عشتُ عمرًا طويلًا قبل أن أتعرف على بطني. هذا الجزء تحديدًا من جسمي كنت أحاول تجاهله قدر الإمكان. بطني هي كرشي، هي علامة إصابتي بتكيس المبايض، هي كوب القهوة الزائدة الذي لا يفهم من حولي لماذا أحتاجه. هي من جعلت من حملي معجزة وليس حدثًا واردًا. هي صداع منتصف اليوم، هي وزني الزائد وعلاقتي المتوترة بالملابس. هي حبي للون الأسود، واضطراري لارتداء المزيد من الطبقات في حر أغسطس الذي لا يرحم.
هي السبب في إدخار أمي لعملية حقن مجهري أحتاجها لا محالة، هي بشرتي التي مازالت تكون حبوب شباب بالرغم من تركي للمراهقة منذ زمن، هي من جعلت الطعام يلتهمني ولا ألتهمه. قضيت وقتًا طويلًا أتجنبها وهي تشكلني، وبالتالي أتجنبني، حتى وقفت وجهًا لوجه أمامها في غرفة ممتلئة بالمرايا لا أجد منها مهربًا.
الهروب من الكارديو
كنت ألجأ أحيانًا للرقص في حجرتي تحايلًا على تمارين الكارديو التي تملأ اليوتيوب وتعدني بخسارة سنتيمترات بطنى البارزة. ظننت أن الرقص أسهل حتى رافقت صديقتي إلى ورشة لتعليم الرقص الشرقي. هي تدرب الرقص إلى جانب دراستها للطب، ومع الجلسة الأولى أدركت أن ما أقوم به بمفردي هو بكل فخر عجين الفلاحة. تملكني الفضول بسبب حديثها عن الرقص ليس كمهارة تجيدها وتجيد تدريبها، لكن كطوق نجاة انقذها لمرات. ولم أفهم كيف لتلك الحركات المحكومة بمساحة متر في متر أن تغير أي شئ. وظننت أن استخدامها لكلمة إنقاذ في هذا السياق مبالغة حتى انضممت إلى ورشتها.
تدرب صديقتي الراغبات في أحد مراكز تعليم الرقص والموسيقى بالإسكندرية. عادة ما تتسم حجرات تعليم الرقص بجدران تسودها المرايا. أصبح واجبًا عليّ أن لا أنكشف فقط أمام أعين غريبة، لكن أمام عيني أيضًا. تدريجيًا تحولت نظرات المتدربات إلى نظرات أليفة، وبقى الانكشاف أمام نفسي هو التحدي الحقيقي. في التدريب، نقف خلف المدربة على تفاوت أعمارنا، نقلد الحركة المركزية للرقص الشرقي..
1- لابد أن تلتصق القدم بالأرض لا مجال لرفعها.
2- على المتدربة أن تثني ركبتيها وتثبت.
3- تحريك الفخذ إلى الأعلى وإلى الأسفل.
عندما اتبعت تلك الخطوات اكتشفت أن لدي مفصل للفخذ وأن بإمكانه أن يتحرك بمعزل عن باقي الجسد. أقول اكتشاف لأننا عادة ما نعامل أجسامنا على أنها كتلة واحدة بلا تمييز. لتقريب الصورة، يمكننا أن نراقب طفلًا يتعلم المشي، سنلاحظ ذلك التقطيع المحبب في الحركة، تلك التراتبية في تحريك المفاصل وهي تمتزج بالتدريج لتصنع أولى انتصاراتنا وتعلن عن انسجامنا الأول مع الجاذبية.
مع مرور الوقت، ننسى أن عبقرية أجسامنا تكمن في تعقيدها، نحط من قدر هذا التعقيد بتجاهله، نتوقف عن الشعور بأصابع أقدامنا، حتى نصدمها في غفلة، فينبهنا الألم لمقدار ثرائها بالأعصاب. يعيد تعلم الرقص الشرقي علاقة المتدربة بتعقيد جسدها دون ألم، وربما بالقليل منه.
ولكنها تدور
تتسم حركات الرقص البلدي بالحساسية المفرطة. ليس عبثًا أن تكون بدلة الرقص على شكلها المعروف كاشفة تحديدا لمنطقة البطن. ومن المنطقي أن يكون مرادف الرقص الشرقي\البلدي هو هز الوسط. تلك الحركة المعقدة تحتاج إلى شهور من التدريب. في البداية، نسيت القاعدة الأولى ورفعت قدمي عن الأرض، حينها تحرك الجسد كله، ولم يهتز الوسط. كنت أقرب إلى بلهاء تقفز في مكانها، حتى لمست الأرض مجددًا وثبت القدم. لحظتها شعرت كأن عقلي أنتبه إلى مسار تحريك الوسط. وصنعت أول موجة ناعمة. تلك الموجة التي يمكن للمتدربة أن تزيد من درجة اهتزازها لتقوم بهز الوسط كاملًا يمينًا ويسارًا، وكلما تمكنت من ايقاع الحركة وقوتها، يمكنها أن تصل للرعشة الملحمية المعروفة.
تعلم أم ممارسة
ببحث سريع عبر محرك جوجل لكلمة bellydance نجد ما يصل إلى حوالي 74 مليون نتيجة باللغة الإنجليزية، وقرابة 15 مليون نتيجة لكلمة الرقص الشرقي باللغة العربية. هناك ندرة في المصريات اللاتي تعلمنه. هل يميل المزاج المصري إلى الممارسة أكثر منه للتعليم؟ أم أن الأمر أعقد؟ هناك تنوع كبير في الجنسيات التي تعلم الرقص الشرقي. يجمع بينهم الكثير من قواعد التعليم الأولية، لكن تبقى الصبغة الثقافية لكل جنسية حاضرة. الأسيويات بأجسادهن النحيلة يقمن بكل الخطوات بدقة متناهية، أقرب إلى روبوتات بحركات حادة، لا مجال فيها للمسات الفردية. لكنني أفضل المعلمات اللاتينيات بأجسادهن الأقرب للأجساد الشرقية، حيث يصنعن مزيج مبَهر من النعومة البلدي والإغواء اللاتيني. يمكن للراغب في التعلم أن يجد الكثير من الشرح الذي يفك عقد تلك الحركات، ليست بسيطة كما تبدو من الوهلة الأولى، ونحتاج لتعلمها تمييزًا مبدئيًا بتشريح الجسد، لكن لا تجربة تعادل تجربة التعلم الفعلي في ورشة للرقص.
خطوات أولى
تتنوع الأسباب التي تلتحق بها المتدربات بالورشة. هناك من تأتي أملًا في إنقاص الوزن، فالرقص وسيلة أكثر حرية ومتعة من ممارسة الرياضة في الجيم. هناك من نصحها طبيبها النفسي بالخروج من المنزل وخوض تجارب جديدة لمحاربة آثار تجارب قديمة قاسية. هناك من تأتي بحثًا عن الرفقة والمزاج الخفيف، فالورشة أقرب ما تكون إلى ليلة حنّة لصديقة ولكنها تقام أسبوعيًا. وهناك من أوشكت على الزواج، والتحقت تنفيذًا لرغبة شريكها. هناك الكثير والكثير من الأسباب وتأتي في أخر القائمة من تلتحق لتتعلم الرقص فعلًا كمهارة قائمة بذاتها.
لكن مع اختلاف الأسباب وتنوعها، هناك تغييرًا ملموسًا لا يمكن تجاهله يحدث عبر مدة التدريب، أحيانًا بوعي من المتدربات وأحيانًا دون حتى أن يدركوا كيفيته، لكنه يحدث.
هناك من تأتي أملًا في إنقاص الوزن، وهناك من نصحها طبيبها النفسي بالخروج من المنزل وخوض تجارب جديدة لمحاربة آثار تجارب قديمة قاسية. هناك من تأتي بحثًا عن الرفقة والمزاج الخفيف، فالورشة أقرب ما تكون إلى ليلة حنّة لصديقة ولكنها تقام أسبوعيًا. وهناك من أوشكت على الزواج، والتحقت تنفيذًا لرغبة شريكها
في الدقائق الأولى من الورشة، يطغى على الحجرة إضاءة خافتة، وموسيقى أهدأ، تطلب منا المدربة أن نتحرك بحرية في المكان. أن نسير، أن نقفز، أن نرقص، أن نحرك أطرافنا ونهزها كمن يوقظها من سبات عميق. في المرحلة الثانية، توزعنا إلى ثنائيات، تطلب منا أن نرقص سويًا، أن نتوقف عن استخدام الكلام ونبدأ في قراءة لغة الجسد، عسى أن نتمكن من كسر ألواح الحرج والشعور بالخجل من أن نتحرك أمام آخر. لا وجود هنا للاحترافية أو السخافة أو الجمال. لا وجود لأحكام مسبقة. لسنا على خشبة مسرح، ولا جمهور لنا، الهدف أن نتحرك ونمزج أجسامنا مع الموسيقى، أن نتعلم أن نأمر أجسامنا فتطيع، نقول للذراع.. تموج، فيتموج.
في لحظات تتحول الحجرة إلى صخب لا يمكن تفاديه، يتوافد زخم الطاقات والنور الأصفر الساطع، ومفضلات الأغاني. نتقدم بالدور لأداء عرض فردي، نرقص كما لو كنا وحيدات في حجراتنا. وبالرغم من كل التمهيدات السابقة، نعرف أننا لسنا فعلا في حجراتنا ونرتبك.
البحث عن كوكتيل منطقي
إن كنت مثلي تنتمي إلى أسرة متدينة محافظة من الطبقة المتوسطة، فأنت تعلم جيدًا أنه لا مجال للفردية في منازلنا. تحصر أمهاتنا علاقتنا بجسدنا في قواعد النظافة الشخصية، وكود الملابس الذي يذيبنا في المجتمع من حولنا. وما عدا ذلك يغلفنه بالكثير من العيب والحرج. قد تتحول فتاة إلى موضوع للغمز إذا تركت لنفسها العنان ورقصت بمهارة في فرح ما، وقد تصبح سيدة عرضة للتنمر إذا إرتدت بلوزة تظهر معصمها أو لفت الحجاب وظهر منه رقبتها، حتى المنقبات لا يسلمن من السخرية، إذا كشفن الوجه لالتقاط صورة عائلية فهن مفرطات وإذا غطينه فهن أشباح في بدل نينجا سوداء. كل فعل ومعكوسه تقوم به السيدات سيستخدم ضدهم لاحقًا.
تحصر أمهاتنا علاقتنا بجسدنا في قواعد النظافة الشخصية، وكود الملابس الذي يذيبنا في المجتمع من حولنا. وما عدا ذلك يغلفنه بالكثير من العيب والحرج
يسيطر الارتباك علينا بالدور أثناء الرقصة الفردية. حينها تقترح المدربة على الراقصة أن تغمض عينيها، وأن تركز فقط مع جسمها. تفلح الخدعة في كل مرة، وفي منتصف الرقصة تفتح المتدربة عينيها على كامل جسدها معكوس على المرآة الضخمة، تراقب ما يفعله جسمها مثلما نراقبها. حينها ندرك أننا على استعداد لتفصيل الحركات. نبدأ في تجريد الرقص من الحرج والخجل والإغراء والثقل، ونحاول أن نتعلم عناصر درس اليوم حتى نتمكن من تعلم المنهج كاملًا. نركز كيف نصنع علامة إنفنتي بالورك، أو نرّعش ونحن نسير، أن نجرب ضمة الورك ونلضمها بدوران في المكان، أن نقبض على العضلة التي تهز الصدر يمينًا ويسارًا، وتلك التي تهزه إلى الأعلى وإلى الأسفل. ونقع في الورطة الكبرى، كيف نشكل في النهاية كوكتيلًا منطقيًا من كل هذه الاحتمالات اللانهائية؟
تقترح المدربة على الراقصة أن تغمض عينيها، وأن تركز فقط مع جسمها. تفلح الخدعة في كل مرة، وفي منتصف الرقصة تفتح المتدربة عينيها على كامل جسدها معكوس على المرآة الضخمة، تراقب ما يفعله جسمها مثلما نراقبها. حينها ندرك أننا على استعداد لتفصيل الحركات
عندما أشاهد فيديوهات رقص عبر تطبيق التيك توك، أو يقع تحت عيني مصادفة فيديو من حفل زفاف شعبي، منصوب له سرادق في الشارع، تذهلني التلقائية والمهارة، يبدو الجيل الأصغر أكثر تحررًا، ومع تغير الطبقة الإجتماعية، تتغير كل عناصر معادلة الجسم. أعرف أن الرقص ليس للجميع، لكن يبدو أن هذه الشوادر تسمح بالفردية، تتعطل عوامل الخطر بين العمدان الخشبية، وتصنع مساحة شبه آمنة، ضوء أخضر لمن تستطيع، وأذن بالتألق.
تنتهي الورشة عادة بالجلوس أرضًا، وبسحب الطاقات بالتدريج. تطلب منا المدربة، أن نلمس كل شبر في جسمنا. من الشعر نزولا إلى أصابع الأقدام، بالتدريج وبروية. ربما يبدو للبعض فعلًا عبثيًا بلا جدوى، وشعرت به كأنما أسلم بكفي على أصدقاء جدد عادوا من سفر طويل. أهلا خصلات شعري وأهلا كتفي.
وأنت تصادق جسدك يصبح من السهل أن تكون صداقات جديدة. لا يتوقف الحديث الذي بقي معطلًا لمدة طويلة. قد نبكي، وقد نشعر برغبة جارفة في الضحك.
سد فجوة بين ذاكرتين
حكت لي المدربة أن الاستماع إلى الجسم والعناية به لمدة طويلة يربي في داخلنا رهافة وحساسية عالية بأبسط مشاعره. تلك الحساسية المفرطة تمكنها من فهم شعور كامل جسدها، حتى أصابع قدميها. حكت أنها تعرضت لموقف سخيف في أحد أماكن تدريب الرقص في القاهرة. كان عامل النظافة في المكان يتعمد أن يفتح باب حجرة التدريب فجأة أثناء رقص المتدربات، متصنعًا الجهل كأنه لا يعلم أن الورشة دائرة. تلصصه المتعمد، حفز فيها وفي المتدربات شعورا بالحذر أتين بالأساس للتخلص منه، أو للتقليل من حدته في أحسن الظروف.
أبلغت عنه إدارة المكان وتمكنت من وضع قواعد لفتح باب الحجرة وغلقها أثناء التدريب. لكن جسمها لم يتوقف عن الشعور بالخطر كلما زارت المكان. حينها فهمت أن لجسمها ذاكرة منفصلة، وأن الرقص يساعدها على أن تصنع تناسقا ما بين الذاكرتين. سد تلك الفجوة هو أقصى نجاح يمكن أن نصل له ونحن نتواصل مع أجسامنا ونعيد اكتشافها.
إمكان
يعلمنا السير في الشوارع المصرية الاحتراس، ويعلمنا أيضًا أنه بلا جدوى، لكننا لا نتوقف عن اتباعه. نستعد للخروج إلى الشارع، وتفاجئنا الخطوة الواثقة التي طالما تعلمنا كبتها. نشعر أن هناك من سحب ظهورنا إلى الأعلى، وكأن من تستطيع أن تنظر إلى نفسها وهي ترقص، يمكنها أن تنظر إلى أي وجه أخر، صديق أو غريب، ودود أو معتدي. تلك المهارات الناعمة، تكتسبها المتدربات كهدايا إضافية لم يسجلن للحصول عليها. أعتدت على المذاكرة كتابة، أخلق ليدي ذاكرة، حتى عندما يخذلني عقلي تنقذ هي الموقف. وفي ورشة الرقص خزن جسمي شعورًا بالأمان نادرًا ما شعرت به في مكان أخر.