا أن شللًا تامًا يسود المدينة، صحيح أن محلات قليلة فتحت هنا وهناك والطريف أن بعض أسواق الذهب وسط الخرطوم فتحت أبوابها أيضًا، لكن دولاب العمل متوقف، ثمة عصيان مدني غير معلن على ما يبدو. في الأيام الاولي لسيطرة العسكر امتدت الصفوف أمام المخابز لساعات طويلة وأغلقت المصارف وشبكات الصرف الآلي وتعطلت التحويلات المالية.
لكن أسعار بعض المواد الضرورية هبطت منذ أن فتحوا طريق بورتسودان؛ مثلًُا تراجع سعر جوال السكر زنة 50 كيلو من 40 ألف إلى 15 ألف جنيه. كذلك هبط سعر كيلو الدقيق من 800 جنيه إلى 400 جنيه. رغم ذلك رفعت المخابز التي توفر الرغيف المدعوم، على قلتها، سعر الرغيف من 30 إلى 40 جنيهًا،
الأمر لا ينطبق على الوقود، طبعُا فالوقود الرخيص يعني سهولة الحركة وهذا ما لا يريدونه هذه الأيام، لهذا اختفت الصفوف من أمام محطات الوقود الذي فرض الانقلابيون عليه زيادات جديدة غير معلنة رسميًا، حيث ارتفع لتر الجازولين من 305 إلى 347 جنيهًا (0.79 دولار) ولتر البنزين من 320 إلى 362 جنيهًا (0.82 دولار تقريبًا) تلك الزيادة ستترتب عليها زيادة في تعريفة النقل العام وأسعار السلع والخدمات وستضع السوق على صفيح ساخن.
مهمة صعبة.. البحث عن حليب أطفال
اتصلت بصديقتي أمل الحسن، قالت إنها لن ترسل ولديها إلى المدرسة، مثلها مثل معظم الأمهات في السودان التي تتردد في ارسال أبنائها للمدارس خشية المواجهات الدامية بين الأجهزة الأمنية والمتظاهرين كما أن إغلاق الشوارع الرئيسة منع التلاميذ من الالتحاق بمدارسهم.
من الأساس كان هناك تخوف من هذا العام الدراسي، منذ أن أضرب المعلمون في بدايته احتجاجا على الهيكل الراتبي، كان ذلك قبل الانقلاب، كل الأمور عالقة الآن، الشوارع المغلقة تخفيف الجميع وتعيق وصول الطلبة إلى مدراسهم أصلًا.
خرجت أبحث لطفلتي عن حليب، ليس سهلًا العثور على الفورميولا الخاصة بالأطفال منذ مدة، في التاكسي أخبرني السائق أنه أرسل زوجته وأبنائه إلى القاهرة حيث يقيمون في شقة صغيرة بعين شمس. يقول إن كثيرين يفكرون في ذلك الآن، وهذا صحيح، بل إن عددًا من العائلات السودانية التي استشعرت أن الأوضاع غير مستقرة أرسلت عائلاتها منذ بداية العام الدراسي تحسبًا لأسوأ الظروف.
أثناء ذهابي وإيابي من العمل أراقب الدبابات المنتشرة بكثافة ومدرعات الجيش أمام القصر الرئاسي وبنك السودان المركزي والمؤسسات الحكومية، الشوارع خلت من المارة، الطرق الرئيسية ومداخل ومخارج المدن الثلاثة مغلقة إما بالمركبات العسكرية أو بحواجز المحتجين.
من الصعب الوصول إلى أي مكان، أيًا كانت أسبابك ستجد من يعرقل وصولك، خاصة إذا كان طريقك سيمر من أحد الكباري، فالإجراءات الاحترازية حولت الخرطوم إلى ثكنة عسكرية. آمنة السيدة الستينية المصابة بداء السكر، خضعت لعملية في اليد لاصابتها بالغرغرينا، مما يتطلب تغيير الضمادات ومقابلة الطبيب كل خمسة أيام ، أخبرتني كيف منعها جنود الجيش من عبور جسر شمبات الرابط بين أمدرمان والخرطوم بحري. طلبوا منها التوجه إلى جسر الحلفايا الرابط بين محلية كرري ومحلية بحري، وهناك سمحوا لهم بالعبور بعد أن تحققوا من هوياتهم وأوراق المستشفي والتحاليل الطبية. قالت إنها كانت قلقة لأن الانتظار تطلبت الكثير من ضبط النفس لكي لا ينجر أبناءها لاستفزازات بعض جنود الجيش.
في كل الحالات يظل السائقون في الخرطوم على طبيعتهم، يتذمرون من الزحام والتحويلات مثلما يفعلون في الأيام العادية. في طريقي إلى المكتب، يبدي عيسي سائق الترحيل سخطه من المسارات المغلقة سواء بواسطة الجيش أو المحتجين يقول إن ذلك يخنق الخرطوم بالزحام، ويحاول سلك طرق فرعية أخرى فتظهر مهارته في الاحتيال على الأزمة، هكذا إلى أن يصل إلى مكان العمل في وقت الدوام بالضبط. ومع أن الأمر أصبح معتادًًا، إلا أن عيسى اعتاد على الشكوى من أن ذلك (ذلك قد يعني الانقلاب أو المظاهرات أو إغلاق الشوارع) يضاعف صرفه على الوقود.