في السادسة صباحاً يصحو قبل الجميع، يأخذ دشاً بارداً سريعاً مهما كانت حرارة الطقس صيفاً شتاءً، يرتدي ملابسه ويلقي نظرة أخيرة على الزوجة والأولاد قبل الانطلاق. أثناء النزول على درجات السلم التي تفصل شقته بالدور الثاني عن الشارع تتحرك يداه بآلية حول جيب القميص وجيوب البنطلون للتأكد من وجود أدوية مرض السكري بالإضافة لهاتفه وسجائره ومفاتيحه وحافظة نقوده. ذلك المرض الذي قرر مرافقته منذ عامين بعد بلوغه الخامسة والأربعين، بخلاف الربو الشعبي صديق العمر والذي ذاق مرارة بخّاخاته – طفلاً- قبل أن يذوق للحياة نفسها أي طعم.
للوهلة الأولى عندما ترى ممدوح يونس يبيع بضاعته في الطريق لا تستطيع التعرف على المركبة التي يستخدمها للتنقل، هل هي عربة، توكتوك، موتوسيكل، تروسيكل؟ لتدرك بعد الاقتراب والتمعن أنها قد تكون مزيجاً بين كل ما سبق، قام بتعديلها مع الوقت لتلائم احتياجات عمله، موتوسيكل قوي ليتحمل الكيلومترات الطويلة التي يقضيها ماشياً من بداية النهار حتى قرب منتصف الليل عبر الأحياء المختلفة للمدينة.
والأمر ليس في السير فقط لكن الحمولة أيضاً، يسحب هذا الموتوسيكل بخلاف راكبه صندوق مكشوف من الصفيح المقوى به صفائح بلاستيكية ضخمة تحوي الأنواع المختلفة للمنظفات المنزلية. قام يونس بتزويد الصندوق بأربع قوائم معدنية في أطرافه الأربعة ليغطيه بملاءة قماشية تحاول جاهدة مع طاقية يعتمرها حماية رأسه، ومنظفاته، من وهج شمسي لا يرحم.
قسم الدعاية والإعلان الخاص بهذا العمل يتمثل في ميكروفون صغير، تم توصيله ببطارية الموتوسيكل، يخبرك أن بائع المنظفات/قاتل الفيروسات قد وصل للمنطقة التي تسكن بها وعلى وشك المرور بشارعك، ومع اقترابه تستوضح جيداً الأنواع المختلفة التي يبيعها اليوم إضافة لأسعارها، كقائمة أنواع وأسعار صوتية موجزة ومختصرة وتفصيلية في آن.
“كيلو الصابون السائل تلاته جنيه، كيلو الكلور الخام تلاته جنيه، داوني خمسه جنيه، معطر جو خمسه جنيه، برسيل جل سته جنيه، ديتول سته جنيه، فنيك سته جنيه، كلوروكس ألوان سبعه جنيه، عجينة غسيل السجاد سبعه جنيه، عجينة النمل والصراصير سبعه جنيه، كيلو الصابون السائل..”.
في ظل المنافسة الشرسة في المجال هناك من يعتمد تسجيلاً صوتياً مُعَد سلفاً يقوم بتشغيله، لكن يونس يرفض استخدام التسجيلات المُسبقة وله في ذلك أسباب. يخبرك بابتسامة ماكرة في البداية أن النساء تنجذبن لصوته الخشن مما يزيد فرصه في التغلب على المنافسين، ثم يشرح سببه الحقيقي أن الميكروفون والنداء الحي يمنحه المرونة الكافية والمصداقية اللازمة مع زبائنه، لأن تجارته كأي تجارة هي بورصة في الأساس، مُعرَضة لتحريك الأسعار بالزيادة والنقصان حسب العرض والطلب.
كما أنه لا يبيع كل الأنواع كل يوم، إذ قد ينقص صنف أو اثنين تبعاً لنقصه من السوق أي مصانع الكيماويات التي يشتري منها المنتجات بالجملة أو لعدم كفاية سيولته المالية الشخصية لتوفير الأنواع كلها.
مسارات أولى متعثّرة
لم يولد ممدوح يونس لأب بائع للمنظفات كما يبدو من تمكنه من أدوات عمله، فممدوح مواليد بنها (45 كم شمال القاهرة) بمحافظة الغربية الزراعية بالأساس. والده كان يعمل بالمعمار في محافظة الفيوم ريفية الطابع أيضاً، نزح مع من نزحوا للمدينة الساحلية البترولية أملاً في حياة أفضل عندما كان عمر ممدوح وقتها –الابن الثاني بعد طفلة تكبره بعام- أربع سنوات.
كان تخصص الأب تحديداً في السقالات، وهي تلك الهياكل الخشبية ومؤخراً المعدنية أيضاً والتي يتم تركيبها على واجهة المباني بعد الانتهاء من البناء وقبل البدء في التشطيب والدهان، وبعد زيادة عدد الأبناء والذي وصل إلى الرقم ثلاثة عشر في نهاية المطاف لم يجد الأب بداً من سحب ممدوح أكبر الذكور معه إلى العمل في سن المدرسة.
فكان الطفل ذو السنوات الستة يذهب إلى المدرسة مع أقرانه في الصباح حتى نهاية اليوم الدراسي فلا يعود مثلهم إلى منزله لتحصيل الدروس أو اللعب أو تناول وجبة الغداء مع العائلة أو أيا ما كانوا يفعلونه، بل كان يتوجه مباشرة للعمل المرهق حتى آخر النهار.
وإذا كانت الدراسة بالفترة المسائية والتي تبدأ في الثانية بعد الظهر ويستيقظ فيها التلاميذ غالباً في الحادية عشر صباحاً أو بعد ذلك كان الأب القاسي يصب الماء البارد على رأس طفله الصغير في تمام السادسة ويجره جراً للعمل، قد يكون لتلك الذكريات القاسية علاقة مباشرة أو غير مباشرة بميعاد صحو ممدوح الحالي والدش البارد الذي يتلقاه بمجرد الصحو، من يدري! علماء نفس وسلوكيات الأطفال بلا شك سيكونون أكثر إلماماً.
لا يسير ممدوح يونس بمركبته الخاصة بشكل عشوائي، إنما وفقاً لخط سير يومي دقيق، مسافة طويلة لكنها عبر الشوارع الداخلية لأحياء/ضواحي المدينة الجديدة، والتي لم تكن سوى ظهير صحراوي لمحافظة السويس (140 كلم غرب القاهرة) منذ سنوات عشر.
بعد قرابة الساعات الأربع يتوقف لتناول إفطار سريع لازم لتناول دواء السكري، رغيف من الخبز وعدة قطع من الجبن المثلثات تفي تماماً بالغرض. بينما يتناول إفطاره يرى الصبية يلعبون بالكرة في الشارع. فيتذكر حبه الأول، كرة القدم، التي ظهرت مهارته بها في المدرسة فنصحه مدرس التربية الرياضية بالتقديم في أحد الأندية بل وأرسله رفقة توصية خاصة لأحد أصدقاؤه الذي كان يعمل مدرباً لنادي “بورتوفيق” وقتها.
بورتوفيق هي أرقى أحياء محافظة السويس على الإطلاق، والمعروفة بإطلالها على قناة السويس إضافة لشوارعها الواسعة الهادئة المشجرة وفيلاتها المميزة المطلية بالأحمر والأخضر الخاصة بسكن العاملين بهيئة قناة السويس.
بدأ ممدوح تدريباته سراً وكان يهرب من المدرسة والعمل لحضور التدريبات، لكن هيئته الرثة وقدومه للتمرين بملابس العمل المغطاة بالرمل والأسمنت دفعت رواد النادي للضغط على المدرب لعدم ضم ممدوح كلاعب أساسي بالفريق. مما جعل المدرب يقوم بالاستغناء عن مهارته البالغة بنصحه للذهاب إلى نادٍ آخر بسبب وجود وفرة من اللاعبين في نفس مركزه –ظهير أيسر- ليقوم ممدوح يونس بالانضمام لنادي “فيصل”، ويحاول قدر إمكانه الانتظام في التدريبات لعدة أشهر.
قبل إمضائه عقد الانضمام لفريق الكرة الأول تحت ستة عشر عام يعلم أباه بالأمر عن طريق أحد إخوته، فيقوم بإنهاء الحلم تماماً عن طريق “علقة” تعذيب قاسية، مستخدماً فيها السلك الخاص بجهاز الراديو، لا تزال بعض آثارها بجسده إلى الآن. إضافة للآثار الأخرى المتعلقة بعلقة إنهاء حلمه الثاني الخاص بالتمثيل وتقليد الفنانين، والذي اكتشفه فيه أحد معلميه ووعده باصطحابه للقاهرة فور إنهائه لدبلوم التجارة، ليتكرر السيناريو الأول مع الاختلاف في بعض التفاصيل/الجروح الصغيرة.
“الضرب مكانش ضرب عقاب، كان ضرب انتقام، تعذيب، مع إني كنت بلعب رياضة يعني مش بشرب مخدرات ولا بعاكس بنات، اللي حسيته وقتها من نظرة عينه انه مش بيعمل كده عشان مصلحتي، هو كان غضبان بسبب صورته اللي اتهزت قدام الكل لما عرفوا أني بعمل حاجة ومخبيها عليه”.
استغلال الأزمة
حركة ممدوح يونس بالشوارع الداخلية للضواحي جعلت منه مكسباً مزدوجاً في أوقات حظر التجوال مع بداية الإعلان عن ظهور وتفشي فيروس الكورونا بمصر، لأنه أصبح يقدم الخدمة لسكان تلك المناطق على مدار اليوم دون حاجتهم للتنقل الصعب أو شبه المستحيل.
ولأن مصائب قوم عند قوم فوائد، كان من المفترض أن تعود جائحة الكوفيد 19 العالمية على ممدوح يونس بمكاسب طائلة، تعوّض الركود الذي أصاب تجارته في الشهور السابقة للوباء العالمي، لكن الريح تأتي على عكس إرادة السفن، ليعصف الوضع الاقتصادي الضاغط بأحلام الرجل الذي ظن أن المواطنين سيظلون مواظبين على محاولاتهم البائسة لقتل الفيروس.
بدأت أسعار المنظفات المنزلية –وخاصة الكلور- في الارتفاع، وفي أسبوع واحد يتضاعف السعر الذي كان بائع الجملة يعامله به لثلاث مرات، وعندما يرفض ممدوح يخبره التاجر بأن يحافظ على الكمية التي يملكها ولا يبيعها لأن السعر سيعاود الارتفاع وحينها يمكنه البيع وسيحقق مكسباً أكبر بكثير.
لم يكن يونس يرغب في استغلال الأزمة كما فعل الكثيرون وقتها، كان يبحث عن تاجر آخر يحافظ من خلاله على محاولاته لتثبيت السعر الذي يبيع به مع الحصول على هامش للربح يكفيه للحصول على قوت يومه، يجد مصنعاً يبيع بضاعته بسعر أقل من التاجر الأول لكن هامش ربحه ظل مهدداً ولابد من رفع السعر، وبينما هو في تلك الحيرة يعرض عليه أحد التجار فكرة التصنيع.
” الحركة بركة، وأنا من صغري معرفتش الراحة، فتلاقيني مش متعود عليها“
لم يتخيل ممدوح يونس نفسه سوى في الحركة، فبإمكان الرجل المقترب من الخمسينات تأجير محل صغير لبيع بضاعته، كيف يقبل الركود وهو السائر في المدينة، في البداية في اتجاه رأسي عندما كان يعمل مع والده في المعمار وتركيب السقالات ثم حاليا في اتجاه أفقي بائعاً وموزعاً للمنظفات.
حتى في حياته الشخصية -وكأن مفهوم الاستقرار لديه مختلفاً عما نظن- ثلاث زيجات متعاقبة في أقل من عشرين عاماً، الأولى سبع سنوات كاملة قضاها رغبة في طفل، دار خلالها في متاهات بلا مخرج على أطباء النساء والتوليد في السويس ومحافظته الأم الفيوم والقاهرة والإسكندرية والمنصورة والزقازيق والاسماعيلية، على الشيوخ والقساوسة والدجالين والنصابين وأصحاب الوصفات المجربة وغير المجربة ومعامل التحاليل التي تخبره بعدم وجود مانع يمنعه أو يمنع زوجته من الإنجاب، لتنتهي الرحلة المرهقة بلا طفل وبزوجة لا تطيق الحياة بلا إنجاب.
ترحل رفيقة العمر الأولى لأهلها وتطلب أبغض حلال الله الطلاق ويخضع ممدوح يونس لأبغض تجارب البشر، الفراق.
بداية التصنيع
بعد مرور شهرين يبدأ زواجه الثاني ويتم الحمل في الشهور الأولى وقبل عيد الزواج الثاني تظهر على “يونس” طفله الأول أعراضاً غريبة، ويبدأ رحلة الدوران على الأطباء من جديد ليس من أجل الحصول على طفل هذه المرة، لكن لمحاولة إنقاذ الرضيع ذو العام والأشهر الثلاثة من النزيف المتكرر والبراز الدموي والبقع الزرقاء المنتشرة في الجسم ونوبات الحمى التي تكاد تفتك بجسمه الغض.
“تكسر في الصفائح الدموية” هذا كل ما كان يحصل عليه ممدوح يونس من تشخيص، إنقاذ مؤقت دون علاج نهائي. أدوية توصف للتعايش مع المرض لكنها تفشل. تبدأ رحلة جديدة مع فلذة الكبد من أقرب طبيب مروراً بطوارئ مستشفى السويس العام وعنايتها المركزة وصولاً لقسم الأطفال بـ مستشفى “الدمردراش” بالعاصمة.
تفاوتت مدد حجز الطفل بالعناية المركزة حتى يتحسّن ويمكنه العودة للمنزل والمتابعة بالأدوية من يوم إلى شهرٍ كامل بالمرة الواحدة.
كانت مدة تعليق أحد المحاليل له عشرين ساعة كاملة، يتم تنقيط المحلول له عبر إبرة مغروسة في ذراعه لساعتين ثم يتم فصلها وتسليم الطفل لمرافقه لتهدئته واللعب معه لمدة ربع ساعة ثم العودة لتوصيله للمحلول مرة أخرى، وبينما يعاني يونس ووالداه ويصل لسن الرابعة يصل إلى الحياة “أحمد” والذي يتم اكتشاف حالته المطابقة لأخيه بعد ثلاثة أشهر فقط من الولادة.
التصنيع لم يكن يعني أن ممدوح يونس سيقوم بالأمر من الصفر، هو فقط سيقوم باختصار خطوة من الخطوات، هكذا اقترح عليه “الشيخ سيد” مؤذن الجامع والتاجر الكبير المعروف بمجال المنظفات، بدلاً من شراء الصابون والكلور والديتول والمعطر بسعر الجملة وإعادة بيعها بسعر القطاعي. سيقوم الشيخ السيد بتعليمه كيف يقوم بمزج المكونات معاً للحصول على المنتجات وبيعها.
هكذا عبر اختصار خطوة وفي ظل ارتفاع الأسعار سيتمكن ممدوح من رفع هامش الربح لتعويض الخسائر، واستمرار بل وازدهار التجارة وتوسيعها على حد قول الشيخ.
وبالفعل بدأ ممدوح عن طريق عشرين ألفاً من الجنيهات طلبها الشيخ ثمناً للخامات واقترضها يونس من إحدى شقيقاته على وعد بردها خلال شهر. كمية كبيرة من المواد الكيميائية اضطر ممدوح لتأجير شقة في الدور الأرضي بنفس العمارة التي يسكن بها لتخزينها.
كان الأمر مرهقاً، الرحلة اليومية للبيع ثم طوال الليل في المزج والتصنيع ولم يتحقق أي ربح إضافي كافي لتزويد العمالة. وبعد أيام من العمل المتواصل يغيب التركيز للحظة عن الرجل أثناء الهبوط السريع لدرجات السلم بفعل عدم انتظام النوم والأكل وتناول جرعات أدوية السكري، فيسقط على السلم لتنكسر ساقه، يجبسها له طبيب العظام ويأمره بالراحة التامة لأسبوع على الأقل، لكن هل يسمح وضع ممدوح يونس بذلك؟
في صباح اليوم التالي يتحرك ممدوح يونس حاملا بضاعته على مركبته المميزة بالإضافة لزوجته الحالية/الثالثة، ينادي باستخدام الميكروفون كما يفعل، وتعبئ زوجته المنظفات للزبائن. تناول من يقترب من العربة بضاعته وتستلم نقوده.
تقفز من العربة لأخذ الأموال ووضع البضائع عندما تكون طريقة التعامل عن طريق “السَبَت”، وهو الوعاء المُدلى من الأدوار العليا بحبل سميك، تُنزل فيه ربات البيوت المال وتستلم فيه المنظفات أو أي بضائع تشتريها من باعة الشارع، يُستخدم بالأساس لتسهيل واختصار الحركة وزاد نشاطه مؤخراً لتقليل التلامس وتفعيل التباعد الاجتماعي.
شهر كامل على هذا الحال حتى انتهت الخامات والمنتجات المُصنعة تماماً، ليجد ممدوح المحصلة الكاملة –وليس صافي المكسب-في النهاية عشرة آلاف جنية فقط، ليصاب باكتئاب حاد ويبقى في المنزل خمسة أيام بلا عمل تاركاً ذقنه بلا حلاقة رافضاً تناول أياً من أدويته، مما دفع زوجته للاستنجاد بشقيقته التي تستقبل بكاءه في حضنها كطفل كان يكتم فيضاناً من الغضب.
تطمئنه الأخت بأنها لا تستعجله على رد الدين في الموعد المتفق عليه لكنه يصر على إعطائها الآلاف العشرة ويطلب منها تقسيط الباقي فتوافق. يهدأ ممدوح قليلاً ويستجمع قواه ويتواصل مع بعض الباعة والتجار للوقوف على حقيقة ما حدث.
يدرك ممدوح يونس أنه تعرض لخديعة متقنة، وأن الشيخ سيد كان واحداً من تجار الأزمة مثل الكثيرين الذين انخرطوا في صناعة وبيع الكمامات المقلدة التي تضر صاحبها بشكل أكبر من حمايته، وأنه قد قام بتوريد الخامات إليه بأكثر من ضعف ثمنها.
أوهمه ممدوح أنه يرغب في مزيد من البضاعة وذهب إليه وقام بالتشاجر معه وفضحه أمام بيته، لكنه-بالطبع- لم يتمكن من استرداد قرش واحد من ماله الذي أضيف إلى ثروة الشيخ لأن التعاملات بينهما لم تكن تتضمن ورقة رسمية واحدة لضمان الحق، والقانون لا يحمي المغفلين ولا الضعفاء ولا أصحاب الحق.
الأيام الأخيرة في حياة يونس
لم تكن صدمة مرض أحمد كبيرة بالرغم من قسوة أعراضه بالمقارنة مع يونس، فالولد الأصغر كان يعاني نوبات متكررة من القيء الدموي والنزيف القوي من الأنف الذي إذا تمت محاولات إيقافه يصعد للخروج من العين، نفس الحالة بأعراض أقوى ولا تشخيص سوى التكسّر بالصفائح الدموية والذي يعتبر عرضاً أكثر من كونه مرضاً، عرضاً قاسياً مع أعراض أخرى تتضمن تضخماً بالطحال وأنيميا شديدة.
لم تمنع أي من هذه الأعراض يونس من الالتحاق بالمدرسة، وبالرغم من كونه يقضي بها أسبوعاً مقابل أسبوعين بالعناية المركزة إلا أنه كان طالباً متفوقاً، يحصد أعلى الدرجات ويتم تكريمه عدة مرات كأول على فصله وأحد الخمسة الأوائل على مستوى مدرسته ككل.
ومع بداية النصف/الترم الثاني من الصف الثاني الابتدائي عاد يونس من المدرسة باكياً لأن كل أقرانه قد تم تسليمهم الكتب إلاه وقد أخبره مدير المدرسة أمام الفصل بأكمله أنه سيستلم الكتب عندما يقوم والده بدفع المصروفات، إما ذلك أو لا كتب. يونس يحب الدراسة والأب ينتحب قلبه بلا دموع ظاهرة، فقط ابتسامة في وجه الطفل وحضن طويل وطمأنة بأنه سيذهب معه صباح الغد لدفع المصروفات واستلام الكتب، لا يملك ممدوح يونس في ذلك اليوم بجيبه سوى حق طعام اليوم وليس طعام الغد.
لم تشغل ممدوح مصطلحات مثل “ضرورة القيام ببحث اجتماعي” أو تثنيه عن مهمته التي جاء من أجلها.
“تعمل بحث متعملش بحث، تعمل جمعية، إن شالله تعمل اجتماع مجلس وزرا، كل ده مش مشكلتي، اعتبروني مجنون، مش بسمع ولا بشوف ولا بفهم حاجة غير الكتب، كتب ابني يا ناس، ابني بيموت كل يوم بين إيديا ومفيش كلمة على لسانه غير الكتب، كتب إبني حرام عليكم“.
لم يشغله سوى دموع طفله المريض، بعد شد وجذب، كر وفر، ذوق وقلة ذوق وقلة أدب وصياح وصريخ خرج ممدوح يونس لطفله بالكتب بالفعل، والتي لم يتركها يونس من بين يديه سواء كان بالبيت أو المدرسة أو حتى سرير المستشفى الذي قضى به أغلب عامه الدراسي، والذي أنهاه بتفوق بالغ بترتيب الأول على المدرسة.
تمر عشرة أيام بعد ظهور نتيجة الاختبارات، ينام يونس ممدوح يونس ليحلم بالنجاح والتفوق الدائم الذي سيمكنه من الالتحاق بكلية الطب، حلمه الكبير الذي سيمكنه من اكتشاف علاج لمرضه لتخفيف المعاناة عن الأطفال مثله، يحلم يونس، ويحلم، ويستمر في الحلم، لأنه لم يتمكن من الصحو في صباح اليوم التالي.
أحلامٌ بسيطة
الأحداث السياسية الأخيرة والاضطراب الذي يشهده الشارع المصري والدعوة للتظاهر بسبتمبر 2020، بعد عام واحد من تظاهرات سبتمبر 2019 والتي شهدت حركة اعتقالات واسعة تجاوزت الأربعة آلاف معتقل حسب العديد من الجمعيات الحقوقية، تجعل بائعاً مثل ممدوح يونس يطيل بقاءه في البيت أكثر من المعتاد. وبالرغم من أن مساراته الروتينية لا تخرج عن حيز الشوارع الأكثر داخلية للضواحي الأبعد عن المركز، إلا أن الاحتياطات الأمنية هذا العام بالمدينة الأكثر شغباً ومقاومة على مرّ تاريخ الجمهورية صارت أكثر كثافة و أشد قبضة. كل مائة متر تقريباً بمركز المدينة والأحياء الأكثر حيوية تتمركز بها إحدى النقاط الأمنية المشتركة بين الجيش والشرطة والمرور.
رخصة القيادة وترخيص سير “التروسيكل” الخاصتان بصاحبنا منتهيتان منذ أكثر من عام، وكان الرسوم الخاصة برخصة القيادة الشخصية والترخيص الخاص بالمركبات قد رُفِعت لعدة أضعاف منذ شهرين، ليصل إجمالي ما يمكن دفعه لحالة مثل حالة ممدوح يونس لتجديد الترخيص لمدة عام واحد فقط ما يتجاوز الآلاف الخمسة.
في حين أنه كان يقوم بالتجديد لمدة ثلاث سنوات بأقل من ربع هذا المبلغ، فأي ربح يومي يساوي تكلفة سحب رخصتيه؟، بالإضافة إلى اضطراره إلى التجديد الذي يحاول تسويفه وتجنبه منذ أشهر والذي قد يعادل بعد إضافة غرامات التأخير إلى مكسبه الصافي في ستة أشهر كاملة.
بعد وفاة الابن الأكبر ليونس بعام ومع عدم استقرار حالة أحمد بالمقارنة بأخيه، وبعد ترك أم يونس للبيت لعدم احتمالها الوضع ككل وبعد زواج ممدوح بالثالثة والتي تمتلك طفلتين من زواج سابق، طلبت منه استشارية الأطفال بمستشفى الدمرداش إحضار أحمد لأخذ بعض العينات الخاصة لتسفيرها لألمانيا في بروتوكول طبي مشترك.
“زهقت خلاص وبدأت أصدق إن العلاج مفيش منه فايدة، وكنت مقرر إن دي آخر مرة هودي أحمد فيها مستشفيات، لأن حالته كانت أصعب من يونس، وصرفت عليه كل اللي معايا واستلفت من طوب الأرض وف الآخر قابل وجه كريم، أنا مؤمن بالله وعارف إن ده عمره، بس حقيقي زهقت وتعبت“.
وبالفعل بعد ثلاثة أشهر تظهر نتائج التحاليل ليحصل ممدوح يونس لأول مرة على تشخيص لحالة ولديه، يونس المتوفى وأحمد المصارع للمرض، متلازمة “ويسكوت ألدريك “، والتي تصيب –حسب منظمة الصحة العالمية- طفلاً كل أربعة ملايين طفل، ليحصل ممدوح يونس على نصيبين في الثمانية مليون.
يتم تغيير منهاج العلاج الذي كان متبعاً مع يونس ليحصل أحمد على زراعة للخلايا الجذعية، إزالة للطحال، نقل دوري للدم المعالج بالإشعاع مع المسكنات القوية والمضادات الحيوية المستوردة والتي اعتمد ممدوح على إحضارها بجهود المتبرعين لعدم توافرها في مستشفيات التأمين الصحي.
يستمر ممدوح يونس في تقديم خدمته/تجارته بشكل يومي، من المصنع لباب البيت بسعر أقل من نصف سعر بيع نفس المنظفات بالسوبر ماركت، ولا يعلم ماذا يفعل لتدبير مصروفات المدرسة لأحمد الذي استقرت حالته بشكل نسبي في سن العاشرة –نفس عمر وفاة يونس- ولابنتي زوجته اللتين تشتركان مع أحمد في عدم القدرة على القراءة والكتابة بالرغم من كونهما في الصف الثاني والسادس الابتدائي.
يرسلهم الثلاثة لمُعلمة قريبة من المنزل يدفع لها أربعمائة وخمسين جنيها بالشهر أملاً في الحصول على أي قدر من التعليم للثلاثة، و الذي لم يتمكنوا من الحصول عليه في المدارس الحكومية والتي تضاعفت مصروفاتها لهذا العام لثلاثة أضعاف.
لا يحلم ممدوح يونس سوى بسداد ديونه وعدم اللجوء للاقتراض ثانية، وأن يمر اليوم، فقط يمر دون أن يلجأ لإدخال أحمد إحدى العنايات المركزة أو أن يسافر به للقاهرة في عربة إسعاف. يمرّر الأيام سائراً ينادي على بضاعته في شوارع المدينة، يأتي لك ببضاعته من الكحول والفنيك والصابون والكلور والديتول بسعر زهيد وجودة معقولة، دون أن تفارق وجهه ابتسامة الرضا.