طرابلس، هانيبال 2008، الشهر الجماهيري لأغسطس، كان موعدي الأول مع الإيفكو، عرض عليّ محمد، ابن عمي الذي يستخدم الحافلة للوصول إلى جامعة الفاتح، أن يرافقني للمحطة في البلدة. قطعنا البساتين المتبقية فيها، مسافة كيلومتريْن، لنصل لها.
“أولاً عليك معرفة الإشارات التي يستخدمها السائقون”، يقول لي محمد، يرسم لي الإشارات التي عليّ فهمها وحفظها جيداً حتى لا أجد نفسي في المكان الخطأ. حرّك إصبعه السبابة في الهواء في حركة دائرية، ” هذه جزيرة الفرناج”، “عليك أن ترخي يدك، وتشير إلى الغرب لتخبره أنّك تريد الذهاب للمدينة”، يضيف، و”إذا أردت العودة، فعليك استخدام الإشارة ذاتها ولكن إلى الشرق”.
يتابع محمد شرح خريطة الإشارات، “احذر، بعض سائقي الإيفكو لا يقطعون كل الطريق إلى تاجوراء، ستعرفهم عندما يفتحون أكفهم ويغلقونها علامة على ضوء إشارة المرور البيفيو”. قال محمد الملاحظة المهمة في مسار عودتي، لا تركب أبداً في الإيفكو التي تريد الذهاب للبيفيو، مدخل تاجوراء الغربي.
وكالبيفيو التي حولّها لسان الليبيين إلى بيفي، كلمة إيفكو هي إيطالية، تعود ملكية الكلمة والعلامة التجارية إلى شركة IVECO، إحدى العلامات الفرعية لشركة فيات FIAT الايطالية.
أُسست شركة آيْفيكو لصناعة الحافلات والشاحنات سنة 1975 وفي السنة التي تليها، تأسست شركة الشاحنات والحافلات الليبية بموجب قرار (102) بالشراكة مع الشركة الإيطالية. كان ذلك بعد سنوات قليلة على إعلان النصر على كل ما هو إيطالي وغربي ورجعي.
يرسم محمد علامة النصر، “هذه تعني أنّك تريد الذهاب إلى السبعة”، أسأله عن السبعة وأين تكون؟ “بالقرب من الجديْدة”، أعرف المكان، فهو السجن الذي يودع فيه النظام القتلة والسرّاق وبقية “حثالة المجتمع” والتي لا يستحي محمد أن يصنّف سائقي الإيفكو من ضمنهم.
● إذاً كيف أخبره أنني أريد الذهاب للجامعة؟ سألتُ محمد.
● سهلة، فقط ارفع يدك عالياً، أغلق قبضتك وكأنك تهتف الفاتح أبداً. قال لي.
تشريح الهيكل الخارجي
وقفتُ في المحطة في ذلك اليوم الصيفي، لم تكن المحطة محطةً كما قد تظن، وإذا لم تكن من أهل البلد ولم تجد أي حافلة واقفة فيها، لن تعرف أبداً أنّها محطة وقوف سائقي الإيفكو، فهي دون علامات أو إرشادات على وجودها، بعيداً عن رفاهية وجود مقاعد وسطح يقي من الشمس والمطر.
جاءت الحافلة، كانت بيضاء، تختلف نسبة بياضها بمدى اهتمام سائقها بها، في منتصف جسدها خطان أصفران يشيان بأنّها “سيارة عامة”، وجه يشبه شاحنات الإيفكو ديليْ لنقل البضائع والتي كنا نملك واحدة منها. لوحة برتقالية وكلمة “الجماهيرية” توحي بأنّها عامة إذا غاب عنك تلميح الخطين الأصفريْن على جسدها. شعار شركة الشاحنات والحافلات الليبية يستبدل شعار شركة إيفكو في مقدمة السيارة، الإشارة الثالثة على كونها عامة.
في ذلك الوقت كان هناك نوعان من السيارات، “ركوبة خاصة” و”ركوبة عامة”، كان التفريق بينهما سهلاً في الثمانينيات، بلون أخضر وكلمة “ركوبة خاصة” على السيارة الخاصة، و”ركوبة عامة” بلون برتقالي على السيارات العامة، التي تعود ملكيتها للدولة.
كل السيارات التي تضع اللون البرتقالي هي سيارة تعود ملكيتها للدولة، ولكن يمكن لسائقها الانتفاع بها في خدمة المجتمع. تنتشر السيارات العامة في المؤسسات التابعة للحكومة، كانت هناك عبارة ساخرة تدور حولها، لأنها غالباً ما تكون معطّلة نظراً لعدم اهتمام سائقها بها، فهي في النهاية هي ليست ملكه، كانت العبارة تقول “رزق حكومة…. ربي يدومه”.
ولكن يبدو أنّ رزق الحكومة لم يدم، فبعد أن كانت الإيفكو ملكة الطريق، تناقصت أعدادها منذ الثورة.
تشريح شخصيات ثانوية
إذاً، فأنا لازلت في هانيبال 2008.. توقفت الحافلة في المحطة، نزل منها شاب يبدو من ملابسه أنّه من أبناء الطبقة المنسيّة، صاح في الواقفين أن يركبوا، ألقى محمد نظرة نحو السائق الجالس، “لا تركب”، قال لي، ” لننتظر التي تليها، هذا لن يتحرك إلا عندما يعبئ الحافلة”، ” بالمناسبة… هذا البوليطاي”، أضاف.
البوليطاي كلمة إيطالية تعني محصل التذاكر (بيليتايو). فقبل أن تتغذى السوق الليبية بهذه الحافلة، كانت الحافلات العامة تتحرك حتى نهاية الثمانينيات بسائق ومحصل تذاكر. كل راكب عليه أن يدفع للبوليطاي عند صعوده للحافلة وفي المقابل يعطيه تذكرة الركوب، أما البوليطاي للإيفكو فلا يحصل التذاكر، عمله تحصيل النقود والتأكد أن كل الركاب قد دفعوا قبل أن ينزلوا إلى وجهتهم.
البوليطاي هو أيضاً المفتش عن “الرباع والخمسينات” في الطريق، لأنّ كل تركيز السائق في الطريق وفي كيفية تجاوزه للسيارات والوصول بسرعة. يعمل البوليطاي على تذكيره بوجود “ربع” (ربع دينار)، وعليه التوقف. الربع هو الراكب المحتمل. يعمل البوليطاي أيضاً كـ “دي جي” وحكواتي ومراقب للركاب ومغازل لبعض الراكبات، وهو أيضاً من ينادي بالركاب بالمحطات الرئيسية المعروفة، كل ذلك من أجل راحة السائق.
بعض السائقين اليافعين يملكون رفيقيْن أو ثلاثة إضافيين يجلسون في الكرسي خلفهم، مهمتهم الترفيه عن السائق وأيضاً كقوة إضافية قد يحتاجها في أي عراك عرضي أو يخطط له في ذلك اليوم، بعضهم لا ينزل من الحافلة ويرافق السائق في يومه كله، البعض الآخر يرافقه في رحلة واحدة
هناك شخصيات أخرى تلعب دورها في منظومة الإيفكو؛ المنسّق، وهو شخصية تقف في المحطات الحيوية لتنظيم العمل بين الحافلات المتراصة، يسيطر على المحطة ويقرر في أي حافلة يركب كل زبون. وهو في العادة صاحب شخصية محبوبة لدى السائقين، وله كاريزما يحترمونها، وجوده في المحطة يقلل من فرص العراك بين السائقين، يتلقى أجراً مقابل ما يفعله، لكن وجوده لا يحترم في بعض الحالات، لهذا يحتاج السائق إلى رفاق الرحلة.
رفاق الرحلة هم ركاب الدرجة الأولى، لا يملك الكثير من السائقين رفاقاً لرحلتهم غير البوليطاي، لكن اليافعين منهم، والذين تبدو عليهم ملامح البحث عن المتاعب، يملكون في رصيدهم في العادة رفيقيْن أو ثلاثة إضافيين يجلسون في الكرسي خلفهم، مهمتهم الترفيه عن السائق وأيضاً كقوة إضافية قد يحتاجها في أي عراك عرضي أو يخطط له في ذلك اليوم، بعضهم لا ينزل من الحافلة ويرافق السائق في يومه كله، البعض الآخر يرافقه في رحلة واحدة.
تشريح الحافلة من الداخل
بعد التجربة الأولى مع محمد، ركبت المئات من الرحلات، حتى توقفت عن ذلك في صيف 2012، تغلبتُ على خوفي من القيادة. في تلك السنوات تعلمت انتقاء الحافلة المناسبة، كانت هناك عوامل تتدخل في اختياري، منها مزاجي اليومي، ذوقي الموسيقي، الوقت، رغبتي في القراءة التي تعد تهوراً، الطقس في الخارج، وتجاربي السابقة مع سائق الحافلة. ولكن أهمها كان تصميمها من الداخل.
كان الاتفاق بين شركة الشاحنات والحافلات الليبية وشركة آيْفيكو فيات، هو تزويد الشركة الليبية بقطع الحافلات والشاحنات، يعمل الفنيون والمهندسون الليبيون على تجميعها وإدخال التعديلات عليها. واحدة من الشاحنات التي أدخلت عليها التعديلات، هي آيْفيكو تربو ديلي، شاحنة كبيرة بصندوق مغلق تستخدم لنقل البضاعة.
حور العمال جوانب الشاحنة ليفتحوا فيها النوافذ ويضيفوا ستة عشرا كرسياً (أو أربعاً وعشرين في موديلات أحدث)، رصفوا الكراسي بصفين، كرسي واحد على اليسار وكرسيين متلاصقيْن في الصف الثاني خلف السائق لتنتج ممراً بين الكراسي ينتهي بثلاثة كراسٍ متلاصقة في مؤخرة الحافلة. ولكن العمال تركوا الباب الخلفي ليكون دليلاً لي على أنّ الحافلة صُنِّعت لتكون شاحنة. لا وجود لحافلة الإيفكو في مواقع فيات، هذا يعني أنّك لن تجدها إلا في ليبيا.
ينتهي دور الدولة هنا، يقدم السائق طلب انتفاع بالحافلة، وتصبح بعد التعقيدات الحكومية والقليل من الوساطة ملكاً شكليا له؛ فالجميع يشاركه في امتلاكها، بدأت الحافلات خجولة مع السائقين السابقين لحافلات الدولة ومن يقاربهم في العمر، لكن تطورها الفعلي بعد أن استلم السائقون الشباب المهمة.
يمكنك قراءة القليل من شخصية السائق من خلال الحافلة التي يقودها، أغلبهم يستفيدون من أسطح الحافلة بتعليق صور لأطفال، صور لفنانات عربيات كنانسي عجرم وهيفاء وهبي وآليسا، البعض يفضل وضع صور لخيول قدسية كأنها تطير في الهواء، قلوب حب، حيوانات، أزهار، شعارات الأندية الرياضية، فناني المرسكاوي الليبيين، أبيات من الشعر الشعب الليبي، وطبعاً صور للقائد العظيم، قبل أن ينتهي دوره، فتستبدل بصور الشهداء، بعضهم يخلط بين هذه الصور.
لا يحوّر السائق السقف فقط ليجعله ما يشبه غرف نوم الشباب في تلك الفترة، بل يضيف لمساته على أغلفة الكراسي والأرضية و”الفودرا” لوحة القيادة أمامه، وعجلة القيادة، وبالطبع، جهاز الاستريو الذي يبدله بجهاز يضخ الدم في أذنيْك، كنّا نسميه “بازّوكا”، ترتج الحافلة ويرتج جسدك مع صوت الموسيقى العالية، كان هناك “إيفكوات” مركب في مؤخرتها جهاز تكييف منزلي، واحدة من أكبر “الموديفيكات”.
الذوق الموسيقي للسائق ومعه مجموعته من الأصدقاء، يمكن أن يصوّر لك الذوق الموسيقي للشباب، كانوا يضعون موسيقى المرسكاوي وبعض الموسيقى العربية، أحب السائقون – قبل أن أترك ركوب الإيفكو- الفنانة آليسا، وأحبوا نانسي عجرم. كان بعضهم يضع أحدث أغاني موسيقى الراب التي تنزل في السوق الليبي، الأغاني الثورية، موسيقى الريقي الليبية والراي الجزائري.
ولكن، إذا أردت أن تجمعهم في هُوية موسيقية واحدة، لن تجد إلا الموسيقى “المرّوكية“. يعشق سائقو الإيفكو الفنانة المغربية سمر راي وأغنيتها يا محياني. حتى اليوم، عندما أنصت للمروكي، لا أتخيل نفسي إلا في الحافلة التي أتاحت لي لأول مرة في حياتي فرصة الخروج من بلدتي واكتشاف طرابلس.
كان الشباب الليبي (ولا زلتُ أظنه كذلك) يحب إجراء تعديلات، أو موديفكات – جمع موديفكا، modification- فهو يبحث عن حلول لكل شيء، ولقلة عدد الركاب وجد سائق الإيفكو حلاً أيضاً، يحشر الركاب في الممر بين الصفيْن، ويجعل كماً مناسباً منهم يقفون في المساحة الفارغة بين كرسيه والباب، وفي الدرج الذي يركب منه الراكب. إنه يستفيد من كل فراغ، حتى وإن كان ذلك الفراغ كرسيه الشخصي، يمكنه أن يضيف شخصين ليجلسا على حافة الكرسي معه.
تشريح السائق
في السنة الأولى من دراستي الجامعية، كنتُ أركب حافلة العودة مع ستة إلى عشرة زملاء نجحنا في البقاء سوياً منذ المدرسة الثانوية، في الفصل الأول كنّا نخرج من آخر محاضرات الجامعة عند الساعة العاشرة ليلاً، أحياناً كنا نواجه صعوبة في الحصول على حافلة لتقلنا إلى تاجوراء، تقل حركة الحافلات بعد الثامنة مساءً في خط الجامعة، كنا نقف أحياناً لنصف ساعة أو يزيد لتقف لنا حافلة مليئة أصلاً، كنا نعلم أنّ قوتنا في تجمعنا، لأنّه من الصعوبة لأي سائق إيفكو أن يفوّت عشرة دنانير في رحلة واحدة.
أحد أولئك السائقين الذي كان يقف لنا، كان سائق ممتع، يضع موسيقى المرسكاوي المفضلة لي، وسيارة نظيفة، كان ماهراً رغم سرعته الفائقة في القيادة، لكنه كان، كما أذكر، يضع قنينة من خمرة البوخة بجانبه، أحياناً كنا نضحك عندما نختلس النظر له وهو يشرب منها. بعض أولئك السائقين استخدم الحافلة لنقل بضاعة أخرى غير الركاب، مخدرات وكحول يبيعها.
بهذا، ينظر لسائقي الإيفكو علاوة على تهورهم في القيادة وعدم احترامهم لقواعد المرور، على أنّهم “رديف”، الرديف بتسكين الراء هو خلف القبضايْ، وهم غالباً من أبناء الشوارع الذين يظن المجتمع المحيط بأنّهم لم يتلقوا التربية ولا التعليم المناسبين، هم متمردون بطبيعتهم، لا يحترمون أحداً. البعض كانوا يتمادون في إطلاق لفظ مجرمين عليهم.
الرديف بتسكين الراء هو خلف القبضايْ، وهم غالباً من أبناء الشوارع الذين يظن المجتمع المحيط بأنّهم لم يتلقوا التربية ولا التعليم المناسبين، هم متمردون بطبيعتهم، لا يحترمون أحداً. البعض كانوا يتمادون في إطلاق لفظ مجرمين عليهم
في العام 2018 تلقيت فيديو من صديق – للأسف لم أجد الفيديو-، يظهر فيه سائق إيفكو يركن حافلته بسرعة ليغلق الشارع الذي يقطنه، يخرج منها بسرعة، تظهر سيارة تابعة لإحدى الكتائب المسلحة مدججة برشاش، نزل مجموعة من الرجال المسلحين خلف السائق الذي اختفى من المشهد، عنون صاحب الفيديو حسب ما أذكر “سواق إيفكو يتاجر في الحشيش هارب في الهضبة الشرقية”.
الهضبة الشرقية، أحد أكبر الأحياء الشعبية في طرابلس، كان أجداد مجموعة من السكان يسكنون في بيوت الصفيح في عهد المملكة الليبية، هربوا من الفقر والصحراء وتجمعوا على أعتاب طرابلس، تمكنت حكومة الجماهيرية من تسكينهم في أحياء شعبية منتشرة في المدينة، تعد الهضبة واحدة من التجمعات الكبيرة للطبقة الفقيرة في المجتمع الليبي، الطبقة التي يخاف الكثيرون من الاعتراف بوجودها، فضلاً عن حجمها الكبير.
يعود سائقو الإيفكو إلى تلك الطبقات الفقيرة، تربوا وعاشوا في أحياء البقاء فيها يعتمد على مدى براعتك في النجاة بالأسلحة العقلية والجسدية، يحمل بعضهم صحبتهم أسلحة بيضاء خفيفة تُعرف بالـ بوخوصة. المعاناة في ليبيا لا توزع بالتساوي، لا قبل ثورة فبراير ولا حتى بعدها. انتهى بهم الحال لقيادة الحافلات الخطيرة بدلاً من الجريمة. نجحوا في أن يكوّنوا في غياب دور الدولة وسيلة للمواصلات يمكن الاعتماد عليها، لكن وصمة المجرم ظلت تطاردهم.
في فيديو نُشر عام 2008، يتضح كيف ينظر بعض أبناء البلاد لهم، عنون صاحب الفيديو جريمة قتل لسائق دهس شرطي مرور بسيارته بينما كان يقود مخموراً بسرعة وفي الطريق المعاكس. عنون الفيديو ” مافيات الإيفكو”.
لم أرى منذ سنوات أي حافلة تقف في محطة تاجوراء ولم تعد تضخ موسيقاها في الطريق وسط البلدة. مع تفاقم أزمة “النافطة/الديزل” في البلاد؛ فإن كانت أزمة البنزين مؤقتة إلا أنّ سائقي الشاحنات والحافلات يستمرون يومياً في الوقوف على محطات التعبئة منذ سنوات، أو يضطرون للشراء من السوق السوداء، حيث يتحول سعر لتر نافطة من 15 قرش (150 درهماً) إلى دينار.
توقفت خطوط سير كخط تاجوراء، لم يعد الأمر مجدياً. تحول البعض منهم للعمل مع الكتائب المسلحة المنتشرة في المدينة كما يفعل الكثير من أبناء البلاد، أعرف مهندسين وأطباء انضموا للكتائب المسلحة. هناك من يقول أنّ هيثم التاجوري، القائد السابق لقوة ثوار طرابلس، إحدى أكبر الكتائب المسلحة داخل العاصمة، كان “مجرد سواق إيفكو”.
هناك ظاهرة ليبية، أو ربما عالمية، للتنبيش في ماضي من يصعدون بسرعة في سلم الحياة، يسعى البعض ليذكرونهم بذلك الماضي البعيد تجريحاً لهم، فيذكرون عبد الله ناكر، رئيس حزب القمة بماضيه كفنّي لتصليح التلفزيونات، هل هذه المعلومات صحيحة؟ لا أعرف. ما يهم هنا، بالنسبة لي، هي الصورة النمطية لسائق الإيفكو.
تحوّل هيثم التاجوري لأيقونة التحول من الفقر إلى الثراء الفاحش بعد الثورة، تنتشر مجموعة صور لتحوله قبل وأثناء الثورة وبعد ذلك، يسعى بعضهم لربطه بقذارته السابقة كما يصفون، ينشرون صوراً لملابسه القديمة وشعره غير المهذب، ويرسمون صوراً كاريكاتيرية له داخل سيارة إيفكو، بينما ينعم الرجل بأغلى الماركات العالمية، صار الرجل يرتدي القوتشي والدولتشي قابانا والديور من كِمامة الوجه وحتى جواربه، ليظهر بأجمل حلة له سواء في الأماكن العامة أو الجبهات، بينما يقود سيارات المرسيدس بينز. كان جزءاً من الشعب وأصبح الحكومة، كل الحكومة.
والحكومة..
الضربة الأولى التي تلقاها قطاع المواصلات العامة في ليبيا لم يكن في عهد العقيد. خرج أحد الوزراء قبل ثورة الفاتح بسنوات بقرار ظنّه مدروساً، قرر التخلي عن أهم وسيلة للمواصلات في العهد الحديث: القطار. كان الوزير الليبي يشهد قوة تدفق النفط في البلاد، وقوة ورواج السيارات الاقتصادية، ففضل الانضمام للعهد الحديث بأن يوقف القطارات الإيطالية التي كانت تتحرك بين المدن الليبية لخمسين عاماً. وسهل بدلاً عن ذلك التجارة بالسيارات، ودفع بدعم المحروقات.
كانت الرؤية ناقصة، في بلد شاسع تتسع المسافات بين مدنه وقراه، ولا يعرف أبناء شعبه عن بعضهم شيئاً، ساهم توقف حركة القطارات في البلاد زيادة العزلة بين أبناء الشعب. ساهمت هذه الحركة ضد تطور المجتمع واندماجه.
في الفاتح من سبتمبر، تدفقت السيارات، وأبقى العهد الجديد على حافلات العهد القديم التي تسير في المدن، كانت حركة الحافلات تقل في القرى والبلدات المحيطة بالمدينة. أبي، أحد شباب تلك الفترة، أخبرني أنّه عندما يفوت موعد حافلة العودة إلى تاجوراء، كان لا يضيع وقتاً، يأخذ حافلة ذاهبة إلى وسط المدينة ويشاهد أفلاماً في السينما، حتى يأتي موعد حافلة أخرى ذاهبة إلى البلدة.
وإذا كانت حافلة الإيفكو في عهد الجماهيرية لا تتوقف عن الذهاب والعودة لتاجوراء، فإنّ المدن الليبية الأخرى لم تعرف هذه الحافلة، الإيفكو هي وسيلة المواصلات الطرابلسية، كما هي التاكسي “البيضاء والكحلة”. تنتشر في المدن الأخرى وسائل أخرى للمواصلات الجماعية والفردية، يستخدم المواطنون سياراتهم الخاصة لإيصال المسافرين، لا يمكن للراكب أن يعرف السائق المتفرغ لهذه المهمة، ما لم يؤشر له السائق بضوء سيارته الأمامي. غير ذلك، عليه الوقوف في الطريق ومحاولة توقيف السيارات حتى يحالفه الحظ.
لم يعط النظام الجماهيري الأهمية للمواصلات العامة، بعيداً عن محطة الحافلات بالظهرة (والتي توقفت بعد الثورة) والتي كانت مخصصة للمسافات الطويلة بين المدن، وبين ليبيا وتونس وبلدان أخرى. كان النظام يؤمن أنّ المركوب لسائقه، وانتاجه لحافلات الإيفكو، كان نوعاً من تخليه عن مسؤوليته حول هذه الوسيلة من المواصلات، بعد أن اكتشف أنّه ليس بإمكان كل الشعب أن يكون له مركوبه الخاص، فأنتجها ووزعها على من يمكنهم أن يقودوها ليتولوا المهمة بدلاً عنه، يتضح ذلك أكثر في عشوائية محطات وقوف الحافلات غير المجهزة.
لم يعط النظام الجماهيري الأهمية للمواصلات العامة، وكان يؤمن أنّ المركوب لسائقه، وانتاجه لحافلات الإيفكو، كان نوعاً من تخليه عن مسؤوليته حول هذه الوسيلة من المواصلات، بعد أن اكتشف أنّه ليس بإمكان كل الشعب أن يكون له مركوبه الخاص، فأنتجها ووزعها على من يمكنهم أن يقودوها ليتولوا المهمة بدلاً عنه
في بدايات الألفية الثالثة، كان أبي يأخذني إلى مزرعتنا، هذا يعني أننا كنا نمر بطريق المصانع، مصنع الإلكترونات الذي يجمِّع أجهزة التلفاز ويعيد تسويقها تحت العلامة التجارية ” قاريونس”، كما يجمع أجهزة الاستريو والراديو المنزلية وللسيارات وحاسوب الفاتح، بعد ذلك نمر بمصنع الأعلاف، مصنع الإطارات ومصنع شركة الشاحنات والحافلات.
هناك أكثر من إصدار لحافلة الإيفكو الشهيرة، أولها كانت في 1996 وآخرها كانت في 2006، هناك اختلاف بسيط بين الإصداريْن، استمرت الشركة بتجميع إصدار 2006 حتى ثورة فبراير، توقفت الشركة بعد ذلك ولم تنتج حتى اليوم تلك الحافلات، بعض الحافلات وخصوصاً المنتجة في عام 1996 توقفت عن العمل.
بعد أن نمر من طريق المصانع وندخل الطريق الريفية، كنتُ أشاهد صرحاً جديداً تبنيه الدولة أمامنا، أخبرني أبي أنّه يوماً ما سيكون هناك قطار يمر من فوق ذلك الصرح، أحببت هذه الفكرة، لم أركب قبل ذلك قطاراً في حياتي، وتخيلت كل ما مررنا به القطار الذي سأركبه مسافراً بين مدن وقرى البلاد.
كانت الدولة الليبية وبعد الإعلان عن مشروع ليبيا الغد -وقبل ذلك-، تعد العدة “للنهوض” من جديد بالبلاد، انتشرت محطات للحافلات دون حافلات، وأعلن عن خطة ميترو الأنفاق في مدينة طرابلس كمرحلة أولية، وبدأت الدولة بالفعل بتوريد مجموعة من القطارات الحديثة، تمططت السنوات ولم ينجز من تلك المشاريع الضخمة أي شيء، كان مسار العمل بطيئاً، وانفجرت الثورة وتوقف كل شيء.
ليبيا هي إحدى الدول المتقدمة في نسبة حوادث السيارات وحالات الوفاة من هذه الحوادث، بالنسبة لشعبها الصغير، تقول تقارير للحكومة أنّ عدد الوفيات من حوادث السيارات في السنوات الأخيرة فاق عدد الوفيات من الصراعات المسلحة
اليوم وبعد عشرين عاماً من بناء الصرح في الطريق إلى مزرعتنا، تخلت الحكومات المتلاحقة عن حل أزمة المواصلات في البلاد، تظهر أحياناً واعدة الشعب بمشاريع عملاقة والعمل على حلحلة مشاكل المواصلات والتعاقد مع شركات أجنبية، يصور الوزراء والمسؤولون صوراً لاجتماعات له علاقة بحل أزمة المواصلات ومن ثم ينسون الأمر، هم يبيعون الوهم للناس كما باعوه قبلهم. ترك الفراغ الإداري للتجار الفرصة في تزويد السوق بكافة أشكال السيارات، ارتفع عدد السيارات في البلاد، سيارات حديثة وجديدة وسيارات أخرى عفى عنها الزمن.
يخبرني صديقي الذي تخلى عن الهندسة مثلي، واتجه لتجارة السيارات، أنّه يشتري سيارات شبه ميتة من السوق الأمريكية، سيارات تركها أصحابها لعطل فيها أو لأنّها لم تعد صالحة للاستخدام، يشتري بأبخس الأثمان ويعمل على تصليحها وإعادة إحيائها، ومن ثم بيعها، يخبرني صديقي بأنّه يتأكد من السيارة التي يشتريها ليست متضررة بالكامل. وإن كان صديقي يملك نيّة حسنة، إلا أنّ الكثيرون يفعلون مثله، بعضهم يشتري السيارات ويستوردها وهي مهدمة وربما قتلت صاحبها قبل أن تموت للأبد.
ليبيا، إحدى الدول المتقدمة في نسبة حوادث السيارات وحالات الوفاة من هذه الحوادث، بالنسبة لشعبها الصغير، تقول تقارير للحكومة أنّ عدد الوفيات من حوادث السيارات في السنوات الأخيرة فاق عدد الوفيات من الصراعات المسلحة، رقم مخيف. الآن يمكن للمرء أن يشتري سيارة بما يساوي مئتيْن أو ثلاثمئة دولار، رقم صغير، والنتيجة سيارة رخيصة وجاهزة للموت.
والركاب..
أعود الآن لتحليل شيء ذكرته في المقال سابقاً، قلتُ أنّ خط الإيفكو لتاجوراء قد توقف، الآن، لستُ متأكداً من هذه المعلومة، ولكن أمراً ما قد تجلى لي وقد عدت للتو من رحلة ميترو في إسطنبول حيث أسكن، فبعد آخر مرة ركبت فيها تلك الحافلة في 2012، قلّ التحامي بالمجتمع المحيط.
إنّ السيارة، رغم كونها حلم للكثيرين، تعمل على عزلك على المجتمع المحيط بك، خصوصاً عندما تكون وسيلة تنقلك الوحيدة، أنا لا أمشي في شوارع طرابلس إلا ما نذر، وحتى مشوار المخبز الذي لا يبعد عنا إلا أمتار، أشغل السيارة لأجله، عززت السيارة عزلتي ووحدتي. وأظن أنها فعلت ذلك بالكثير من أبناء الشعب الذين يتخذونها وسيلتهم الوحيدة للتنقل.
ما تمحنه لك الحافلة ووسائل المواصلات العامة الأخرى، هو زيادة التحامك بالمجتمع المحيط بك، معرفتك لأحواله، اهتماماته، كيف يلبس، ما الذي يفكر به أحياناً، تمكنك أيضاً من معرفة قصص الحب والإجرام والثورة والإذعان.
ما تمحنه لك الحافلة ووسائل المواصلات العامة الأخرى، هو زيادة التحامك بالمجتمع المحيط بك، معرفتك لأحواله، اهتماماته، كيف يلبس، ما الذي يفكر به أحياناً، تمكنك أيضاً من معرفة قصص الحب والإجرام والثورة والإذعان
تخبرني زوجتي، عن قريبة لها، كانت تركب الإيفكو كل يوم، وفي يوم جلست صحبة فتاة، أخبرتها المرأة أنها أحبت “شالها”، قالت لها الفتاة أنه ملكها إن أرادت، وحلفت لها أن تذهب معها لمنزلها لتعطيها إياه، بعد ذلك، عرفت المرأة أن الفتاة من بنغازي، وصارت صديقتها. هكذا، بهذه السهولة.
بالطبع ليست كل القصص التي تحدث في الإيفكو جميلة، البعض يتعرض للسرقة داخل الحافلة من السائق كما حدثني صديق الذي “فتح السواق البوخوصة” عليه يأمره أن يترك هاتفه وأمواله وينزل، بعد أن كان آخر الراكبين في الحافلة، لكن تبقى قصص، قصص لتلاحم الشعب ومعرفته بعضه البعض.
أنا لستُ من محبي النوستالجيا، أحاول دائماً أن أكون محايداً اتجاه مشاعري للماضي، إلا أنّ شريحة مناسبة من الليبيين محبوسة بالحنين إلى الماضي، بعضهم محبوس بالحنين إلى الفاشست، البعض الآخر مسكون بالحنين إلى ” الزمن الجميل”، زمن المملكة الليبية. والبعض بالطبع، يرى الحنين للجماهيرية.
يتجلى هذا الحنين في وسائل المواصلات أيضاً، الكثيرون يحنون إلى أيام كان سائق الحافلة موظفاً لدى الدولة، يرتدي بدلته الرسمية ويمشي بهدوء بين المحطات، يتغزلون بتذكرة الحافلة ويحفظونها في صناديق ذكرياتهم ويتذكرون كل تفصيلة فيها، ويعشقون “النسرافة”، الاسم الشعبي للحافلة العامة.
البعض يبكي على ما تبقى من آثار القطارات الإيطالية التي تتوقف على مزارع النبيذ. والبعض يتمسك بالبيجو 506 ذات الركاب الإثني عشر، التاكسي الجماعي الذي مات في بداية الألفية. وحتى قبل أن تموت الإيفكو، أرى أحياناً من يتغزل بتلك الأيام ويصفها بكوميديا ساحرة.
أنا لستُ من محبي النوستالجيا، أحاول دائماً أن أكون محايداً اتجاه مشاعري للماضي، إلا أنّ شريحة مناسبة من الليبيين محبوسة بالحنين إلى الماضي، بعضهم محبوس بالحنين إلى الفاشست، البعض الآخر مسكون بالحنين إلى ” الزمن الجميل”، زمن المملكة الليبية. والبعض بالطبع، يرى الحنين للجماهيرية
اليوم وفي مدينة طرابلس فقط، تنتشر حافلات شركة “السهم” الخاصة، تصف الشركة الحافلات على أنّها مساهمة منها في الرفع بسوق المواصلات العامة، حافلات كبيرة وواسعة ونظيفة وجميلة، تواجه هذه الحافلات مشاكل في البنى التحتية وأزمة زحام غير طبيعية، مما يجعلها وسيلة غير عملية للكثيرين، لازال هناك من يفضل سرعة الإيفكو خفيفة الوزن داخل المدينة، على الركوب في حافلة ثقيلة يحترم سائقها السائقين من حوله وقواعد المرور.
تمكنتُ في النهاية من ركوب القطار، كان ذلك في أوكتوبر 2017 في تونس، تعرفت بعد ذلك على العديد من وسائل المواصلات حول العالم، التاكسي الجماعي في تونس الذي يذكرني بالإيفكو رغم صغر حجمه، الترام التونسي والترامافوي التركي، حافلات ودراجات وقطارات هولندا، الميترو باص والميترو في إسطنبول، والماتاتو في نايروبي “حافلة الاحتفالات” المتطورة عن إيفكو.
ولكن… لم تنجح في تكوين وجداني، كما فعلت الإيفكو عندما تقترب من مكان وقوفي بمحطة تاجوراء، ترتفع موسيقي المروكي فيها، ينظرُ لي السائق، يخبره البوليطايْ “خمسة وسبعين قرش في الطريق”، يعرف من حقيبتي أنني طالب جامعي، يفرح، يرفع السائق يده عالياً بينما يمسك عجلة القيادة بيده الأخرى، يقبض اليد المرتفعة كأنّه يهتف” الفاتح أبداً”.